ضلالة هداية.. شبهاته في إنكار السنة (١٤)
رضا راشد | الأزهر الشريف
شبهات ساذجة
كانت المقالات السابقة (من ٩حتى١٣) التي تلت خطوات هداية في إنكار السنة (المقالة الثامنة)فاصلا أردت به إلقاء نظرة على تحولات محمد هداية: كيف كان؟ وإلام صار؟ حاولت فيها تفسير تحولاته في ضوء ما تبين لي، ولعلى أكون مصيبا فيما استنبطت، فإن كنت مخطئا فاللهَ أسأل العفو والمغفرة .
والآن حان الوقت لنكمل المسيرة البغيضة مع محمد هداية في أصول منهجه ومنطلقاته الكلية ،حيث نقض وتفنيد شبهاته في إنكار السنة..فأقول وبالله التوفيق:
إن أول ما يسترعي الانتباه في هذه الشبهات التي تعلق محمد هداية بأذيالها إنكارا للسنة، أنها شبهاتٌ متهافتةٌ ما كان لعقل متجرد أن يقبلها، فضلا عن التمسك بها والاعتماد عليها ذريعةً للطعن في السنة النبوية. وكأن هذا من نصرة الله للحق؛ أن تكون أدلته قويةً ساطعةً، وبراهينه قاطعةً تتسق وفطرة النفوس، وأن تكون الشبهات التي يتشبث بها أهل الباطل ضعيفة تقوم على تجاهل الحقائق وليِّ أعناق النصوص ..ولعل هذا ما يوحي له من قوله تعالى:{لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة:٢٨٦]، فكان (الكسب) في جانب الحسنة لمَّا كانت تتسق مع فطرة النفوس،فلا حاجة لها في فعل الحسنة إلى تكلف؛ وكان (الاكتساب) بما يدل عليه من الافتعال والتصنع والتكلف في جانب السيئة؛ لأنها تتناقض وطبائع النفوس وفطرتها، بحيث لا تقترف إلا على متن التكلف والافتعال والتصنع. ومما يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “البر ما اطمأنت إليه نفسك، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس “. ولعلك لا تخالفني في أن نصرة الحق -بإقامة الدليل عليه- من أحسن الحسنات، وأن مناصرة الباطل من أخبث السيئات وأكبر الآثام.
“لا يفل الحديد إلا الحديد”..حكمة أفاضت بها العقول يوم أن كانت عقولا تعقل(أي تقيد) أصحابها عن التردي في مهاوي السفه والعبث. فلما تجردت العقول من أخص خصائصها وأفلتت من أسوار الحكمة فقد صار لسان حالها الآن..
“لا يفل الحديد إلا الورق”.
لا يأخذنك العجب مما أقول؛ فإن مثل محمد هداية -والقرآنيين من قبله- في شبهاتهم -التى ظنوها أسبابا كافية لإنكار السنة- كمثل من مسه الجنون فتوهم أن يزيل جبلا بقشة، إذا طارت في الهواء تلاعبت بها الريح يمنة ويسرة ..فأنى له ذلك؟! هيهات هيهات.
عقول ساذجة تذكرنا بتلك العقول التي كان أصحابها يأتون إلى الجبال فينحتون صخورها بأيديهم ويشكلونها بمهاراتهم.. حتى إذا تم لها شكل البشر اتخذوها آلهة، فوقفوا أمامها-وهي التي لا تبصر ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع- خاشعين قانتين ..ولا عجب فهي ذرية بعضها من بعض.
حملة السنة بشر
تلكم كانت من الشبهات التي اعتمد عليها محمد هداية- والقرآنيون من قبله – في إنكار السنة؛ أنَّ حملتها بشر يصيبون ويخطئون ..فترى هداية في بعض أحاديثه يقول :إن الذي روى هذه الأحاديث رجال عن رجال، والذي عدل هؤلاء الرجال رجال،وسمي العلم علم الرجال..بخلاف القرآن؛ فإن الله تكفل بحفظه في قوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:٩] فكون حملة السنة بشرا، دليل كافٍ عند محمد هداية لرد السنة والطعن فيها!
ولقد كان بطلان هذه الشبهة مغنيا عن إبطالها، لولا أننا نعيش في زمان نحتاج فيه إلى أن نقيم الأدلة على وجود الشمس في ضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها.
ونحن لا ننازع محمد هداية في أن الإنسان يولد ساعة يولد وهو متسم بثلاث سمات:
(^) جاهلٍ بكل شيء، حتى باسمه.
(^) وفقيرٍ من كل شيء، حتى من خرقة بالية تلف جسده.
(^) وعاجزٍ عن كل شيء، حتى عن تحريك بعض أعضاء جسمه.
ولكن الله عز جل لم يدع الإنسان سدى هكذا، بل زوده سبحانه بأدوات اكتساب العلم، حيث قال سبحانه:{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [النحل:٧٨] ثم حثه ربنا على ما به يستولد العلوم من العقول (؛فإن مبدأ العلم فكرة، والعقول أرحام الأفكار، كما أن بطون الأمهات أرحام الأبدان) فندبه إلى النظر في كون الله المسطور-وهو القرآن- فقال تعالى :{أفلا يتدبرون القرآن…}[النساء:٨٢] كما حثه على تأمل كتاب الله المنظور، فقال ربنا :{قل انظروا ماذا في السماوات والأرض}[يونس:١٠١] ، فكان ذلك دليلا على أن في عقول البشر من القدرة على استنباط العلوم من مظاهر الكون من حولها من ناحية وأسرار كتابه من ناحية أخرى؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يجشمها فوق طاقتها.
