العالم العربي وغياب الاتجاه الثالث
حواس محمود
بقليل من المتابعة والتمحيص في المشهد السياسي والفكري العربي يمكننا أن نجد تراوح الخطاب العربي بين اتجاهين لا ثالث لهما في التنظير والترويج لنمط الحكم القائم أو المنشود في العالم العربي، هذان الاتجاهان هما.
أولا :اتجاه يدعو ويؤيد تحت ذرائع وحجج شتى نمط الدكتاتورية والاستبداد القائم منذ فترة تزيد عن أربعين أو خمسين عاما على أثر الانقلابات العسكرية التي حدثت في تلك المرحلة من عمر الدولة العربية الناشئة
ثانيا: اتجاه يدعو إلى نمط الديمقراطية الغربية “المستوردة” التي استطاع الإعلام العربي وبفضل أخطاء الغرب والولايات المتحدة الأمريكية العديدة أن يساهم في تشويه صورته وإضعاف بريقه باعتباره نمطا مستوردا لايصلح للمجتمعات العربية، وجاء الحدث العراقي عام 2003 (سقوط النظام السابق) وما بعده حتى لحظتنا الراهنة ، والذي تراجعت فيه ومن خلاله المقولات الأمريكية بالترويج للديمقراطية الغربية ، وساهم في هذا التراجع أخطاء كثيرة حدثت، ولعل أبرز هذه الأخطاء فوقية الخطاب الأمريكي وعدم تلمس الواقع وتفهمه وإدراك تعقيداته وبخاصة في المنطقة العربية بوجود الصراع العربي الإسرائيلي و تأثيره المزمن على الموضوع الديمقراطي برمته.
ولكن ما يلفت الانتباه حقا أن القائمين على إنتاج الثقافة والفكر والإعلام من مثقفين وكتاب وباحثين وصحفيين ينخرطون (لأسباب عدة) في موجة الثقافة الإعلامية والشعبوية السطحية والساذجة والفاقدة للعمق الفكري والمعرفي، والتي لا ترى إلا نموذجين اثنين لنمط الحكم ، ويبتعدون عن الإتيان أو التنظير أو التبشير بنظرية ديمقراطية ذات طابع خلاصي إنقاذي للحالة العربية الراهنة، وتلبي الحاجات الأساسية للمواطن في المجتمعات العربية للحاق بركب الحضارة العالمية والدخول في العصر الحالي بقوة وتوازن وجدارة ، علما أن المواطن باتت الأمور لديه أقرب إلى حالة ضبابية بسبب الضجيج الأيديولوجي إذ أصبح كالتائه في البرية لا يدري أي اتجاه سيتخذ في المسير .
لقد انطلقت ثورات الربيع العربي في غير دولة عربية كان صوت المثقف فيها غائبا ، كانت الفئات الشعبية والشباب منهم بخاصة في طليعة الحراك الاحتجاجي العربي وبالرغم من عدم المساندة الغربية الحقيقية لثورات الربيع العربي وبخاصة في الحالة السورية وبرغم التدخلات الاقليمية المتعددة ايران وتركيا والدولية روسيا الا ان المسؤولية التاريخية تقع على عاتق المثقفين الذين كان أغلبيهم يقف في صف النظام قبل الثورة ، ولم يكن دوره فاعلا ومؤثرا بعد انطلاق الثورة ، فالمجتمعات لا يمكن تحريرها من التخلف والبؤس والخرافة والجهل والمرض ما لم يبادر المثقفون بحركة أشبه ما تكون بثورة ثقافية على غرار حركة التنويريين الفرنسيين في القرن الثامن عشر .(يحدد المؤرخون الفرنسيون بداية عصر التنوير بالفترة ما بين وفاة لويس الرابع عشر في فرنسا في عام 1715 واندلاع الثورة الفرنسية في عام -1789- التي أنهت نظام الحكم القديم، بينما يحددون نهاية هذا العصر مع بداية القرن التاسع عشر. نشر الفلاسفة والعلماء في تلك الحقبة أفكارهم على نطاق واسع من خلال إجراء اللقاءات العلمية في الأكاديميّات والمحافل الماسونية، والصالونات الأدبية، والمقاهي، ومن خلال الكتب المطبوعة والصحف والمنشورات. قوّضت أفكار عصر التنوير السلطة الملكية وسلطة الكنيسة، ومهدت الطريق أمام الثورات السياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. تعود مجموعة متنوعة من الحركات الفكرية في القرن التاسع عشر، بما في ذلك الليبرالية والحركة الكلاسيكية الحديثة، بأصولها الفكرية إلى عصر التنوير) ويكيبيديا الموسوعة الحرة – عصر التنوير –
وبذلك سيتشبع الشعب بثقافة ومعرفة وسيكتسبون وعيا متقدما قادرا على احداث تغيير ملموس في الواقع البائس الذي يعيشونه الان وعاشوه من قبل .
إن أقلاما قليلة جداً تحاول الخروج من النمطية الفكرية العربية ذات الطابع الثنائي المتضاد أبيض أو أسود في الفكر والثقافة والتحليل للواقع العربي الراهن .
فإذا كانت أنظمة القمع والإستبداد في العالم العربي ترى في الديمقراطية بضاعة مستوردة ولا تناسب الواقع العربي فلماذا البديل عن ذلك النمط هو النموذج الأسوأ ألا وهو الاستبداد الدكتاتورية ؟ .
وإذا كانت الديمقراطية الغربية تحمل الكثير من الفوقية والهيمنة والفرض فلماذا لا يتداعى الوطنيون والديمقراطيون العرب إلى محاولة البحث وإيجاد صيغة ديمقراطية عربية متلائمة ومناسبة للواقع ونابعة من الحالة الفاقعة التي تعيشها مجتمعاتنا من البؤس والفقر والفاقة والتهميش والبطالة والحرمان والقمع ونزوع الهجرة لدى ابنائها من بلدانها إلى دول الغرب التي يتم انتقادها والتهجم عليها ليل نهار؟ .. الخ من أمراض مجتمعات لم تستطع شق طريقها في نهر الحضارة والمدنية الحديثة.
يتساءل الدكتور علي الدين هلال، في كتابه الانتقال إلى الديمقراطية: “ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين، أن هناك قيمًا للديمقراطية، تنبه لها المهتمون بعلم السياسة، بعد اختيار الشعب الألماني للحزب النازي بقيادة هتلر، وهو حزب معادٍ للديمقراطية، وتوصلوا إلى أن العامل الرئيسي لهذا الوضع، هو غياب الثقافة السياسية، حيث أنه لا يمكن فرض نظام ديمقراطي، في بيئة تغيب لاتسود فيها الثقافة السياسية، حيث يصبح من اليسير الانقلاب على هذا النظام دون مقاومة. وانطلاقًا من هذه النتيجة، زاد الاهتمام بالثقافة السياسية، أو القيم السياسة، والمتمثلة في ثلاث قيم رئيسية وهي (التعددية، الحرية، والعدل)، والتي تمثل منظومة متكاملة ومرتبطة ببعضها البعض ”
هل يعقل أن تبقى الأمور على حالها ؟، لا بل تتدهور يوما بعد يوم ، ألا يرى المثقفون العرب ما يجري في بلدانهم من كوارث وأمراض وإبادات ومجاعات وهجرات (قوارب الموت)؟ ألم تتقطر قلوبهم حزنا وأسى وألما لغرق العشرات من مواطنيهم في بواخر الموت وتوحدوا في الهروب من واقعهم كما والرحيل إلى العالم الآخر رغم اختلاف دولهم، وهناك من لم يسعفهم الحظ في انتشال جثثهم إذ أضحت لقمة سائغة لحيتان وأسماك البحر .. ؟! الأسئلة كثيرة على منتجي الثقافة والفكر العربيين، والحالة الغير طبيعية تستدعي استنفارا فكريا كبيرا لكل قوى التقدم والديمقراطية والتنمية والعدالة في المجتمعات العربية، ولا يمكن لأي أمة أن تنهض إن لم تشحذ الهمم وتستنفر العقول وتتساند السواعد والزنود وتتضافر القوى والجهود الرامية لخير شعوبها وسعادتها.