عَلَّمَتْنِي آيةٌ
عبد الله جمعة | ناقد وشاعر مصري يقيم في الإسكندرية
“وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)” [فاطر]
أَلَا فاعلمْ أيُّها المذعورُ موتًا ، أَنَّكَ قد اعتمدتَ العِلْمَ غايةً فما وَقَاكَ بل زادَكَ رُعبًا ، فاعلمِ الآنَ أنَّ العِلْمَ وَسِيلَةٌ تَبْلُغُ بها الغايةَ ، و الغايةُ اللهُ ؛ فَهَبْ أنَّكَ أردتَ ماءً في صحراءَ . فإذا أتَيتَ بأسبابِ الحَفرِ و أَعمَلْتَها حتىٰ بلغتَ الماء تركتَها و عَكَفتَ على الماءِ تعتاشُ ، ذلك العلمُ هو الأسبابُ و ذلك الماءُ هو اللهُ ؛ فإنَّكَ تحفرُ في ذلك العالمِ بالعِلْمِ لتبلغَ ما حَكَمَ اللهُ به عليك ؛ ألا و هو خشيتُه و الارتكان عليه و التدرُّعَ به ، فإن بلغتَ الله أوقفِ العِلْمَ ؛ فلن يكونَ السَّبَبُ غناءً عن المُسَبِّبِ و إن صَعَدتَ بعلمِكَ أبراجَ السَّماء .
فانْظُرْ و اعتبر بأولئك الذين استغنوا بالسَّبَبِ عنِ المُسَبِّبِ و مكثوا في ديارهم تعزفُ لهم شرطتُهُم فيتراقصون في النَّوَافِذِ مُستَغنينَ عن خالقِ الدَّاءِ مُتَدَرِّعِينَ بالدَّواءِ أَ أغناهم ذلك شيئًا … و أولئكَ الجاهلون الذينَ يَصِمُونَا بالجَهْلِ لأننا تَدَرَّعنا بالمُسَبِّبِ بعدَ أن اجتزْنَا الأسبابَ نقولُ لهم : لقد وقفتُم عند الأسبابَ ثم عجزتُم أن تجتازوها و اغتررتُمْ بها و أمَّا نحنُ فقد سبقناكم إلى مُسَبِّبِ تلك الأسباب ، فمن مِنَّا الأنقصُ علمًا …
أَلَا فانُظرْ إلى قوله عَزَّ مَنْ قالَ :
“وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)” [فاطر]
فابتَدَأَها بقوله (إِنَّمَا) و ما حَمَلَتْ من قَصْرٍ و حَصْرٍ للخشية عندَ العُلَماءِ ثُمَّ أخذَتْ بالعلماء و ما احتملوا من عِلْمٍ إلى قصرِ و حصرِ غايتهم الكُبْرىٰ عندَ الخشية من الله …
و بابُ الخشية أوسعُ من بابِ الخوف ؛ فإنَّ الخائفَ إنما يخاف من مجهولٍ لا يعلمه و أمَّا الخاشي فإنما يخاف من معلوم يعلمُه ، ثم إنَّ الخائف لا يملك أداة إزالة خوفه و أمَّا الخاشي فهو مالكُها ، ثم إنَّ الخائف مرعوبٌ و الخاشي مرهوبٌ و شَتَّان بينهما ، فالمرعوب ضالٌّ تائهٌ لا يلتمس طريق النجاة و أمَّا المرهوب مُهْتَدٍ يرىٰ طريقَ نجاته يريدُ أن يبلُغَه ، ثُمَّ إنَّ المرعوبَ نافِرٌ مِمَّن يُرعبُه غير آملٍ فيه و المرهوب خاشع لمن يُرهِبُه آمِلٌ فيه ، فإنَّكَ – المُتَدَرِّعَ السببَ – مرعوبٌ و إنَّا – المُتَدَرِّعينَ المُسَبِّبَ – مرهوبون … و شتَّان .
و قد تقدَّمَ المُسَبِّبُ – المَفعُولَ – على مُحدِثِ السَّبَبِ – العلماءَ – إنَّما لبيان أهمية المُسَبِّبِ و وضعِهِ موضعَ الغاية و تأخير السببِ المُمْتَثِلِ في العلماء لبيانِ أنه الوسيلة .
أَلَا فانظر الآن الفرقَ بيننا و بينَك ؛ أحدُنا وقفَ عندَ السبب و تَدَرَّعَ به و آخَرُنَا اجتازَ السببَ و بلغ الغاية عندَ المُسَبِّبِ حتى تَدَرَّعَ به ، فأيُّنَا الآنَ أخوفُ … لقد تَدَرَّعنا بالمُسَبِّبِ و وقفْنَا آمنين مُطْمَئِنّينَ أَلَّنْ يُصِيبَنا إلا ما كَتَبَه لنا و أنَّ لقاءَنا به لقاءُ رحمة و وقفتَ أنتَ مرعوبًا عندَ حدودِ ما بلغتَ من سببٍ ترتعش خشيةَ أن يعجَزَ سببُكَ عن حمايتِكَ مِمَّنْ سبقناكَ إليه – المُسَبِّبَ – فأمَّنَا و أمَّنَنَا …
لقد آنَ الأوانُ أن يَحصُدَ كُلٌّ منا ما لديه ثم إيَّاكَ أن تَتَّهِمَنا بالجهلِ و التخلُّفِ و قد سبقناكَ بالسببِ للمُسَبِّبِ خاشينَ مُطْمَئِنِّينَ مرهوبينَ ، و وقفتَ أنتَ عندَ حَدِّ السبب خائفًا مُرتَعِشًا مرعوبا .