اقرأ وشاهد.. د. عاطف الدرابسة بقدم قراءة لمسرحية (أطفال الشمس) للمبدع حميد عقبي

باريس | خاص
المسرح العربي عموماً يمرُّ بمأزقٍ كبير، فحاله كحال المجتمعات العربية، التي تحسب نفسها قد دخلت ثقافياً واجتماعياً في فكر الحداثة، غير أنَّ واقعها السياسي، والفني ، والثقافي، والفكري ما زال أسير الآخر، أو أسير التاريخ ، أو أسير الموروث ، أو يقيم في الماضي، وإذا بحثتَ عن مستقبلها ، فهذا المستقبل ما زال غامضاً ، غير قادر على إحداث التغيير المطلوب، فالمجتمعات العربية عموماً لم تستطع أن تستوعب قيم الحداثة، وإنما تلقتها من الغرب، وأثارت حولها ضجة، وحاول الكثير من المفكرين التقليديين مقاومتها، فأنشأوا العقبات والحواجز، منها ما هو ديني، ومنها ما هو اجتماعي ، منها مقاومات واضحة، ترفض التغيير، ومنها مقاومات متخفية أو مستترة ، تلك الأفعال ظهرت في مناقشة قضايا مهمة، كالعولمة ، والخصخصة، والمواطنة ، والتراث والمعاصرة ، والديني والمقدس، والمتن والهامش، ومفهوم الحريات .

وإذا تأملتَ جيداً في واقعنا الثقافي، فإن العقل العربي لم يكن مهيأ لتلقي الحداثة، فأخذها كما هي، وزرعها في أرضه فبدَت كالنبتة الغريبة الطارئة، ترفض أن تتغذى من التربة العربية ، فظهر المثقف العربي باعتباره نسخة رديئة عن المثقف الغربي، وبقي العقل العربي إلى هذه اللحظة في حالة جمودٍ معرفي، فلم يُقدم مفهوماً جديداً، ولم يقدم تقنيات حديدة، ولم يقدم رؤى جديدة ، فهو ما زال إلى اليوم أسيراً لمؤسسة القيم، وسلطة الدين التي أنتجها البشر، وسلطة النظام السياسي الأبعد ما يكون عن الحرية، وحقوق الإنسان، ومفاهيم الديمقراطية ، وظلَّ العقل العربي عاجزا عن حوار الآخر، وتبادل الخبرات معه، كما أنه لم يحافظ على أصالته ، أو هويته الثقافية، فمصادره واحدة، ومنابع إبداعه جفَّت، وما زال إلى اليوم يُعيدُ استنساخ الماضي ، والبكاء على أطلاله .

في حين أن العقل الغربي دخل في صراع حادٍّ مع سلطة الكنيسة، ومع الأنظمة الاستبدادية المسيطرة، فمرَّ بطور تنويري مدهش، أعاد المركزية لفعل الإنسان، فتجلَّى ذلك في كثير من الأفكار، ابتداء من ديفيد هيوم مروراً بكانت وهيغل، وماركس، وديكارت، وانتهاء بالعولمة، والتفكيك، وقد كشف هذا الصراع عن تناقضات كبيرة، وحادة ، وعن مفارقات فكرية على مستوى الوعي، وعلى مستوى الواقع، وقد انعكس كل ذلك في الفن، خصوصاً الفنون الأدبية، والفنون الأدائية كالمسرح، والرقص والموسيقى، والفن التشكيلي الأدائي، فقدَّم العقل الغربي تجاربَ مدهشة، خصوصاً في المسرح، فظهر المسرح العبثي: مسرح اللامنطق ، مسرح اللاصراع، مسرح اللاوعي، مسرح اللامعنى، أي المسرح المضاد للواقع، المُعبِّر عن أزمة الإنسان المعاصر، الباحث عن الخلاص إزاء توحُّش الرأسمالية ، التي أعلَت من شأن القيم المادية على حساب إنسانية الإنسان .

