خُلاصة حكمي النقدي على النص الفائز بالمركز الأول لجائزة كتارا للشعر الفصيح

ثناء حاج صالح| ألمانيا
.
سأتحدث عن ثغرات النص فقط، خلافا للعادة؛ لأنني أحكم على هذا النص عموما، بأنه ضعيف وغير مقبول ؛ بالقياس إلى عظمة اللقب وعظمة المنافسة عليه من قبل النصوص الشعرية الأخرى التي قُدِّمت للمسابقة ، والتي قرأت منها عددا كبيرا من النصوص التي تفوق هذا النص (الفائز) في مستوى مبناها ومعناها وإبداعها الفني الشاعري والشعري . والتي كانت تستحق الفوز أكثر من استحقاق هذا النص .
.
هذا النص نظم رتيب لا يحمل دهشة، ولا يفتّق صورا شعرية مبتكرة باذخة نادرة على مستوى المناسبة ، ولا يثير عند القارئ مشاعر وأحاسيس عاطفية عميقة. ولم يتحدث عن شخصية الرسول العظيمة وخلقه العظيم، ومكانته العالمية في الدنيا والآخرة . ولم يتعرض لصفاته العظيمة وشمائله الكريمة ومناقبه الخالدة وخصائصه المتفردة لا بمديح ولا بمجرد تعداد وذكر.
.
ثغرات هذه القصيدة :
أولا- في النص خطأ نحوي كان من الجدير به أن يكون سببا لاستبعاد النص من المشاركة في المسابقة
.
في البيت.
نصفان إنّي، ولا نصفٌ يُؤازِرُني
والخوفُ جفنٌ على بعضِ الرجا انْسدلا
.
نصفان إني ؟
هذا التركيب خطأ نحوي . لأن أن وأخواتِها من أسماء الصدارة فلا يجوز تقديم الخبر عليها .
والمسابقة تشترط سلامة النحو في النص الذي يشترك في المسابقة . فكيف مررت اللجنة هذا الخطأ النحوي القاتل الذي لا يرتكبه تلامذة الصف الخامس الابتدائي، وكيف قبلت بوجوده في النص الفائز بالمركز الأول ؟ ؟
.
ثانيا- النص خال من المديح النبوي وخال من التعريف بشخصية الرسول العظيم
.
نافست الشاعرة الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض خصائصه، عندما نسبت للذات الشاعرة بعض هذه الخصائص في سياق متوالٍ عبر اختيارها ألفاظ مثل ( الوحي ، السدرة العليا، المسرى ) مجتمعة .
.
في قولها
اخلعْ جراحَكَ بالسطرِ المُقدَّسِ، لا
يصدَّك الذنبُ عن وحيٍ بكَ ارتحلا
وقولها
واصعد إلى السدرةِ العُليا بلا حَذَرٍ
من دافِقِ العشقِ، إنْ ناداكَ وانهملا
وقولها
أتى تسيلُ ذنوبُ الأرضِ من دمِهِ
ما ضَلَّ مسراهُ، لكِنْ بالرؤى شُغِلا
.
وقد أضاعت بمنافستها النبي -عليه الصلاة والسلام- على هذه الخصائص فرصة استخدامها كمواضيع وأفكار للصور الشعرية التي تنصبُّ على مديحه هو، وتعداد مناقبه، وخصائصه، وشمائله هو، لأن هذه الخصائص (الوحي وسدرة المنتهى والإسراء) لها أهمية عظيمة جدا في شخصيته النبوية . وهي من أهم مواضيع المديح النبوي في الشعر. والقصيدة مخصصة للتعريف بشخصية الرسول العظيم ومديحه وذكر مناقبه وشمائله وخصائصه .
والشاعرة لم تمدح الرسول عليه الصلاة والسلام في قصيدتها مديحا مباشرا وواضحا على الإطلاق. وإنما تحدثت عن الذات الشاعرة وعن حاجتها لاتباع الرسول الكريم فقط . وهذا موضوع آخر لا يحقق الغرض من المسابقة ( جائزة كتارا لشاعر الرسول ) تحقيقا صحيحا وإنما يقترب منه ويلف ويدور حوله فقط.
أنا لا أقبل أن يمنح شاعرٌ لقب (شاعر الرسول ) من أجل قصيدة خالية من مديح الرسول مديحا مباشرا . وإنما يدور موضوعها حول حاجات الذات الشاعرة لاتباع الهدى .
ثالثا – بعض الصور الشعرية جاءت ملفقة تلفيقا واضحا
.
مثل قول الشاعرة
هناكَ تنمو على الأشواكِ نرجِسَةٌ
تؤرجِحُ العطرَ في أوراقِها أَمَلا
هناك ..أين هناك عند سدرة المنتهى . تنمو على الأشواك نرجسة .
ما علاقة سدرة المنتهى بالأشواك ؟ ثم ما هي دلالة النرجسة ؟ ولماذا اختارت النرجسة دون غيرها ؟
في الشعر معروف رمز النرجسة الذي يرمز إلى عشق الذات والأنانية والغرور.
