ضلالة هداية.. هل يستويان مثلا (١٥)
رضا راشد | الأزهر الشريف
مما يستثير دفائن الغيظ، وينشر مطوى الغضب، ما تراه في منكري السنة النبوية عامة ومحمد هداية خاصة: من التشبع بما لم يعطوا، كلابس ثوب زور؛ بحرصهم على أن يبدوا في ثياب المبدعين في تفكيرهم، وأن هذه الأفكار التي خرجوا بها على الناس إنما هي ولائد أفكارهم ونتاج عقولهم، فإذا ما أَجَلْت فيها عين النظر وجدتها أفكارا شيطانية ألقاها على ألسنتهم كبارهم من شياطين الإنس من دهاقنة المستشىرقين وأذيالهم من حثالات المستغربين ، وليس لهم فيها إلا الترديد كأنهم أبواق تكبر الصوت أو ببغاوات تردد ما يلقى على مسامعها.
شبهات وأباطيل ساذجة هي ميراث يقذف ماءها سلفهم في أرحام عقول خلفهم، فتراهم لا يخرجون عما قال آباؤهم من قبل قيد أنملة .
وهذا سبيل أهل الباطل منذ القدم؛ ألم تكن التهم التي اتهم بها أهل مكة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هي التهمَ نفسَها التي اتهمت بها الأمم السابقة أنبياءهم،حتى قال ربنا :{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر او مجنون^ أتواصوا به بل هم قوم طاغون}[الذاريات:٥٣،٥٢]
وظاهرة أخرى تجدها في فكر منكرى السنة؛ وهي تناقض أفكارهم، ومخاصمة بعضها بعضا، بحيث ربما تروج عليك الشبهة من شبهاتهم في بادئ الأمر ، حتى إذا نظرت إلى شبههم جملة وتأملت كلامهم تأملا شاملا، رأيت كلاما يكذب بعضه بعضا، وهذا أيضا ميراثهم من أوليائهم من أهل الباطل.
وإن شئت فانظر إلى ما سوغ به الكفار كفرهم بأنبيائهم، من بشرية الرسل:حيث قالوا :{ما هذا إلا بشر مثلكم يريد ان يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [المؤمنون:٢٤ ]،{قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيئ إن أنتم إلا تكذبون}[يس:١٥ ] ، {فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر}{القمر:٢٤} وتقليدا أعمى لهم قال أهل مكة: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك } [الأنعام:٨]
هكذا اعتمد السابقون في إنكارهم لنبوات الأنبياء على كونهم بشرا؛ استقصارا منهم للبشرية أن تتطاول إلى مقام النبوة ، ثم جاء خلفهم من بعدهم فرددوها ترديد الببغاوات بلا فكر ولا نظر ولا روية، مع أنهم لو تأملوا قليلا لوجدوا أنفسهم قد سقطوا في هوة التناقض؛حين استبعدوا على البشر أن يكون نبيا في حين أنهم أجازوا للحجر (الأدنى من البشر دركات) أن يكون إلها، فعبدوا الأصنام!!.
وهذا كمثل ما كان من محمد هداية في الشبهات التي اعتمد عليها إنكارا للسنة النبوية المطهرة، فقد استند إلى كون رواتها بشرا غير معصومين، مع أنه يخضع لنتائج العلوم الأخرى من طب وصيدلة وهندسة وفلك ورياضيات ولم يرفض شيئا منها اعتمادا على كونها حملتها بشرا، ولو فعل لنادى على نفسه بالسفه بل بالجنون، هل يستطيع هداية أن يتشكك في جدوى دواء أو ينكر المجموعة الشمسية أو أن دواء الداء الفلاني كذا وكذا لا اعتمادا على شيء إلا أن الذي اكتشفه بشر غير معصوم؟ هل يستطيع أن ينكر وجود فلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو، وأن لكل منهم فلسفة ما زالت أوربا تتدارسها حتى الآن، مع أن السند بيننا وبينهم منقطع. ثم إنه هو نفسه بشر، نسبة خطئه أكبر من نسبة صوابه؛ لأنه إن كانت الأمة في سلفها وخلفها قد أفلت منها الحق -كما يزعم ويهرطق-فلَأن يفلت الحق من شخص واحد منها أولى وأقرب.