ولعل هذا معنى قول الله تعالى {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلمعلم الإنسان ما لم يعلم}[العلق٥:٣]، فكان من دلالة كرم ربنا أن علم بالقلم علم الإنسانَ ما لم يعلم..قال أبو السعود رحمه الله :
“وفي حَذْفِ المَفْعُولِ أوَّلًا وإيرادِهِ بِعُنْوانِ عَدَمِ المَعْلُومِيَّةِ ثانِيًا مِنَ الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ قدرته تعالى وكَمالِ كَرَمِهِ، والإشْعارِ بِأنَّهُ تَعالى يُعَلِّمُهُ مِنَ العُلُومِ ما لا تُحِيطُ بِهِ العُقُولُ ما لا يَخْفى”.[تفسير أبي السعود — أبو السعود (٩٨٢ هـ)]
فكان من نعم الله على الإنسان، أن أفاض عليه بالعلم؛ بما زوده من أدواته، ليكون من هذا العلم-بأنواعه المختلفة – مؤهلا لما كلف به من الاستخلاف وإعمار الكون. فكان العلم مأواه ومسكنه في صدور الرجل، يتلقاه خلف عن سلف ..حتى إذا تقدمت البشرية واكتشف الورق وأدوات الكتابة، نَسَخَتْ البشريةُ العلم من صحائف الفؤاد إلى قراطيس المداد ،فدونت العلوم وكانت الأسفار..
قال بعض السلف:
“كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب وصارت مفاتيحه بيد الرجال” . إذن كان العلم ولا يزال بشريا، وقل مثل ذلك في أي علم كان، انتفعت به البشرية في دينها أو في دنياها.. وستظل الكتب التى صنفها البشر-إضاقة إلى صدور هؤلاء البشر أنفسهم وأفئدتهم..هي أوعية العلم- ما كانت الدنيا. حتى إذا كانت نهاية الدنيا، وأراد الله رفع العلم، فإنه لا ينتزعه اننتزاعا من صدور الرجال، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء. وكأن في ذلك إيماءً إلى أن حياة العلم بحياة العلماء، وموت العلم بموت العلماء، فلا بقاء لعالم بلا علم ولا بقاء لعلم بلا عالم .
هؤلاء العلماء -الذين كانت صدورهم أوعية العلم، ثم صارت بعدُ أوعية مفاتيح العلوم- هم بشر يصيبون ويخطئون، لم يخرجوا بالعلم عن بشريتهم، ومع ذلك أثنى عليهم ربنا فيما استولدته عقولهم -بالنظر والتدبر- من أبكارِ أفكارٍ صاغوا منها قواعد علوم، فقال تعالى :{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}[المجادلة:١١]
هكذا كان العلم -ولا يزال- بشريا ولم يكن يوما ما ملائكيا، حتى يسوغ لأمثال محمد هداية -وغيره من كل متهافت العقل- أن يرفض السنة؛ لأن رواتها بشر!! .
وهكذا تعامل العلماء -بل العقلاء- في كل عصر ومصر مع هذه الحقيقة المسلمة، فلم تكن بشرية أساتذتهم حاملة لهم على التشكك في علومهم؛ لأنهم وإن لم تجب لهم العصمة فهي جائزة في حقهم، فإن انتفت عن بعضهم فلا تنتفي عن الجميع؛ إذ لا تجتمع الأمة على باطل؛ ومن هنا كانت حجية الإجماع. فقد يخطئ أحد العلماء في بعض ما يقول فيهب من إخوانه من يرده ويقومه؛ لا يثنيهم عن ذلك حب، ولا يحملهم على ذلك بغض.
ثم ما بال هداية يطالبنا أن نخضع لهذيانه، ونخنع لترهاته وهو الذي يطعن في السنة لكون رواتها بشرا..فهل جاءه نبأ من الله أنه قد صار ملكا حتى غدا كلامه حجة يجب على كل من يسمعها الخضوع لها ؟! سنحاول الوصول للإجابة، وإلى أن نتأكد فإن كلامه عندنا لا يساوى قلامة ظفر؛ لأنه يطالبنا برفض الممكن والقبول بالمستحيل، وفي ذلك خروج عن حدود العقل.فأما الممكن: فأن تقف الأمة كلها على الحق بمجموع علمائها سلفا وخلفا وأما المستحيل: فأن يكون هو في هذيانه وضلاله قد كشف له من أستار العلم ما ظل محجوبا عن الأمة كلها طوال خمسة عشر قرنا..حتى إذا أراد الله بالأمة الهداية -التى حرمتها على مدى تاريخها – بعث فيها محمد هداية مبعوثا للعناية الإلهية وشمسا للهداية الربانية!!
أي سخف وأي ضلال هذا ؟!
ثم إن هذا الذي يرفض السنة لأن رواتها بشر ما باله يرضى بالطب مع أن الأطباء بشر، ويقبل الهندسة مع علمه أن المهندسين هم أيضا بشر وهكذا في كل العلوم فهلا أنكرها كلها تذرعا بأن حملتها بشر فدل الناس حينئذ على نفسه أنه قد أفلت من أسوار الحكمة بل العقل ..هل رأيت أو سمعت أن هناك من ادعى أن علماءها قد صاروا ملائكة ..فطردا لهذه النظرة كان يجب على محمد هداية إنكار عمل الأطباء والمهندسين والصيادلة؛ إذ حملتها بشر ، ولا قائل بهذا ، وإلا كان إيذانا بمفارقته عالم البشر العقلاء إلى عالم آخر ينعم فيه بالراحة والطمأنينة حيث
أخو الجهالة في الجهالة ينعم.
سبحانك هذا بهتان عظيم وإفك مبين وخروج عن حدود العقل .
وما زال العرض مستمرا يا ضلالة
يتبع إن شاء الله