إنَّ الفعل المسرحي اليوم هو صورة عن الحداثة ، فهو الأقدر على قراءة تناقضات الكون والأشياء ، وهو الأقدر على إنتاج وعي جديد، وتوجُّهات فكرية تمسُّ الإنسان ، وهو وحده القادر على تفتيت البنى الاجتماعية المهيمنة ، وتشتيت القوى السياسية المسيطرة ، وهو الأقدر على مواجهة المفاهيم الأكثر تجذراً ، وسلطة في العقل والوجدان العربي بشكل خاص ، والعقل الإنساني بشكل عام، بل إنَّ المسرحَ باعتباره فعلاً حياً هو الأقدر على خلخلةِ الأصول الثقافية ، والمبادئ القارَّة ، والقوالب الجاهزة ، والنماذج المتوارثة .

وتأتي مسرحيات حميد العقبي ضمن هذا التوجُّه، فقد جاءت مسرحياته: أطفال الشمس، لا شيء يحدث هنا، فنتازيا كائنات أخرى، والرصيف، لتزعزع فكرة النموذج، فمسرحُه يبدو ثائراً على الأسلوب، وعلى النمذجة، لا يثق بأية مرجعية فكرية، أو فنية، يُعلي من قيم التجاوز والتخطي، والقطيعة مع أي شكل مسرحي آخر، قد تبدو فيه ملامح العبثية، واللامنطقية، لكنه يبدو لك منطقياً ، لعلَّه هنا يعكس مخرجات الحداثة، وتجلياتها، أو هو صورة عنها، ربما هو يحاول أن يسعى إلى فرديَّة متميزة على مستوى الثورة على الأساليب، وعلى الأشكال الجاهزة، ويمكن للباحث أن يفهم ذلك من خلال مسرحيته (أطفال الشمس) ، فخشبة المسرح لا تبدو لك خشبة مسرح، بل هي مكان محتجب خلف محطة القطار في مدينة كون النورماندي ، هنا نراه يحجب المكان، يجعله مختفياً خلف المحطة ، لأن سكانه في الأصل من المُهمشين ، والمُحتجبين ، والخائفين .

ثم نراه يُلقي الضوء على شجيرة حالتها مزرية ، جذعها نحيف، بعض أغصانها يابسة، تساقطت معظم أوراقها، وهو هنا يقدِّمها بوصفها إشارة دالة على حالِ المقيمين خلف المحطة، فهي تعكس صورتهم وحالتهم ، غير أنها بالرغم من يَباس بعض أغصانها ، وتساقُط معظم أوراقها تحاول التشبث بالأغصان بالرغم ما بلغ بها من الإرهاق بسبب جفاف الحوض ، أليست هذه الشجرة معادلاً رامزاً لوطنٍ ما يُحاول أن يبقى على خارطة الوجود، متشبثاً بالحياة ؟

يذهب حميد العقبي بعيداً في رسم تفاصيل المكان ، كأنه أكثر واقعية من الواقعيين، فيظهر لنا بعض الأشرطة القماشية الرقيقة ، المعلقة حول جذع الشجرة ، وأغصانها اليابسة ، كما يقدم لنا جذع الشجرة ، وقد تحوَّل إلى ما يشبه طاولة في خمَّارة بائسة ، أليس الحوض هو من يحمي الشجرة من عوامل التعرية والجفاف ؟ أليس الجيش هو من يحمي الوطن ؟ وهل كلمة حوض هنا بريئة ؟

هذا الحوض أصبح فاسداً، إنه مكان يضعون عليه مشروباتهم الكحولية ، ويرقصون حوله، هذا الحوض مصنوع من الخشب ، على وجوهه الأربعة رسومات غرافيك مختلفة، أصابته بعض الشقوق والثقوب ، وقد صار التراب يتناثر منه، لا أعرف هل كلمة التراب هنا بريئة ، أم أنها كلمة ترتبط بالوطن ؟

إنَّ حميد هنا يستخدم رموزه بطريقة عجيبة التكوين، والرؤية، فهو في خياله يجعل من وطنهِ شجرة يابسة، متمسكة بالحياة، ويتحدث عن حوضِ هذه الشجرة ، الذي أصابه التشقق والتناحر ، فصار يفقد التراب (الأرض) شيئاً فشيئاً .

