كن رحيما

مرفت عبد العزيز العريمي | مسقط

مع انشغالنا بماديات الحياة المعاصرة ابتعدت الكثير من القيم الإنسانية عن ممارساتنا الحياتية والتي كانت  يوما ما جزءا مهما من نمط حياتنا؛ فتعاملاتنا أحيانا تكون من خلال التواصل المادي والآلي مع بني البشر من خلال التكنولوجيا الحديثة التي أسرفنا في استخدمها بدلا من تفعيلها لما هو في خدمة القيم الإنسانية، متناسين أن الأصل في التواصل هو المودة والرحمة، وليس بالأجهزة وحدها يعيش الإنسان. في الوقت الذي يكون فيه الآخر بحاجة إلى من يتواصل  معه بشكل مباشر وجهًا لوجه.

مفهوم الرحمة يتضمن مجموعة من مشاعر العطف والرقة  والتسامح والصبر، والرحمة صفة  من صفات الله تعالى فهو الرحمن الرحيم.

وهناك نماذج متنوعة ومواقف عدة ذُكرت في الآثر توضّح أهمية الرحمة أحدها قول نبينا الكريم – عليه أفضل الصلاة والسلام – “ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء”.

وللرحمة أوجه عدة وتتعدد أشكالها ومواطنها إلا أنها خلق كريم يدل على إنسانية الإنسان وهو الجانب الذي يقوده القلب بشعور وعقلانية؛ فالرحمة عادة ما تسبق العدالة والحزم لكن لا تمحيهما، الرحمة تهذب الفرد وترفع من درجة الإحساس والشعور لديه فيصبح مبدعا معطاءا  قادرا على فهم طبائع البشر والطبيعة من حوله فتجده مرهف الحس، رقيق المشاعر مع كل ما يحيط به، وهذا  يساهم في تقوية أحاسيس العطف والمودة والإيمان .

وحديثا وبعد سنوات من انغماس المجتمعات المعاصرة في المدنية المادية توصل مجموعة من العلماء إلى نتائج مذهلة لم تكن معروفة علميا من قبل أشارت ألى أهمية سلوك الرحمة كأسلوب لعلاج الكثير من الأمراض التي طفت على سطح المجتمع؛  حيث درس العلماء تأثير الرحمة على الجهاز المناعي للإنسان وعلى الدماغ البشري فتوصلوا إلى نتائج عدة من أبرزها أن سعادة الإنسان تتحقق إذا  شعر الإنسان بالرحمة وأحب الخير للغير وسعى إلى تحقيق رغبات الآخرين كما يسعى لتحقيق رغباته. 

كما وجد الباحثون أن الإنسان الرحيم هو الأكثر تمتعا بروح معنوية عالية؛ فلا يشكو من  الإحباط أو الاكتئاب واليأس لأن سلوك الرحيم مع أفراد الأسرة والمجتمع  المحيط كفيل بأن يحقق الارتياح والسعادة والرضا عن الذات وبالتالي سيعم الخير على الجميع وسترتقي المجتمعات.

وأكد الباحثون على ضرورة تعليم الأبناء الرحمة والشفقة والعطف منذ الصغر  لحماية المجتمع  من الانحراف  والجريمة والعنف حيث وجدوا أن هناك علاقة بين العنف والقسوة والرحمة فكلما تربى الأبناء على التعامل الرحيم مع كل ما يحيطهم  ومع أفراد الأسرة والمجتمع كلما كانوا سعيدين وراضين عن ذواتهم؛ فالرحمة تهذب الإنسان. 

ولا يقصد بالرحمة هنا التغاضي عن الممارسات والسلوكيات غير الصائبة؛ بل يقصد بها التعامل الرحيم مع المخلوقات كافة وحتى الجماد، يظهر الرحمة  مع الجماد عندما  نحمي  مقتنياتنا من الإهمال ونرشِّد استعمالها .. ومع النبات عندما نروي المزروعات والأشجار ولا نحرمها من الماء والهواء.. ومع الطير عندما نسقي الطير في حرِّ الظهيرة، ونجعله يعيش في موطنه الطبيعي ونحرره من القفص.

ومع الطبيعة عندما نحافظ على سلامة البيئة والحياة من التلوث، ومع النفس عندما نرحم أنفسنا من كل ما يضر بصحة البدن والعقل، وعندما  نحسن الجوار ولا نقلق راحتهم، ومع الوالدين عندما  نحسن إليهم ونرحمهما كما ربيانا صغارا، ومع الأطفال بتعليمهم ورحمتهم من ظلمة الجهل. 

وأجمل صور الرحمة نراها في مهنة الطب والتمريض المهنة التي يكون فيها المريض أحوج ما يكون إلى من يشعر بآلامه، ويربت على كتفه بابتسامة رقيقة، ويقول له: معافى بإذن الله، وعند المعلم عندما يقترب من التلميذ  الخائف في أول يوم دراسي  فيمسح على رأسه ويقول له:  لا تخف لست وحدك.

ومن أرقى نماذج الرحمة كفالة اليتيم وإطعام المسكين، وكسوة الفقير، وتعليم الجاهل.. لكن للأسف عجلة الحياة المتسارعة جعلت البعض لا يدرك أهمية هذه السلوكيات المحببة.

وأحيانا كثيرة نشاهد مواقف بعيدة عن روح الرحمة  على سبيل المثال وليس الحصر عدم إغاثة  الملهوف إنسانا كان أو حيوانا ، والإساءة الى موارد الطبيعة والمخلوقات من حولنا، مع إن كل ما يدور في هذا الكون بشكل أو بآخر سوف يؤثر علينا، فمن الأجدر أن تكون الرحمة أولى القيم التي نغرزها في نفوسنا اليوم وليس الغد؛ فالإنسان كمخلوق قادر على اكتساب المعارف والتعلم في مراحل حياته كافة إن أراد أن يرتقي بإنسانيته وأن يشكر الخالق – عزَّ وجل – على نعمائه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى