مقال

يذبحون أبناءهم

خالد رمضان| كاتب مصري- صلالة
قال الله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء﴾، وقال أمير الشعراء أحمد شوقي في همزيته:
فإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ
هذان في الدنيا هما الرحماءُ
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى
وفعلت ما لا تفعل الأنواءُ
وقد وصف الله تبارك وتعالى ذاته بالرحمة فقال: ﴿أنا الرَّحمنُ خلَقْتُ الرَّحِمَ وشقَقْتُ لها اسمًا مِن اسمي فمَن وصَلها وصَلْتُه ومَن قطَعها بَتَتُّه﴾، وفي أول ٱية من سورة الفاتحة “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِوأحبها في عباده الأتقياء الأنقياء محمودي السريرة أصفياء القلوب والنفوس، أما هؤلاء ومن نُزعت الرحمة من صدورهم فأقم عليهم مأتما وعويلا .
جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رجل، فدخل عليهما الحسن والحسين سبطا رسول الله فهش لهما، ثم قبلهما، فأنكر عليه الرجل، وقال يا رسول الله: إن لي عشرةً من الولد ما قبلتُ أحدهما، فقال له صلى الله عليه وسلم:  وماذا أملك لك وقد نزع الله الرحمة من قلبك؟
هذه الرحمة التي وُزّعت بين الخلائق ما هي إلا جزء من مئة جزء، ومنه يتراحم الناس حتى ترفع الدابة حافرها عن صغيرها مخافة أن تصيبه.
ومن صور الرحمة هذه الصورة البيضاء لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومع صلابته وشدته وبأسه لكن الرحمة كانت تغمره من مفرق رأسه وحتى أخمص قدميه. فقد جاءه رجل يدعى الزبرقان بن بدر شاكيا الحطيئة الشاعر الهجاء الذي قال فيه:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
حاول عمر تهدئته وحمل البيت على محمل حسن، ولكن الرجل كان واعيا، فطلب الاحتكام إلى حسان بن ثابت رضي الله عنه، وحينما جاء حسان شهد على الحطيئة وقال: هو لم يهجه بل سحل عليه، فأمر عمر بحبسه في قعر بئر معطلة .
كان الخطيئة أبًا لبنات ليس لهن من عائل سواه ، فأرسل إلى عمر أبياتا منها:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ
زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمرُ
فبكى عمر عند سماعه لهذه الأبيات، وكان بحضرته عمرو بن العاص، فقال: والله ما أقلت البلقاء، ولا أظلت السماء مثل عمر بن الخطاب، ثم أمر بإخراجه.
هذه هي الرحمة التي تسري في عروق الصالحين، تفيض حبا وحنانا ولينا والتئاما مع ذويهم، وغير ذويهم، حتى مع الدواب.
وهذه امرأة بغي سقت كلبا يلهث في الرمضاء، فأثاباها الله جنة عرضها الأرض والسماء.
أما أنتم أيها الجفاة الغلاظ، يا من اسودت قلوبكم غلا وحقدا وحسدا حتى باتت كالجحيم المستعر، لن تهنؤوا، ولن تُغبطوا لسوء فعالكم، وسواد سرائركم، فقد لفظتكم الأرض، وناصبتكم السماء العداء، وهنتم على الله فأرداكم، ولو علم في قلوبكم خيرا لأسمعكم، ولو أسمعكم لتوليتم وأنتم معرضون .
تأمل هؤلاء الذين تحدث القرآن الكريم عنهم فقال:”يذبحون أبناءهم” ولم يذبحوا رجالا أشداء، ولا جنودا أقوياء، إنما رضّعًا أبرياء . كيف يمسك هذا بالكسين ويضعه على رقبة رضيع لينة، ثم يحذُّها حذّا ؟! هل هؤلاء من البشر؟! أم إنهم شياطين شاهت وجوههم، ومحيت ضمائرهم؟
كان أحد الصالحين يوجه حماره بعود الأراك (السواك) مخافة أن يقتص منه الحمار يوم القيامة، وقد شكا الجمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه، فناداه وقال له صلى الله عليه وسلم: إنه يقول لي : إنك تذهبه وتجيئه.
إن هذه الوجوه المكفهرة التي تعلوها الغبرة، وسيرهقها الله من حميم جهنم قطرة ستصلى نارا حامية تسقى من عين ٱنية، ولن يكون لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع .
مثلهم مثل المرأة التي حبست الهرة، فلا أطعمتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض .
إن الٱيات وإن كانت نزلت في ٱل فرعون إلا إنها نماذج مكررة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وتلك القصص للعبرة والعظة.
هؤلاء السفاحون تجدهم في كل عصر وحين، ولكن في صور مختلفة، أثوابهم قشيبة، وألسنتهم تقطر شهدا محلى، وعسلا مصفى، فهم لا يحملون سكينا، ولا يذبحون مسكينا، إنما لكل منهم مهارته الخاصة في ذبح الٱخرين؛ فهذا يوشي بزميله في العمل حتى يكون سببا في قطع أرزاقه، وهذا يشنع بالشرفاء حتى يشوه صورتهم الجميلة، وتلك تحرض زوجة على زوجها حتى تهدم أسرتهما، وهذا يدّعي عليك ما ليس فيك، وهذا يكره خيرك، ويحسد ولدك.. إن هؤلاء الأوغاد هم حقا من يذبحون، ويقتلون، ويمزقون الغير إلى أشلاء، ويسوقون إليهم كل المحن والأرزاء. قد نزع الله الرحمة من قلوبهم، فكانوا أشبه بالكلاب البرّية التي تمزق الفريسة أشلاء وهي لا زالت على قيد الحياة .
أما نحن فلا حيلة لنا لننجوَ بأنفسنا من سكاكين هؤلاء القاتلة إلا التحصنُ بحبل الله المتين، وذكره العظيم، وكما تحدث القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام :” فالله ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 64]”
أترجو بالجراد صلاح أمر
وقد طُبع الجراد على الفسادِ
ولو نارا نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رمادِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى