جَمِّل كلامك بالقرآن ( 5 )
أ. د/ هدى مصطفى محمد| أستاذ المناهج وطرق التدريس – كلية التربية – جامعة سوهاج
هناك بعض العبارات والأقوال التي نجد أنفسنا نرددها في بعض المواقف، وهذه الأقوال قد تكون أمثالاَ شعبية، أو أقوالاُ مأثورة والأجمل أن تكون آيات قرآنية أو أحاديث نبوية. وترديدنا لهذه الأقوال يأتي في سياقات لغوية مختلفة، ويأتي دائماً لتدعيم ما نقول بأدلة واستشهادات . ونأمل دائماً أن نكون موفقين في اختياراتنا لهذه الأدلة، لتكون مناسبة للسياق، ولعل أول طرق التوفيق هو التعرف إلى المعاني الصحيحة لهذه الأدلة وسياقاتها أو مناسباتها.
ومن هنا جاء هذا الطرح للآيات القرآنية التي يكثر استخدامها في أحاديثنا وكتاباتنا لنتعرف سياقاتها أو مناسبة نزولها وفي هذا إعادة نظر للحكم على صحة استخدامنا إياها، فقد يتحقق تصحيح فهم لدى البعض، وكذلك إدراك لمدى ما نستخدمه من القرآن في أحاديثنا وقد تكون بداية للإكثار من ذلك فنجمل أحاديثنا بالقرآن، كما أن معرفة المعاني ستزيد من إدراكنا لكثير من السور التي نقرأها وبذلك يتحقق عنصر من عناصر التلاوة الشرعية وهو التدبر في معاني ما نقرأ ، ولعل الفهم لبعض الآيات ييسر التلاوة ويحببنا فيها ويعين على الحفظ لمن أراد؛ فالفهم من العوامل المهمة التي تساعد على حفظ القرآن والارتباط به.
ونستكمل ما بدأنا من قبل ومعنا آيات اليوم من سورة الأنعام: قال تعالى: “وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” الأنعام / 17
تحمل الآية إخبارًا بأن الله مالك الضر والنفع، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فلا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ونزلت هذه الآية عندما خوف المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم بإصابته بالأذى والشر، ففي الآية تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم على عدم الخشية من بأس المشركين وتهديدهم ووعيدهم ووعده بحصول الخير من أثر رضا ربه وحده.
ويصح هنا التنويه بأن الضار لم يثبت أنه من أسماء الله تعالى؛ فالحديث الوارد فيه ضعيف. ولكن لإيصال الضرر بمن شاء من عباده المشار إليه في هذه الآية فهي صفة له جل وعلا، والصفات أعم وأوسع من الأسماء وهي ليست من الصفات التي تقال بمفردها، بل يقال النافع الضار معاً أما قول النافع فقط فلابأس. قال تعالى: “وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ” الأنعام / 32
هنا تذكير للناس بأن الحياة الدنيا زائلة، وأن عليهم الاستعداد للحياة الآخرة، وبذلك فالآية دعوة إلى الإيمان والتقوى، والحكم في الآية عام على جنس الحياة الدنيا، واللعب هو أي عمل أو قول فيه خفة وسرعة وطيش وليست له غاية مفيدة ، بل غايته راحة البال وتقصير الوقت، أما اللهو فهوما يشتغل به الانسان مما ترتاح له نفسه ولا يتعب في الاشتغال به عقله فهو يطلق على ما فيه استمتاع ولذة وملاءمة للشهوة.
والقصر هنا (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ) قصر موصوف على صفة، والموصوف هنا الحياة ويراد بها الأعمال التي يحب الإنسان الحياة من أجلها، وهذا قصر إدعائي يقصد به المبالغة لأن الأعمال في الحياة كثيرة ومنها اللهو واللعب.
فالحياة فيها ما هو ملائم وما هو مؤلم وهذه الآية تشير ما يحب الإنسان الحياة من أجله وهو الملائم، ولا تشير إلى المؤلم. وأعمال المتقين في الآية ضد اللعب واللهو.
يشيع استخدام هذه الآية كدعوة للتخفيف عن النفس والاستمتاع بالحياة ونادراً ما نجد من يقصد القصر العام للحياة على اللهو واللعب وهذا يتماشى والمعنى الصحيح للآية.
قال تعالى:”كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة” الأنعام/ 54 أي أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً، والرحمة هنا عامة لتشمل غفران الذنب ممن عمل ذنباً، ثم تاب وأصلح .
واستخدامنا لهذه الآية يأتي على المعنى الصحيح وهو أن الله رحيم بعباده كأعظم وأجل ما تكون الرحمة. قال تعالى: “وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ” الأنعام / 59
مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمهم إلا الله “إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ” لقمان/ 34
وتقديم الظرف (عنده) يفيد الاختصاص أي عنده لا عند غيره، والعندية هنا عامة وليس عندية المكان, والغيب هو ما غاب على علم الناس فلا سبيل لهم إلى علمه، ومفاتح الغيب يعم كل المغيبات لأن علمها كلها خاص به تعالى، أما الأمور التي لها أمارات مثل الأنواء أو الأمراض عند الطبيب فتلك ليست من الغيب بل من أمور الشهادة الغامضة وغموضها متفاوت والناس متفاوتون في التوصل إليها ومعرفتهم بها.
واستخدامنا لهذه الآية يأتي على المعنى الصحيح. قال تعالى: “وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ” الأنعام / 142
أي طريقه كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله أي من الثمار والزواج افتراء على الله، وهنا نهي عن شؤون الشرك فإن أول خطوات الشيطان في هذا الغرض هو تسويله لهم بتحريم بعض ما رزقهم الله على أنفسهم، وجاء تعليل النهي فقال تعالى ” إنه لكم عدو مبين “.
نادراً ما يعي بعضنا أن أول خطوات اتباع الشيطان بتحريم بعض الرزق الحلال من الثمرات ، فالشيطان كثيراً ما يسول للإنسان الامتناع عن بعض المأكولات الحلال، وهنا يصح الانتباه إلى عدم الامتثال لهذا الأمر وهو من الأمور التي ينبغي أن نوضحها لأبنائنا فلا يقعون في تحريم ما أحل الله من الرزق تحت أي مسمى فهي فهذا من خطوات الشيطان. قال تعالى: “وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ” الأنعام / 152
الأمر هنا بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد ، فالأمر بالعدل في كل وقت وكل حال.
وهذا جامع كل المعاملات بين الناس بواسطة الكلام وهي الشهادة، والقضاء والتعديل والتجريح، والصلح بين الناس والأخبار المخبرة عن صفات الأشياء في المعاملات.
والعدل في ذلك يكون بعد الاعتداء على الحقوق بإبطالها أو إخفائها، مثل كتمان عيوب المبيع والكذب في الأثمان، وفي التعليق بأداة الشرط “إذا” إشارة إلى أن المرء في سعة من السكوت إذا خشي قول العدل، أما أن يقول الجور والظلم والباطل فليس له سبيل إلى ذلك، وقوله “ولو كان” واو الحال ولو وصلية تفيد المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظن السامع عدم شموله الحكم ،
واستخدامنا لهذه الآية يأتي على المعنى الصحيح وهو العدل مع الجميع مهما كانت درجة القرابة. قال تعالى: “مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ” الأنعام / 160
جاء بالحسنة أي عمل الحسنة، وهنا شبه عمل الحسنة بحال المكتسب إذ يخرج بطلب الرزق
وأمثال الحسنة ثواب أمثالها، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله “فلا يجزى إلا مثلها” .
والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضل من الله، وهو جزاء غالب الحسنات وقد زد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها إلى سبعمائة ضعف كما قال تعالى “مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء” البقرة / 261″ أما جزاء السيئة فجاء بصيغة الحصر لأجل مافي صيغته من تقديم جانب النفي .وقوله وهم لا يظلمون الضمير يعود ‘لى من جاء بالسيئة إظهاراً للعدل.
أما الشائع فترديد هذه الآية في عموم الحسنات وهذا خطأ فهي في الغالب وليس العموم فقد جاءت آيات أخرى لتخص ثواب الحسنة بغير ذلك، كما أنه يشيع الفهم بعودة الضمير في قوله تعالى وهم لا يظلمون على المحسن والمسيء وهذا خطأ فالله تعالى يعامل المسئ بالعدل فلا يظلمه، أما المحسن فيعامله بالفضل فيزيد من أجره. قال تعالى : “وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ” الأنعام / 164
هنا إخبار عن يوم القيامة في الجزاء والحكم والعدل في كل نفس، فمن جاءت بالخير فخير ، وإن شراً فشر، وهذا القول تكملة لمعنى قوله تعالى “وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ” فكما أن ما تكسبه النفس لا يتعدى منه شيء إلى غيرها ، كذلك لا تحمل نفس عن نفس شيئاً أي كل نفس تزر وزر نفسها . وكما قال تعالى ” كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ” المدثر /38، فكل نفس مرتهنة بعملها .
ويأتي فهمنا واستدلالنا بهذه الآية بالمعنى الصحيح. قال تعالى: “وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ” الأنعام / 165
أي فارق بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان وله حكمة في ذلك وهو أن يختبركم في الي أنعم به عليكم وامتحنكم به؛ ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره.
ما يشيع استخدام هذه الآية في التفاوت بالمفاضلة في الصفات الحسنة والمزايا، ولكن المعنى المراد هنا التفاوت في كل الأمور الحسن والسيئ فقد ترتفع درجة الفقير بصبره عن الغني بعدم شكره، فهنا يقال بأن الفقر رفع درجة صاحبه ، ونقول ” ما ابتلاك إلا ليرفعك “.
وللحديث بقية ،،