رحلة الهروب!!
سمير السيد | مدير تحرير الأهرام
تبدو قصة حياتي، محاولات دائمة، للهروب من فكرة التملك.
شئ ما في أعماقي، يربطني بمروية في الأثر عن سيدنا إسماعيل، الذي لم يخدعه طول البقاء. فكان يرى أن الألف عام، التي عاشها، قصيرة لدرجة لا تستحق معها عناء تشييد بيت من حجر أو طين.
عشت خمسين عاما، مندهشا، من ثباتي، بينما أري أكثر من حولي، يهدرون عمرهم، في معارك لا تنتهي من أجل تملك الأسمنت والحديد، أو انتزاع اعتراف من الناس بالأفضلية.
لست بالضرورة على صواب، وربما توجد صيغة للحياة أكثر توازنا مما أعتقده. لكن هذا لم يغير قناعاتي، فما زلت غير مكترث بشئ، سوى إطعام أبنائي من عمل يدي.
مرت السنون، واقتربت الرحلة من نهايتها، ومع ذلك أواصل كالملايين، رحلة شقاء يومية من أجل لقمة عيش كريمة وكفى.
ما زلت أرى أن هذا العالم، مجرد صور خادعة، تحجب الإنسان، عن رؤية جذور انتمائه لوطن الروح، وعن اكتشاف طريق المعرفة الحقة بذاته.
فالدنيا في عقيدتي الراسخة، هي “بدروم الكون”، والنار “حجرة التفتيش” أو “الصرف الصحي”. والجسد، مجرد شبح، يحمل الروح، في رحلة مؤقتة إلى أرض الأوهام، قبل أن يعانقه الفناء.
في لحظة ما، سيعلن ملك الموت، سقوط دولة الأشباح، نهائيا، بانفصال الروح عن الجسد.
حينها، ستبتهج الأرض، بضم أجساد الظالمين، إلى حضنها الفاني، بينما تزف الملائكة، أرواح الصالحين إلى الفردوس الأعلى، كعرائس ملكية، تذهب إلى خدرها الأبدي.
لذلك، أنا لا أخشى الموت، أبدا. أنتظره، كطفل يتشوق لصباح العيد، حاضنا ملابسه الجديدة.
وعلى عكس أكثر الناس، أشعر منذ طفولتي، أنني لا أنتمي إلى هذا العالم الذي لا يعدو أن يكون مجرد ظلالا مراوغة للحقيقة.
يبدو كلامي لبعض من يراقب صخب بحثي عن التحقق المادي والمهني، متناقضا. لذلك اعتبر نفسي طول الوقت شخصا مضللا.
فكل هذا الصخب الظاهري، ليس سوى لحظات فوران عابرة، سرعان ما تنتهي، مع الحصول على شهادة براءة “الأخذ بالأسباب”، وعدم تعطيل الشريعة، لأذهب بعدها إلى خلوتى المحببة، دون أن تنزلق قدمي في الوحل.
والمدهش، أنني ما زلت أواصل رحلة الهروب.. أعيش على حافة الدنيا، طامعا أن ألقى الله، في نهاية الرحلة، بوجه نضر، ناظرا إليه في فرح، يمحو كل عذابات الروح، في سجنها الأرضي.