رواية ” أسد أم جفيل الأعرج ” (16)
طارق المامون محمد | أديب وشاعر سوداني
في مساء هذا اليوم الحزين كانت جدتي سعيدة أيما سعادة بما حدث لبنت “نعمة” , و ككل مغرب أفرش الحصير و أستلقي راقدا أمام البيت جاءت تحمل إناء اللبن و هي تغني على غير عادتها فمنذ أن ولدت لم يحدث أن سمعت صوت جدتي و هي تغني غير قبل أيام طويلة خلت كانت تهدهد بنت خالتي المولودة , تحملها من أمها التي خرجت من نفاسها قريبا , قلت لها :
– البلد كلها حزينة و غاضبة من أجل سعدية و أنت فرحانة ..
طلبت مني أن أقوم بهب النار بغطاء علبة ألقته لي ليزيد اشتعالها تحت اللبن الذي وضعته فوقها. ريثما تعود بالعلبة التي تحمل حب الشاي و علبة السكر و أكواب الشاي ثم قالت لي من داخل بيتها :
– الباقي إثنين.
قلت لها و الدخان يكاد يبتلع وجهي :
– إثنان من ماذا ؟
قالت وهي قادمة تحمل أشياءها في صينية قديمة ..
– حادثان كبيران ربما يأخذان هذه البنت الى الأبد حادثان يشعلان النار في فؤاد نعمة يكون الأخير فيهما أقسى من الأول …
توقفت من هب النار و ألقيت بغطاء العلبة من يدي ووقفت:
– كيف ذلك يا جدتي ألا ترين أن الله يحب نعمة و بناتها …كل مصيبة تجعل الناس يزدادون تعلقا بها وتخرج منها سالمة معافاة…
أخذت قسطا من الشاي الأسود في كفها الأيمن و نثرته فوق إناء اللبن الموضوع تحت أثافي ثلاث من الحجارة ثم نفضت يدها فوق الإناء و حركت العود الذي تشتعل فيه النار يمنة و يسرى وقالت وهي تنفخ النار بفمها:
– ليس بعد الآن
و التفتت إلي : ليس بعد الآن
صدم قرار الضابط المدينة كلها إذ أن الحيثيات التي خرجت للناس لم تكن كلها مقنعة بحيث تؤدي الى حبسها ..و كيف تحبس الملائكة ؟؟؟ … وكان أكثر الناس حزنا بهذا القرار الضابط نفسه… و لكنه كما قال ينفذ أوامرالحكومة التي أمرت بذلك بخطاب مشفوع بختم آمر النيابة .. و لم يشفع للبنت الجميلة بكاء أمها و أخواتها و لا تضرع آبائها أو لجاجة أستاذ آدم الذي لم يدع حجة تقال يعرفها إلا وقالها أو شفاعة شيخ القرية … الذي جزم بأنهم سيخرجون من قريتهم إن عادت البنت معهم و إلا فلن يخرج أحد و لتذهب الحكومة الى ما وراء الشمس و لتحرق الغابة ولتأت الحكومة لترم بالقرية كلها في غيابة السجن ..و الناس يتابعون في الخارج مجريات الأمور وينظرون الى النقاش الحاد يسمعون بعضه و يكملون الباقي بما ملكوا من مقدرة على الخيال و يتغامزون ناقلين الى من وراءهم ما يدور … يمنعهم حرس المركز من الدخول لكنه لا يبخل أحيانا بتسريب بعض ما يدور بالداخل يحفظ بها علاقة بينه و بينهم .. و البنت التي يدور حولها الخصام واجمة تنظر الى ما يحدث بعين لا يعرف مراميها إلا من يعرف سعدية لم تنبس ببنت شفة باديا الهم و الخوف و التحدي على محياها … أمها بين حين و آخر تنظر إليها مطمئنة لها و تنظر مرة أخرى مجزعة لها تقوم وتحتضنها باكية ثم ترجع الى مقعدها … وتثور في القائد ثورة لا يصدها غير نهر “حاج الحسين” لها : يا مرة خلي الرجال يتكلموا خلينا نشوف المصيبة دي بحلوها كيف…
فتسكت على مضض وهي غير مقتنعة بتعقل الرجال في موقف أكثر ما يحتاجه هو عدم التعقل…
و “القائد” يجادل بالحسنى أحيانا و أحيانا يثور مبررا موقفه و أنه ليس صاحب القرار .. و نفسه تقول له كيف لصاحب قرار أن يحبس مثل هذا الحسن واضعا له بين اللصوص و القتلة و المجرمين ..يؤلمه قلبه حتى يكاد يهصره بيده ليخفف ألمه وهو يسترق النظر في خضم الجدال العنيف الى الملاك الذي قدر الله له أن يكون هو من يحبسه…. قامت “غبيشة” وهي تبكي و تقول لأبيها و للضابط القائد :
– أنا من قال للناس من أراد الزواج من “سعدية” فعليه أن يحضر الأسد و الجفيل … وليست “سعدية”..
نزلت دمعة من عين “القائد” قاومها فانتصرت عليه :
– لو أن هذا الأمر يحل القضية لقلت أنني من قال هذا و ليست أختك …
و في خرق واضح للقانون قال لهم :
– سأبقيها في بيتي مع زوجتي و بناتي بدلا من زنزانة المركز و أخصص لها من يحرسها ريثما نعد لها من ينقلها الى السجن فالقضية تستلزم أن تكون في السجن أثناء مجريات المحكمة . و سأكتب طلبا الى رئيس القضاء في “الأبيض” بأن يستثنيها لاعتبارات كثيرة منها انتفاء مسؤوليتها المباشرة في الذي حدث في الغابة … و أن أهل القرى يربطون خروجهم من قراهم بخروجها على أن توقع لي ذلك يا شيخ و سأذهب للمستشفيات استخرج من الجرحى شهادة بإخلاء مسؤوليتها من التسبب في إحداث الأذى الجسيم لهم …
حينها استيأس الوفد من محاولات إثناء الضابط من حبسها و ذلك بعد أن قال لهم أستاذ “آدم” بأن هذا هو أفضل ما يمكن أن يتحصل عليه من القائد واقترح أن يكون السعي مع الجهات العليا و أن يذهب وفد الى أعلى جهات الدولة وقد اقترح عليهم هذا الإقتراح القائد الذي أبدا تأثرا واضحا و انفعالا في صالحها لافتا…
و قبل “القائد” أن يستضيف معها أمها في بيته أو من يروه مناسبا و قال لهم إن هذه الإستضافة لن تطول فإجراءات التقاضي تقتضي أن تذهب الى سجن الإنتظار في أقرب وقت ممكن فعليهم الإسراع…
انشغلت المدينة انشغالا كبيرا بهذه القضية و أصبح لا شأن للمدينة غير الحديث عن الحكومة التي ألقت القبض على بنت بتهمة الجمال … و الذي صار مثار استعاذة منه كمضرب مثل للنعمة التي تتحول الى نقمة , فالنساء اللواتي حركت الغيرة قلوبهن أخذن في الترويج الى مثل هذا القول ليقنعن أصحابهن بأن القليل النافع خير من الكثير الضار فجمال معقول لا يجلب الأذى لصاحبه أفضل من جمال كثير يضر بصاحبه , و اشتهر “القائد” بموقفه النبيل الذي شاطرته معه المدينة كلها فما تكاد تمر ساعة زمن حتى يأتي من يطرق الباب حاملا صينية طعام أو طبق فاكهة أو إناء لبن أما ميسوري الحال فلم يتوانوا في إهداء خروف حنيذ يزيد حجمه مع زيادة مال مهديه و ما لبث بيت “القائد” أن امتلأ بالهدايا من هذه الشاكلة حتى أن “القائد” و أسرته أصبحوا يرفضون استقبال الهدايا لا لشيء غير أن البيت لا مكان به أو متسع لكل هذا الحجم من الهدايا و لكن المهدين يصرون بأن الهدية ليست لهم إنما هي للضيوف … و انبرى نفر من قادة المدينة بالتقدم بخطاب للمحكمة للإفراج عن البنت بضمان أشخاصهم , و بعضهم عرض فكرة ضمان مالي تقترحه الحكومة سيقومون بتسديده مهما علت قيمته… أما الجرحى فقد أرسلوا موفدا منهم يمثلهم ليعلنوا عفوهم التام و مسؤوليتهم الشخصية عن كل ماجرى لهم و أن لا دخل لهذه البنت بما أصابهم…
لم تنم “سعدية” طيلة الأيام الثلاثة التي قضتها في منزل القائد و لم تتناول طعاما , وقد حاولت معها أمها كثيرا لكي تقنعها بالنوم أو الأكل لكنها كانت تتأبى و ترفض و كانت تهز رأسها رافضة حتى مجرد الكلام … و قد حاولت زوجة القائد تطييب خاطرها و التسرية عنها بالحديث معها .. لكنها كانت تبتسم ثم تشيح بوجهها عنها … فشحب وجهها و ذوى ضوؤه و بريقه و هزل جسمها و أصاب قوتها خور و ضعف شديد …فأمر الطبيب بنقلها الى المستشفى … فأحضر القائد عربته و حملها هي و أمها و زوجته و حارسها الى هناك..وقد بدا التأثر عليه كثيرا بصورة لا تتناسب مع صرامة وجهه حتى يكاد المتفرس ينظر الى دمعة بعيدة تلمع في قعر عينه تكاد تفضح هذا الجزع …لكن حالتها لم تتحسن رغم العناية المكثفة التي أولتها لها المستشفى المتواضعة الإمكانيات فازداد شحوب “سعدية” و هزالها و لزمت صمتا طويلا و زهدا في الكلام , حتى الرد بعينيها الذي كانت تتجاوب به مع أمها أحيانا أصبحت لا تفعله …
و بعد نقاش طويل مع “القائد” قال الطبيب :
– البنت بهذه الطريقة ستموت إن لم تنقل و على وجه السرعة الى الخرطوم… و لكن الخرطوم ليست قريبة كذلك , تحتاج الى يومين أو ثلاثة أيام بالعربة الجيدة أما بالمواصلات فليس أٌقل من خمسة أيام بلياليها وهي عرضة في هذه المدة لمضاعفات تؤذيها إن لم تكن تحت عناية طبية.
و للمرة الأولى ينهار القائد رغم اجتهاده في التجلد:
– لن تموت لا يمكن أن تموت لن أكون سبب موتها … أنظر يا دكتور أرجو أن تجهز لي من يرافقها الى الخرطوم و سأتدبر أمر العربة..
– كيف ذلك لا يمكن أن تخرج هذه البنت من البلدة فهي رهن الإعتقال و أنت من يناط به حفظ النظام و تطبيق القانون…لن أتحمل مثل هذه المسؤولية..
قال بانفعال و قور…
– لا يمكن أن نسمح للموت أن يختطفها و نحن ننظر …
ثم خرج و عاد بعد ساعة و قال مخاطبا الطبيب:
– أين المرافق الذي سيذهب معها
و خرج ليحدث أمها بأنه سيأخذها الى الخرطوم فبقاؤها هنا لا معنى له غير أنهم يقتلونها بأيديهم..و أمر بإحضار والدها الذي اتخذ من ظل شجرة أمام باب المستشفى مكانا يجلس فيه في انتظار ما ستسفر عنه الأقدار … فلما حضر أبوها قال له:
– يا حاج “الحسين” يجب أن نأخذ ابنتك الى الخرطوم لتتعالج فبقاؤها هنا يعرضها لزيادة المرض و خطر الموت و أريدك و زوجتك أن تستعدا لتذهبا معها …و لا تخبرا أحدا بذلك…
احتج حاج “الحسين” بأن الذين جاؤوا معه لايمكن أن يتركهم دون أن يخبرهم فقد تركوا أشغالهم و أموالهم و أهلهم و راحتهم ليرافقوه كيف يذهب دون أن يخبرهم.
أسر له القائد قائلا:
– إن الذي أفعله مخالف للقانون و سيعرضني ذلك لمساءلة كبيرة و ربما أسجن بسببها … كل هذا لا يهم كثيرا قدر أن تعود “سعدية” الى سابق عهدها و نضارتها.. ونحن نسابق الزمن فحالتها تزداد سوءا …
لكن أبا “سعدية” أًصر على إشراك “شيخ القرية” و “أستاذ آدم” في الأمر دون أخوه و أخته فهذان قريبان سيتفهمان الأمر و بقية الذين لحقوا بهم … و بعد لأي وافق “القائد” على مشاورتهما … لكنهم رفضوا الفكرة تماما و قالوا لا قبل لهم بالخرطوم ومصاريفها فهم لا يعرفون فيها أحدا و البنت تحت رحمة الله يفعل بها ما يشاء وهم سيسلمون بأمر الله و قضائه و استقر رأي “حاج الحسين” على رأيهم… لم يجادلهم “القائد” طويلا , و خرج , ثم أرسل من يحمل أمر ترحيلها الى السجن و أخذها عنوة , رغم رفض الطبيب و بكاء أهلها و رجائهم , الذين أكثروا الإحتجاج فلم يسمع لهم الجنود , و رفعوها بمغذياتها الوريدية , و ركب معها الطبيب نفسه , بعد أن أخذ بعض الأدوية و المغذيات الوريدية في حقيبته , و حمل كيسا به ملابس تعوّد على إحضارها حين يكون عليه دور المبيت في المشفى , و ذهبوا بها الى مركز الشرطة لتكملة الإجراءت …فاستقبلهم “القائد” و أمرهم بإنزالها الى عربته , فلما فعلوا , ركب الطبيب معها وهو يحمل أدواته وقام بتعليق المغذي الوريدي في أعلى العربة من الداخل بشريط لاصق , عندها أمر “القائد” السائق بالتحرك الى السجن وسط دهشة صغارالضباط و الجنود فهذه المرة الأولى التي يفعل فيها “القائد” مثل هذا الفعل المخالف للإجراءات القانونية كلها , ثم أمر حارسها و “الطبيب” بالنزول فلبى الأول و رفض الثاني , الذي لم يجادله طويلا , و في الطريق أمر السائق بالنزول فنزل , و ساق هو و تحرك قليلا , ثم توجه بالحديث الى الطبيب :
– أنا ذاهب بها الى الخرطوم هل ستذهب معي؟
ضحك “الطبيب” كمن لم يتفاجأ و قال:
– هل تعلم عواقب ما تقوم به.
تبسم “القائد” و أخذ نفسا عميقا:
– الأمر كله بيد الله..
ضحك “الطبيب” :
– لست وحدك كلنا يقتلنا هواها …. توكل على الله…ما يريده الله سيكون.
و اتجه بالعربة الى الطريق المؤدية الى الخرطوم..
يتبع…..