الطفولة ليست في أيدٍ أمينة
سهيل كيوان | فلسطين
تحتفل الكثير من دول العالم في العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني بيوم الطفل العالمي.
عندما نذكر حقوق الطفل، يتبادر إلى أذهاننا الغذاء والأمن والمسكن والتعليم والدواء.
هذه أمور يجب أن يكون مفروغاً منها لدى الشعوب المُتقدمة، وأمتنا العربية ليست حديثة بين الأمم، فهي من أوائل الأمم التي يجب أن يحظى أطفالُها بهذه البديهيات، أما عدم توفّرها لجميع أطفال أمتنا، فإنما يعود إلى القيادات التي لم تحسن إدارة هذا التاريخ وهذه الحضارة العريقة.
كلّما كان نظام الدولة متقدماً أكثر وأعمق، ذهب إلى احتياجات الطفل الأكثر تعقيداً وتنوُّعاً، التي ستؤثر مستقبلاً على مصير الطفل بصورة شخصية، ثم على شعبِه وأمّتِه وحتى على البشرية كلها، فالطفل الذي عمره اليوم ثلاث سنوات، ويطلق النار لعِباً ويقتل مخلوقات افتراضية، هو نفسه الذي سيكون جندياً أو شرطياً بعد خمسة عشر عاماً، وسيحمل سلاحاً حقيقياً، وسوف يستعمله كلعبة ضد البشر المختلفين، أو ما قيل له إنهم الأعداء، والطفل الذي يقرأ أو يقرأون له قصة، تقنعه بأن عِرقه أو طائفته أرقى من أعراق البشر الآخرين وطوائفهم، سوف يكون هو السِّياسي العنصري المحرِّض على العنف ضد الآخر والمختلف.
الخُرافة الدينية التي تعطي الطفل الحق في أرض وأموال الآخرين، ستجعل منه المستوطن المستعد للسَّرقة والسَّلب والنهب والقتل بدم بارد، وهو ما يحدث على أرض الواقع في فلسطين.
تعتبر الألعاب حلقة أساسية في حياة الطفل، فهو يعيش مع ألعابه التي تؤثر على شخصيته، أي أن مُصمِّم اللعبة الذي يجلس في نيويورك أو في شانغهاي أو ميونيخ، هو شريكك في هندسة شخصية ابنك أو ابنتك.
إلى جانب الألعاب التي تُنمِّي الذَّكاء، وتمنح المتعة والشعور بالجمال، هناك الألعاب التي تنمّي العنف والعنصرية، أو حتى نظرة الطفل الدونية إلى أبناء أمَّتِه وشعبه، أو إلى شعوب العالم الفقيرة، وتمجيد الشعوب المتقدِّمة تكنولوجياً، وتجعل من الشعوب الضعيفة شرِّيرة، وما دامت أنها كذلك، فلا مشكلة أخلاقية في إبادتها وإذلالها، سيعرفها الطفل من خلال رموزٍ ترتديها أو ملامح أوعلامات تميُّزها عن غيرها.
إضافة إلى هذا، فإن ألعاب الأطفال التي تدرُّ المليارات سنوياً، تسهم بشكل كبير في التلوث البيئي، لأن معظمها في الأساس من البلاستيك. ولهذا، وبما أن الجهود تزداد وتتكثّف عالمياً في اتجاه ترشيد التعامل مع البيئة، فإن شركات كبيرة بدأت بإجراء دراسات، وتخطط لإنتاج ألعاب الطفل المستقبلية المتصالحة مع البيئة، وإن كانت تكلفتها أعلى، فهي ستكون مربحة بالذّات، لأنها ستكون ضمن توصية الأهل والمؤسسات التربوية الرسمية.
إضافة الى الألعاب، فهنالك الأدب الذي يسهم في بناء شخصية الطفل وقِيَمه، والذي يوجِّهُ ويبلور أفكاره، ولهذا يجب انتقاء أدب الطفل بعناية، والابتعاد عن الأدب العنصري في أي لون من ألوان العنصرية، وعن الأدب الذي يقدِّم الخرافات كحقائق مفروغٍ منها، سواء الأدب في صيغته الورقية أو على اليوتيوب وغيرها.
في الفترة الأخيرة قُمت ومديرة المكتبة العامة في بلدة نحف السيدة هدى عيسى، بإعداد معجم بأسماء كُتّاب الأطفال في منطقة فلسطين 48 والقدس المُحتلة، فجمعنا حوالي مئتي اسم كتبوا في أدب الأطفال، نصف هؤلاء الكتاب والشعراء ظهروا في العقد الأخير.
يشهد الكثير من هذا الأدب توجُّهاً واضحاً إلى تنمية الشعور الوطني عموماً، وبالنَّكبة بشكل خاص، فكثير منه يُذكّر بأسماء القرى التي هُجِّرت، وهناك قصص تحكي عن تاريخ الأمَّة وأمجادها، وأخرى تأخذ الطفل من عاصمة عربية إلى أخرى ليتعرّف عليها، وعلى رموزها التاريخية والعمرانية أو الثقافية، وهنالك قصص عن مفتاح الجَد الذي هُجِّر من بيته ودياره، وعن برتقال يافا الذي كان، وعن الزيتون والصَّبار والتين، والتمسُّك بالأرض والدفاع عنها، وقصص عن مواجهات وأسرى وشهداء وجرحى وعن حقِّ العودة وجنود أشرار ولصوص، بعضها على لسان البشر، وأخرى على لسان الحيوان والطير، وعن المُدن الفلسطينية، وخصوصاً مدينة القدس التي تتعرض إلى هجمة تهويدية.
يُلاحَظ أن بعض القصص نجح في هدفه وبمتعة، وبعضها وقع تحت تأثير اللحظة الآنية الضاغطة، وتحوَّل في كثيرٍ منها إلى بوق لأفكار الكاتبة أو الكاتب، بصورة قريبة جِداً من المباشرة والتلقين، ويخلو من الحبكة التي تُمتِع المتلقي وتفيده في الآن ذاته.
إلى جانب هذا فهناك أدب القيم الإنسانية العامة، والأخلاق والطبيعة والمناسبات الدينية، وعن ذوي الاحتياجات الخاصة، والتعايش بين أبناء البشر، والتعامل الآمن مع وسائل التواصل والحياة اليومية وغيرها، وبعضها ذات مستويات عالية.
مثلما للطفل حق في الأمن والغذاء والتّعليم والدواء، فمن حقه ألعابٌ صديقة له ولبيئته، ومن حقه أدبٌ يربِّيه على الإنسانية والتسامح والحياة السِّلمية وتقبل الآخر واحترام الاختلاف وعقائد الآخرين وحرية التفكير ورفض القَوْلبة والبديهيات الجاهزة.
من خلال ما نرى وما نسمع من ممارسات قادة البشرية، نفهم أن البشرية كلَّها ما زالت في مرحلة الطفولة، وهي ليست في أيدٍ أمينة، لا على البشر ولا على البيئة، فهناك ملايين الجياع من الأطفال، وملايين لا يدخلون المدراس، وملايين يُستغلون جنسياً، ويقتل منهم ويباد كثيرون، وهذه مرحلة قد تستمر بضعة قرون أخرى، إلى أن تغدو البشرية أكثر نضجاً ومسؤولية وإنسانية.
إلى ذلك الحين، سيكون أبناءُ أمَّتِنا مضطرين للدفاع عن أنفسهم، وعن أطفالهم، في مواجهة المُجرمين والمستهترين، سواء كانوا من أبناء جلدتنا تحت مختلف المسمَّيات، أو من المحتلين والطامعين الآخرين.