فالنرجسي عاشق لنفسه، ويرى أنه الأجمل، وأنه يحسب الناس أقل منه جمالا ولذلك فهو يُبيح لنفسه احتقار الناس والسخرية منهم. وهذه تعود إلى أسطورة يونانية قديمة .
فاختيار الألفاظ هنا في قصيدة مديح للنبي الأعظم اختيار فاشل. لأننا يجب أن نكون حذرين من دلالات الألفاظ . ولو كنت مكان الشاعرة وأردت التعبير عن نمو الأزهار على الأشواك ( وهو غير وارد أصلا عند سدرة المنتهى ) لاخترت لفظة (زنبقة) مثلا بدلا من ( نرجسة ) كي أعبِر عن الرقة وفي الوقت نفسه أبعد مسألة ( أوهام النرجسية ) عن ذهن القارئ لا أنها لا تصلح للسياق.
.
ومثل قولها:
ناداني الصوتُ، لكن لم أجدْ بَشَرًا
آنستُ نورًا تراءى ظِلُّه جَبَلا
الجبل ظل للنور . وأرى هذه الصورة الملفقة غير مفهومة أو غير صحيحة؛ لأن الظل يكون أرقَ من الشيء الذي يصنع الظل . فإذا كان النور هو الشيء فظله ينبغي أن يكون أرق منه وأقل كثافة منه . فكيف يكون الجبلُ ظلا للنور ؟ ومن هو النور ؟ هل هو الله سبحانه وتعالى؟ هل هو نور القرآن مثلا ؟ هل هو الرسالة المحمدية ؟ وكيف يكون الجبل ظلا لكل هذه الكائنات العظيمة ؟ ولماذا الجبل ؟ ما سبب اختيارها لهذه اللفظة ؟
إذا كانت الشاعرة قد قصدت باختيارها لفظة الجبل أن تنشئ تناصا مع بعض آيات القرآن الكريم التي ذكِر فيها جبل الطور ، فقد فشلت في إنشاء تناص صحيح واضح ومفهوم . وأحكم هنا أيضا على هذه الصورة الشعرية الملفقة بالغموض والإبهام .
.
ومثل قولها
أصغيتُ، كان هديلُ الوُرْقِ مِئذَنَةً
اركضْ بقلبِكَ تلقَ الأرضَ مُغتَسلا
.
ما علاقة العجز بالصدر في هذا البيت؟ هناك انقطاع في المعنى أضعف البنية اللغوية للبيت وأضعف معناه .
الركض هنا تناص مع قوله تعالى مخاطبا النبي أيوب -عليه الصلاة والسلام- بقوله (أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) واركض جاءت بمعنى (اضرب الأرض) برجلك . وهو ضرب فيزيائي فيه تلامس مع الأرض
فكيف يضرب المرء الأرض بقلبه ؟ وما علاقة المعنى في ضرب الأرض بهديل الحمام الذي تحول إلى مئذنة في الصدر .
.
ومثل قولها
يعدو بي الدربُ والأشواقُ راحِلتي
والغارُ أيقظَ جفنَ الليلِ وابتهلا
.
الغار يوقظ جفن الليل . يفترض أن يكون (جفن الليل) تشبيها بليغا لأنه تشبيه بالإضافة . لكن أين هو وجه الشبه بين الجفن والليل ؟
وإذا اعتبرنا جفن الليل هو جفن الشاعرة الساهرة في الليل ، فلماذا يوقظ الغار جفنها هي ؟ لماذا تتحدث عن تأثير الغار في جفنها هي وليس عن جفن الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ ما وظيفة لفظة الغار هنا ؟ و ما علاقة الليل بالغار ؟ هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتكف في الغار ليلا فقط ، فإذا طلع النهار يعود إلى بيته ، ثم إذا عاد الليل يعود للاعتكاف في الغار ؟ الجواب : لا . بل كان يواصل الاعتكاف ليلا ونهارا .
. طيب لماذا ربطت الشاعرة بين الليل والغار ؟؟ وما علاقة الدرب والراحلة بالغار (في الصدر ) بالغار وجفن الليل في العجز؟
فأرى الصورة الشعرية في البيت ملفقة تلفيقا. بمعنى أن استبدال أي مفردة من التركيب اللغوي بمفردة أخرى لا يضيره .
.
رابعا- بناء بعض التراكيب اللغوية كان ركيكا فجاء بالمعاني معاكسة للمقصود والمطلوب.
.
مثل قولها
.
عارٍ من الرفقِ هذا الكونُ ينقُصُهُ
حنينُ جِذعٍ رأى نجمًا لَهُ أَفَلا
.
فالشاعرة تسوق الدليل على عري الكون من الرفق . بقولها : ( الكون ينقصه حنين جذع رأى نجما له أفلا) . فهل حنين الجذع هو الرفق ؟ الرفق: هو لمسة النبي – صلى الله عليه وسلم- للجذع عندما ربَتَ عليه بيده الشريفة فهدَأ . وليس هو حنين الجذع .
إذن هذا خلل وركاكة في التعبير وضعف في البلاغة والبيان . ثم إن تشبيه الرسول -عليه السلام – بالنجم الذي أفل، لا يناسب في هذا السياق الدلالى المعنى المطلوب وهو سبب حنين الجذع وأنينه ، فالرفق ليس من خصائص النجوم لكي يئن الجذع ويحن لافتقاده الرفق مع أفول النجم .
.
. فهو نص أقل من مقبول ولم يضف شيئا على الإطلاق لشعر المديح الرائع البديع الذي سبق به الشعراء، على مدى العصور وعلى مدى التاريخ الأدبي. وهو لا يستحق الفوز لا بالمركز الأول ولا بالثاني ولا بالثالث.
.
ثناء حاج صالح
.
القصيدة الفائزة (قنديلٌ من الغار)
..
اخلعْ جراحَكَ بالسطرِ المُقدَّسِ، لا
يصدَّك الذنبُ عن وحيٍ بكَ ارتحلا
واصعد إلى السدرةِ العُليا بلا حَذَرٍ
من دافِقِ العشقِ، إنْ ناداكَ وانهملا
هناكَ تنمو على الأشواكِ نرجِسَةٌ
تؤرجِحُ العطرَ في أوراقِها أَمَلا
وتستكينُ إلى الأقلامِ قافيةٌ
لولا “مُحمَّدُ” ما أهدت لها الجُمَلا
ناداني الصوتُ، لكن لم أجدْ بَشَرًا
آنستُ نورًا تراءى ظِلُّه جَبَلا
أصغيتُ، كان هديلُ الوُرْقِ مِئذَنَةً
اركضْ بقلبِكَ تلقَ الأرضَ مُغتَسلا
وكانَ وجهُك ما ألفيتُ في قلقي
فاخْضرَّ حرفٌ على غُصنِ الجوى ذَبُلا
يقودني الحبُّ كالأعمى؛ فيا بصَري
خارت عصاي وجئتُ الخوفَ مُنتعِلا
يعدو بي الدربُ والأشواقُ راحِلتي
والغارُ أيقظَ جفنَ الليلِ وابتهلا
خلفي تلفّتَ بعضيْ إذ رأيتُ فتىً
ساقيه أطلَقَ والريحُ استوتْ سُبُلا
أتى تسيلُ ذنوبُ الأرضِ من دمِهِ
ما ضَلَّ مسراهُ، لكِنْ بالرؤى شُغِلا
تكونُ قِنديلَهُ في ليلِ وحدتِه
يرجوكَ، أو قِبلَةً تهدي النُهى مُقَلا
أرضًا يحطُّ عليها كلّما وَهَنًا
هوى جناحاهُ، أو عن هَدْيِهِ عَدَلا
تحنو على ضعفِهِ إنْ جاءَ يحمِلُهُ
قد انحنى ظهرُهُ من هوْلِ ما حَمَلا
نصفان إنّي، ولا نصفٌ يُؤازِرُني
والخوفُ جفنٌ على بعضِ الرجا انْسدلا
عارٍ من الرفقِ هذا الكونُ ينقُصُهُ
حنينُ جِذعٍ رأى نجمًا لَهُ أَفَلا
كفٌّ تحطُّ على الأرواحِ حانيةً
لتهدأَ الحربُ والثأرُ الذي اشتعلا
لا نورَ يوقِظُ هذا العصرَ من خَدَرٍ
والكهفُ لمّا أوى، أحصاهُمُ مِلَلا
بعضُ اليقينِ الذي في “اللهِ ثالِثُنا”
لو زارنا أورقتْ أرواحُنا رُسُلا
وطافَ بالبيدِ غيمٌ يستريحُ ضُحىً
من لفحةِ الشمس، لمّا أسرَفَتْ قُبَلا
عُدْ بي إليكَ رسولَ اللهِ أتعبني
قلبٌ تُقلِّبُه الأهواءُ ما وَصَلا
وكُلّما قلتُ لي فيما ملكْتُ يدٌ
ألفيتُ كفّيَ صِفرًا، تحرُثُ المَللا
عُد بي من الحزنِ، في عينيّ عاصِفَةٌ
تذرُّ رملَ الأسى والسُّهدِ مُكتَحَلا
تعبْتُ من مَصْعَدِ الأرواحِ أُبْصِرُها
تنسلُّ من خَنْدَقٍ من طُهرِها أَكَلا
من دمعةِ الجوعِ والأطفالُ حِصَّتُها
والأمهاتُ حُداءٌ يوقِدُ الشُّعَلا
يا رحمةً أُرسِلَتْ للعالَمينَ ويا
وحيًا من اللهِ بالإحسانِ قد نَزَلا
أتيتُ من هامشِ المعنى أحثُّ فَمي
علّي أراني، أنا من كُلَّهُ جَهِلا
لا أملِكُ الحرفَ لكنّي أراكَ بِهِ
فأُبصرُ النورَ طيفًا مرّ بي وَعَلا
وفاضَ نهرًا على شُطآن قافيتي
أحيا رميمَ حروفٍ أُقْبِرَتْ أَزَلا
خلعتُ كُلَّ جِراحيْ وانتبذتُ بها
سطرًا عليًّا، كمن في نقصه اكتملا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى