علي عبد العظيم .. رجلُ المُستحيل !

 

صبري الموجي| رئيس التحرير التنفيذي لجريدة عالم الثقافة

لم تترُكه الحياةُ ينعم بدفء الأسرة وعطفِ الأب زمنا طويلا، إذ سرعان ما رحل أبوه تاركا وراءه زوجة فقيرة لم تنل أي قسطٍ من التعليم، لكنها كانت رجُلا بما تحملُه الكلمةُ من معاني الصبر والجلد، وتحملِ آلام الجوع والعطش؛ لتوفر لصغارها كِسرة الخبز وشربة الماء.

وبثبات يحسُدها عليه الرجال نادت الحاجة (سنية) ابنها عليا بعدما جففت دموع عينيها قائلة : مات أبوك يا علي، وترك لنا حملا تنوء بحمله الرجال، فلم يترُك لنا زرعا ولا ضرعا، فماذا أنت صانعٌ يا بني مع أخويك الصغيرين، وأمك المسكينة التي لا تملك من حطام الدنيا سوي عافية جسدها، والذي لو بيدها لباعته من أجلك وأخويك الصغيرين؟

كان حديثُ أمه أشبه بالصدمة الكهربية التي يلجأ إليها الطبيب ليُعيد مريضه إلي الحياة، فمسح عليٌ دموع عينية مُتجاسرا علي لوعة ثكل الوالد، الذي كان بالنسبة له أشبه بخيمة يلوذُ بها هربا من أعاصير الحياة وتقلباتها، ولكن لم يبقَ لهذه الخيمة وجود، وقال لأمه لنا الله يا أمي فأنا طوعُ أمرك ورهنُ بنانك.

كان الدرسُ قاسيا علي عليٍ الذي لم يبلغ الحلم، فمازال طفلا، ليست له طاقةٌ علي مواجهة هذه الصعاب والفقر، وتنازعته وسواسُ الفكر، إذ ناده طيفٌ من بعيد : لا بد أن تترك التعليم، وتعمل أجيرا في غيطان الأثرياء لتوفر لأمك وأخويك لُقمة العيش، ولم يستسلم لهذا الهاجس طويلا، إذ زلزله هاجسٌ آخر استراحت له نفسه: أنه ما لم يُدرك كله لا يُترك جُله، بمعني أنني يُمكني أن أُمسك العصا من مُنتصفها، فبدلا من أن ألتحق بالتعليم الثانوي، وما يستتبعه من تعليم جامعي لا طاقة لنا به سألتحقُ بمدرسة المعلمين، وبهذا يُمكنني أن أعينَ أمي في تربية أخويّ، ولا أحرم نفسي من التعليم وإكمال دراستى.

جعل عليٌ هذا الهدف نُصب عينيه ولم يحد عنه قيدَ أُنملة، إذ دأب علي الذهاب للمدرسة صباحا، وفي المساء وعلي ضوء مصباح (الكيروسين)، يلتفُ هو وأمه حول كومة من خوص السعف، يصنعان به (مَقاطِف) جمع الخضر والفاكهة؛ ليبيعوها في السوق، ويشتروا بثمنها خبزا يسدُ رمق تلك الأسرة الفقيرة المكونة من الأم وأطفالها الصغار، وما يتبقي من وقت بعد فراغه من عمله مع أمه يستغلُه في مذاكرة دروسه .

وتمرُ الأيام الثقيلة ببطء، وتسهمُ قسوتُها في غرس معاني الرجولة والتحمل في نفس علي، وكلما مضي عامٌ توَّجه عليٌ بالنجاح في دراسته، استقام عودُ أمه الذي حناه الفقرُ والزمنُ، حتي أنهي عليٌ دراسته بمدرسة المعلمين، فاستقام ظهر أمه صُلبا عفيا.

بدأ عليٌ حياته العملية مُدرسا إلزاميا، ينتقل من قرية إلي أخري، يؤدي عمله بشغف وحب، وينتظر راتبه الشهري، الذي يدفعه توا إلي جيب أمه ليساعدها في  تربية أخويّه، اللذين استويا علي سوقهما بمساعدة أخٍ كان لهما أبا بمعني الكلمة.

واصل عليٌ عمله بهمة لا تعرف الكلل، وعبقرية صنعت منه مُديرا لمدرسة إمياي الابتدائية القديمة ليس له نظير، بعدما لعق الصبر مُدرسا بالمدرسة في الصباح، ومُدرسا خصوصيا في الظهيرة نظير (مَقطفٍ ) من الخضر أو الفاكهة، أو علبةٍ مملوء ببيض الدجاج تدسُه في حجر عليٍ كلُ أمٍ درس عليٌ لابنها، فيدفعه عليٌ لأمه لتطعمَ هي وأخواه، أو تقايض به سلعة أخري.

خلقتْ هذه القسوة في نفسه حَزْما وصلابة، صاحبهما عطفٌ ولينٌ يُحسه كلُ من نشأ محروما فقيرا، وقد مكنته هذه الباقةُ المُتضادة من الخصال – والتي اكتسبها خلال رحلته – من تحقيق معني الإدارة الراشدة التي كان فيها نسيجَ وَحْدِه، وكانت بحقٍ حديث القاصي والداني.

حبا اللهُ علي عبد العظيم ذكاء ونبوغا، جعله أولَ دفعته وهو طالب علي طول الدوام،  وإلي جانب نبوغه الدراسي، تميَّز بنبوغه العملي، وحبِه لمهنته الذي أهله ليترقي في حياته العملية سريعا، حتي وصل إلي درجة مدير إدارة في سن صغيرة، وكان بإمكانه أن يتبوأ مناصب أعلي من ذلك، ولكنَّ زهدَه وإيمانه بأن مساعدته لأمه في تربية أخويه، ثم رعايته لأسرته وأبنائه، الذين أحسن تربيتهم فصار منهم شهيدُ الشرطة، والطبيبة والمدرس، وهذان من وجهة نظره هما النجاح الذي لا مثيل له، حالا بينه وبين التطلُع للمناصب.

ورغم أنه – أطال الله في عمره – علي مشارفِ الثمانين، إلا أنه ما زال شُعلة نشاط، لا يتواني عن المشاركة في كلِ عملٍ عام فيه النفعُ لأرحامه وأهل قريته.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كان ولا زال ابن خالي العزيز دائماً مايوصيني ببر ابي وامي رحمها الله ودائماً ماكان يوصيني بالجد والاجتهاد في تحصيل العلم امده الاه بالصحة والعافية
    لقد عدت بي استاذنا وابن عمي العزيز صبري الموجي الى قريتنا الجميلة من خلال سردك الممتع لقصة الكفاح هذه وكأني أتجول في شوارعها وحقولها ويكأني أجلس مع معلم الاجيال استاذ علي عبدالعظيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى