الأديب الضرير عبد اللطيف الحديدي الأزهري
د. علي زين العابدين الحسيني | كاتب وباحث وناثر أزهري
أثار فضولي ذلك الرجل الضرير الذي كنتُ أراه متنقلاً بين المكتبات لشراء الكتب والاطلاع على مستجداتها، كان دائماً ما يصطحبه أحدٌ في هذه التنقلات، لقد شذ هذا الرجل عن جميع مَن أعرفهم في نهمة النشر والمداومة على زيارة المكتبات، فيكاد يكون الأمر يومياً، وهو أمرٌ عادة غير مألوف.
كنتُ ألمح هذا الرجل، فأقترب لسماع كلامه حينما يخاطبه الباعة، وإذا لسانه عربي فصيح، ولغته راقية لا يكاد يتكلم بعامية، وتزيدك الحيرة حينما تشاهده وهو يقلب صفحات الكتاب، ويحنو عليه ويضمه إلى صدره كأنه ولده، وكم تمنيتُ لو اكتشفتُ هوية هذا الرجل، فلابد أنه عالم كبير، أو أديب مغمور، أو عاشق من عشاق الكتب.
كان هذا الوقت إبان دراستي في الجامعة الأزهرية في سنتها الأولى لي، ومن فضله سبحانه عليّ أن كانت الشوارع المحيطة بالكليات عامرة بصنوف المكتبات، وكنتُ في مغداي ومراحي أمر بهذه المكتبات للاطلاع على شتى المطبوعات، لا ما تتوهمه من قدرتي على الشراء؛ إذ كنتُ ساعتها لا أقدر إلا على الاستعارة، وإنما أكتفي في زيارتي بقراءة العناوين لا غير.
كنتُ أمر بهذا الرجل، أو يمر بي وعلامة استفهام تنتصب أمامي، وتزيد رؤيتي له يوماً بعد يوم شوقاً لمعرفة صاحب هذه الهمة العالية، وكان لقاء هذا الشيخ البصير بقلبه في المكتبات فرصة للتعارف بين عالم أديب وطالب مثلي لم يكن يضيع فرصة في التعرف على هؤلاء الكبار، وبسبب تواتر هذه اللقاءات المكتبية تشجعت ذات مرة وسألته عن أبرز الكتب اللغوية التي تكون الطالب في المجال الأدبي، ولعلي من خلال عناوين الكتب التي كان يشتريها اكتشفت أنه أديب ولغوي مولع بهما.
عرفت خلال الحديث أن مصاحبي في الرحلات المكتبية أستاذٌ للأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية، إنه العلامة الأديب عبد اللطيف بن محمد السيد الحديدي الأزهري، وبدوره عرف اسمي، ولاحظ -فيما قاله لي- اجتهادي.
منذ ذلك اللقاء والتعرف عليه عن قرب قابلته في مجالس متعددة في مكتبه بكلية اللغة العربية، وفي بعض المناقشات لحملة الماجستير أو الدكتوراه، وفي المكتبات التي لم ينقطع عنها لآخر عمره، وأظن أنه يمتلك مكتبة حافلة بأمهات الكتب في مختلف الفنون، وفي جميع هذه اللقاءات كان الكتاب هو رفيقنا، وحديثنا في الأدب والكتب.
كانت اهتمامات شيخنا الحديدي موسوعية، فهو يقرأ في كل شيء، يقرأ في تخصصه الدقيق، ويقرأ في الفقه والحديث، بل ويقرأ في التاريخ والفلسفة، وفي الأدب الغربي، ويطالع الروايات وفنون القصص، وغيرها من أنواع المعارف والعلوم.
لا أعرف شيئاً عن سيرته الذاتية؛ إذ لم أكن مهتما وقتها بأخذ تراجم العلماء ومن أقابلهم من المشاهير والأعيان لحداثة سني، الأمر الذي تندمت عليه كثيراً فيما بعد، وكنت أؤمل الحصول على ترجمته في كتاب “جمهرة أعلام الأزهر الشريف في القرنيين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين” لحضرة أستاذنا العلامة أسامة السيد الأزهري إلا أنني لم أظفر بها، ولعل عذره أن شيخنا الحديدي من علماء الأقاليم الأخفياء.
لأستاذنا كثيرٌ من المؤلفات في مجال الأدب، وكانت مقررة على طلابه في كلية اللغة العربية، وقد أعياني البحث بسبب كثرتها، فمنها: الطابع البدوي في شعر الكاظمي، والسرقات الشعرية بين الآمدي والجرجاني، والشعراء النقاد في العصرين الجاهلي والإسلامي، وظاهرة المحافظة في الشعر الجاهلي، والخصومة بين القدماء والمحدثين في العصر العباسي الأول، ونظرات في وساطة القاضي الجرجاني، وصورة المرأة في مسرح توفيق الحكيم، وقراءة نقدية في نجديات الأبيوردي، وبين الأنا والآخر في مدحيات المتنبي، والهمس في نقد الدكتور محمد مندور، وغيرها كثير.
لقد كان الحديدي رجلاً تجسدت فيه محبة الكتب وعشق الأدب، واتسع قلبه لمودات حميمة مع زملائه وتلاميذه، وفي ليلة من الليالي مات الحديدي كغيره من الأدباء وأرباب المعرفة دون أن يكون لموته صدى، فقد علمت بوفاته عن طريق الصدفة بعد تبادل حديث طويل مع أحد عارفيه.
وإن كان من أسف فالأول أني لم أدون سيرته العطرة التي أجزم أنها مثال حي لعالم أزهري أصيل كان يجب أن يكون محل تقدير واهتمام أكثر، والآخر أنه لم يأخذ حقه من التكريم، وقلّ أن يشار إليه كواحدٍ من أعلام الأدب والنقد وعاشق للكتب من الطراز الأول.
طالعتُ المواقع الأدبية وغيرها بعد معرفتي بوفاته غير مرة لعلي أظفر بشيء من أخباره أو شيء من سيرته أو خبرٍ عن وفاته يكون نعاه به أحد طلابه لكن دون جدوى، وأرجو في كتابتي هذا المقال أن أكون قد نوهت على شيء من أفضاله وما أكثرها وما أعظمها، كما أشيرُ إلى طلبة الأدب وعاشقي النقد على ضرورة دراسة كتب هذا الناقد الأديب الذي كان سخي اليد والروح.