أنكر محمد هداية الاستشهاد بالسنة؛ تذرعا بأن رواتها بشر غير معصومين، وهذه ليست فكرته، وإن حاول التظاهر بأنها من بنات أفكاره وولائد عقله، بل قالها أعداء السنة من دهاقنة المستشىرقين من قبل،ثم لاكتها ألسنة أذيالهم -ومنهم محمد هداية- من بعد.
ومما هو بسبيل من هذه الشبهة(الساذجة) التى تنادى على عقل قائلها-فضلا عن ناقلها- بالسفه والحمق: قياسه السنة على الكتب السماوية السابقة(كالتوراة والإنجيل) التي أوكل الله تعالى حفظها للبشر، فأضاعوها فحرفت وبدلت كما قال ربنا: {بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء}[المائدة:].
وأنا والله أكاد يلجم لسانى في فمي؛ تعجبا من كل هذا الخبث كيف يكون؟! ولكن مما يزيل العجب أن الله تعالى أخبرنا بأن عداوة للإسلام ستكون من الكافرين والمنافقين، وأن المنافقين لا يزالون يثيرون الشبهات في الفينة بعد الأخرى حربا على دين الله؛ولهذا أمر الله المؤمنين في شخص النبي صلى الله عليه وسلم بمجاهدتهم فقال ربنا :{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير}[التوبة:٧٣] أفلو كان أمرهم هينا فهل كان ربنا سيسمي مجابهتهم جهادا، فمم العجب إذن؟! إن العجب حينئذ من العجب.
إن محمد هداية لا بد أنه يعلم-ضرورة- أن قياس السنة على الكتب السماوية السابقة قياسا يسوغ التشكيك فيها وفي ثبوتها قياس مع الفارق كما يقول الأصوليون، بل قياس لا يصح في العقل ألبتة، ولو كان لا يعلم فتلك مصيبة، على أنها- على كل حال- أهون شأنا من علمه؛ إذ الجهل أهون من الخبث والنفاق.
أرأيتم من نظر إلى إنسان آلي يتحرك يمنة ويسرة، دون تكلم أو إحساس، ثم رأى بشرا يتحرك ويحس ويتكلم، فأنكر أن يكون في البشر إنسان يحس ويتكلم، فلما سئل عن سبب إنكاره أجاب بأن الإنسان الآلي لا يحس ولا يتكلم، فكيف تثبتون للبشر إحساسا أو كلاما؟! منطق عجيب ذاك الذي يتكلم به محمد هداية، ولكن الذي يزيل العجب علمنا أنه في كلامه قد طلق العقل طلقة بائنة بينونة كبرى لا يحل له من بعد على الإطلاق .
لا يصح ألبتة قياس السنة -باعتبار أن نقلتها بشر- على الكتب السماوية السابقة، فنتشكك في ثبوتها تشككنا في هذه الكتب أنها ليست كلمة الله. ذلك أن هذه الكتب ، لا يعرف لها سند متصل إلى الأنبياء الذين أنزلت عليهم ؛ فلا التوراة متصل سندها بموسى عليه، ولا الإنجيل متصل سنده بعيسى عليه السلام ، وليت الانقطاع في السند ، إذ كان ، كان قصيرا ، إذن لهان الأمر، ولكنه يمتد لأكثر من ثلاثمائة سنة لايعرف عن هذه الكتب خلالها أي شيء:كيف كانت؟وإلام صارت؟ كما ذكر ذلك علماء مقارنة الأديان ومن نقلها عن من ؟وبأي لغة؟مما يجعل رياح الشكوك تنتابها من كل ناحية،
فهذا هو الشيخ رحمت الله الهندي يعقد الفصل الثاني من كتابه إظهار الحق لبيان أن أهل الكتاب ليس عندهم سند متصل يقول فيه:
“الفصل الثاني: في بيان أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد.
اعلم أرشدك الله تعالى أنه لا بد لكون الكتاب سماوياً واجب التسليم أن يثبت أولاً بدليل تام أن هذا الكتاب كتب بواسطة النبي الفلاني ووصل بعد ذلك إلينا بالسند المتصل بلا تغيير ولا تبديل، والاستناد إلى شخص ذي إلهام بمجرد الظن والوهم لا يكفي في إثبات أنه من تصنيف ذلك الشخص، وكذلك مجرّد ادعاء فرقة أو فرق لا يكفي فيه،”
وبعد أن نص على عدد من الكتب في العهدين القديم والجديد ليست صحيحة النسبة للتوراة والإنجيل باعتراف المسيحيين أنفسهم قال:
” فإذا كان الأمر كذلك فلا نعتقد بمجرد استناد كتاب من الكتب إلى نبي أو حواري أنه إلهامي أو واجب التسليم، وكذلك لا نعتقد بمجرد ادعائهم بل نحتاج إلى دليل، ولذلك طلبنا مراراً من علمائهم الفحول السند المتصل فما قدروا عليه، واعتذر بعض القسيسين في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم، فقال: إن سبب فُقدان السند عندنا وقوع المصائب والفتن على المسيحيين إلى مدة ثلثمائة وثلاث عشرة سنة، وتفحصنا في كتب الإسناد لهم فما رأينا فيها شيئاً غير الظن والتخمين، يقولون بالظن ويتمسكون ببعض القرائن، وقد قلت: إن الظن في هذا الباب لا يغني شيئاً، فما دام لم يأتوا بدليل شاف وسند متصل فمجرد المنع يكفينا”انتهى كلامه رحمه الله.
فأين هذا من السنة النبوية التي أحيطت بكل عوامل الحفظ والرعاية،وكان لعلماء الحديث من علم الحديث -بما اشتمل عليه من القواعد والضوابط – ما حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الضياع وما شهد للمسلمين به الأعداء قبل الأولياء، فأن تتجاهل علما ابتكره المسلمون خصيصا للمحافظة على السنة لتسوي بينها وبين كتب لا حظ لها من أي توثيق فهذا ضلال وخبث وبهتان.
أعلم أنك – يا هداية – لا تعترف بعلم الحديث؛ لأنه بزعمك علم رجال ولكننا لن نعترف بإنكارك هذا ؛إذ:
ليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكنى مضطر إلى أن أورد لك أقوالا لسادتك المستشرقين يثنون فيها على علم الحديث الذي لا يروق لك؛ فلعل ذلك يفتح منك قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما .
(^) فهذا هو القس مرجليوث (١٨٨٥-١٩٤٠م) -رغم عدائه الشهير للإسلام- يقول:”ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم”. وفي كتابه (التطورات الأولى للإسلام)يقول:
“حتى وإن لم نصدق أن جل السنة التي يعتمد عليها الفقهاء في استدلالاتهم صحيحة، فإنه من الصعب أن نجعلها اختراعا يعود إلى زمن لاحق يعود إلى زمن لاحق للقرن الأول ” .
(^) كما يقول العالم الألماني أشبره نكر:”إن الدنيا لم تر ولن ترى أمة مثل المسلمين، فقد درس بفضل علم الرجال الذي أوجدوه حياة نصف مليون رجل “.
وبعد:
فهذا غيض من فيض شهادة المستشرفبن لعلم الحديث الذي ابتدعه المسلمون وانفردوا به عن الأمم؛ توثيفا لصحة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم..ما نقلتها استكثارا بهم؛ فإنهم لا يساوون عندى- قياسا بعلماء أمتي- قلامة ظفر، ولكنى نقلتها احتجاجا على محمد هداية والمغفلين من أتباعه الذين يظنون في كل صوت معارض ناصح لهم أنهم ما فارقوا رائحة التخلف والجمود.
فهل يرعوي هداية عن غيه ويرتدع عن ضلاله ؟! أتمنى ذلك،وما ذلك على الله بعزيز.
يتبع