وحين يُوغل أكثر في وصف المكان ، فإنه يلفت نظرَ المتلقي إلى وجود مواسير مياه مجاري كبيرة، صارت جزأً من المكان تستخدم كسرير ، وقد ظهرت باليةً ومهترئةً، وقد أصبحت مأوى للاجئين، أليست هذه المواسير اشارة إلى مخيمات المهجرين، والمُقتلعين من أرضهم ؟

وفي العمق أيضاً يوجد جدار ، هذا الجدار عليه شعارات وبوسترات مختلفة، تُمثل اليمين واليسار، وهما وجهان للرأسمالية ، وجهان لفرنسا، إنه يختزل بهما الحضارة الغربية المعاصرة ، يمين متشدد ، ويسار يدعو إلى الحرية والأخوة ، لكنَّ الجدار يفصل بين عالمين .

ثم يقدم لنا إعلاناً ورقياً ضخماً ، عليه صورة لكلب صغير وضعته سيدة ، هذا الكلب ضائع ، لا أعرف لماذا أراد حميد هنا أن يقدم الكلب بوصفه إشارة إلى الطبقة الأرستقراطية التي تهتم بالحيوانات ، وهي تسهم في الوقت نفسه بقتل البشر ؟ فهنا يترك حميد العقبي للمتلقي مسافة دلالية ليقيم علاقة بين الكلب ، وبين الشخصيات العربية القادمة من بلاد الشمس ، والتي تقيم في هذا المكان .

وفي هذا المكان أيضا صورة لبرميلين: برميل أصفر مخصص للمخلفات الورقية والكرتونية، وفي اليسار برميل أزرق مخصص للمخلفات البلاستيكية، وبجانبه كرسي دوار ، هنا حميد يُخلخل الرمز، ويجعله ينحرف عن حقله الدلالي، فالحاويات الزرقاء مخصصة للمخلفات الكرتونية، والصفراء مخصصة للعلب المعدنية، أما الحاويات الحمراء فمخصصة للنفايات البلاستيكية ، والحاويات الخضراء لبقية المخلفات: العضوية وغيرها .

غير أن حميد هنا لا يُركِّز على البراميل، وإنَّما يُلقي الضوء على ثنائية اليمين واليسار، كرسي على اليمين، وكرسي على اليسار، وبقلبه كرسي مكتب دوار ، وهنا الكرسي نلحظ أنه مرتبط بفكرة (دوَّار) ، كما أنَّ البراميل عند حميد مرتبطة بثقافة النفط ، وكأنَّه يريد أن يقول لنا أن اليمين واليسار في الغرب لا يعنيهم إلا النفط ، فهذه البراميل تذهب محمَّلة بالنفط ، وتعود إلينا بالمخلفات وكأننا مجتمع استهلاكي فقط .

إنَّ حميد يستخدم تقنية الإضاءة ، ليُلقي الضوء على تفاصيل المكان، وكأنه يريد أن يبثَّ الحياة في هذه الرموز، ليجعلها في مقدمة وعي المتلقي، هذا المكان بهذه التفاصيل الذي يبدو كأنه مكان خلف محطة قطار ، هو القطار الذي فات العرب، فالقطار هنا رمز للتطور والتقدم ، المكان يبدو أنه في فرنسا ، لكنه في واقع الأمر هو مكان عربي خالص ، فالمكان بسكانه، وسكان هذا المكان هم على التوالي : عيد ، سعيد، نسيم، ثم النصراني والمؤمن، وبسام وفرحان ، والمرأة فلونش .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى