حكايا من القرايا.. الداية شهلة
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
الحجة شهلة، داية البلدة الوحيدة… ومجبّرة الكسور الوحيدة… لها الله، لم يطعمها الله الولد، وترمّلت، وعاشت في عَقْدها وحيدة… لكنها كانت بسيطةً فرحةً وجهها يبشر بالخير، كما بشّرت بولادة أجيال وأجيال… وجبّرت أيدي مكسورةً وأرجلاً…
(سَهْلتْها) نظيفة دائماً، فهي تشطفها كل صباح، وترشقها بالشيد سنوياً، وساحة العقد الكبيرة، تحتوي مقتنيات الحجة من طيور وحيوانات… فالخُشّة الكبيرة للحمارة التي تركبها في رحلاتها الداخلية والخارجية، والخشّة الأصغر للمانوحة، التي تحلبها، وتشرب حليبها، وتأكل لبنها، وتقارظ جاراتها الحليب لعمل الجبنة واللبنة، ومجموعة من الجرار للأرانب، وطواقي للحمام… والخمّ الكبير للدجاج…
ياه! ما شاء الله، تعيش الحجة في بيتها مكتفية اقتصادياً… تبيع البيض البلدي، والزغاليل، والأرانب، وما تخلّفه أرانبها… ولا تحتاج إلا رحمة ربك… دايت نساء البلدة كلها، جيلاً وراء جيل، ولم تقبل في حياتها أجرة، إلا أن الناس أقنعوها أن النبي صلى الله عليه وسلم، قبل الهدية فقبلتها… فكان (بيرو) الحجة يفيض بالحلويات والسكاكر، ونمليتها تتزين بأصفاط الطوفي والسلفانا… ناهيك عن الفستق، والبندق، وحتى القضامة الصفراء الحلوة، والبيضاء المملّحة… هذا غير قطع من الكلاج… وبقلاوة اللوز… والقطّين… والزبيب…
نسيت أن أقول لكم، أن إمكانات الحجة شهلة الرياضية دلّيلة، فهي لا تستطيع العدّ إلا للسبعة… وكانت تقسم إنتاجها حسب النظام السبعاوي، فتقول: هنا سبع دجاجات، وهنا ثلث سبعات من الأرانب… وهكذا… فإن جلت فتلحّ (الموعان) ثلاثاً، وإن غسلت، شطفت (الخَلَقَة) سبع مرات… وبينما هي تسبح في مسبحة لا تفارق رقبتها، مسبحة التسعة وتسعين حبّة، سمعت جلبة عند بابها، فتحت الباب تستكشف، وإذ به سليم المحمد، وأمه وأبوه، وسليم يتألم… ويصيح… ويده اليمنى ملفوفة، وفي اليسرى يحمل صورة أشعة… قال للحجة: جبّروها مرتين… وما زالت تؤلمني، أجلستهم الحجة على كراسي القش، ووجهت الصورة للشمس، ونظرت بها… وأعلنت نتيجة مفاجئة… يدك مش مجبرة صح… يدك عوجا… وجلبة أخرى خلف الباب… الحجة خيرية وابنتها، تناديان الحجة أن تستعجل لأن حليمة الرفيق في حالة ولادة، فالشهر شهرها، وهي تصيح وتتألم… طلبت الحجة من الكسير أن ينتظر، وجهزت حمارتها، وركبتها، وذهبت في حالة طارئة إلى بيت حليمة، وسبحان الله ما هي إلا دقائق حتى هوّنها الله… وكانت المولودة… طلب زوج حليمة من الحجة أن تستريح عندهم، علّه يضيّفها، ويجهز لها هدية… لكن الكسير كان ينتظر على الجمر في عيادتها…فكّت اللفيفة عن يده… وهي تتحدث مع سليم وتحسّس بيديها على يده فجأة طقّت يده… صاح الحزين… وصحّحت العظم حتى لاقى بعضه بعضاً، وبسرعة أسندتها بالقش، ودهنتها بالبيض والصابون… ولفّت الجبيرة بالشرايط… بعد أسبوع واحد صوّر سليم يده، وكانت سليمة مئة بالمئة… وعندما كان يفيض البيرو بالهدايا، والنملية بالسكاكر، كانت الحجة شهلة توزع ما أنعم الله، على أطفال الحارة كلها… بل على أطفال البلدة… وتعلن عن تنزيلات في أسعار طيورها وأرانبها… فيتدفق الزبائن من كل فجّ… يشترون منها… ويتبركون ببركاتها… رحمها الله… كانت الحجة شهلة المباركة…