قراءة في قصيدتي “ساكن القلب – في حضرة عينيك” للشاعر التونسي د. طاهر مشي

محمد المحسن | تونس
– خيال شاسع، وواسع يصنعه الشاعر الكبير  د. طاهر مشي  بارتصاف كلماته وعباراته الشعرية،وعنصر الدهشة في الانتقال بين الصور و الأبيات الشعرية.
– تتميّز جل قصائد الشاعر التونسي الكبير د. طاهر مشي بكيميائية اللغة الشعرية الجميلة وتفاعلها في تركيب شعري عذب جميل له تأثيره في نفس القارئ .
إن الأسئلة والتحدّيات التي يواجهها الشاعر تكاد تكون واحدة في كلّ العصور،وأنها«أقربُ إلى الأزليَّةِ منها إلى الآنيَّة،فالأسئلة التي كابدها هوميروس الإغريقي،أو فيرجل الروماني،تقاربُ المطامح الغامضة لامرئ القيس أو المتنبي العربيّين،وهي ذاتها التي قد يصطدم بها أيُّ شاعرٍ حقيقيٍّ في كلِّ عصر ومكان.ما يختلف هو الشرط التاريخي،وخصائص المرحلة.
الأسئلة الوجودية الداخلية لا تتغيّر،ما يتغيّر هو المعطيات الخارجية.
بهذا المعنى، فإنَّ الأسئلة تأخذ صـيــاغات مــتـعـدّدة ومختـلـفـة لجوهرٍ واحد».وبهذا المعنى نفسه أضيف:
يبدو لي الشاعر الآن مثل الكائنات المهدّدة بالانقراض،وثمّة مِنَ الأشجار ما انقرَضَتْ فعلًا،أو مُسختْ إلى حجرٍ قاسٍ بلا ثمر أو ظلال،وهذا الحشد غير القابل للإحصاء ممّن يكتبون الشعر حولنا الآن أبطال وشهود على مأزق الشعر:انحسار نموذجه العالي،وشيوع الإسفاف والرداءة؛ لذلك فالمحنة هنا ذاتية مزدوجة قبل كل شيء،طرفها الأول أشرت إليه بتلك اللوثة الأزلية وغموض الأسئلة لدى الشاعر نفسه،وطرفها الثاني النماذج السائدة التي توحي بالقحط بل تُفصح عنه؛حيث التضحية بالفضاء الإنساني،والكوني،والركون إلى التعبير عن أوهام هويات ضيِّقة،والنزوع إلى .مطامح رثة..
ولكن..
للشعر التونسي روافد لا تحصى،تأتيه من منابع عدة،أبرزها تاريخ الشعر التونسي
الطويل،الحافل والممتد في عمق التجربة الإنسانية،والأسطورية.
شعر متعدد الطرائق والأساليب والرؤى،ومترع بالأسماء الكبرى،منذ بدء عملية التخليق الأوّلى للحضارات البكر،ولذلك نراه يتجدّد على الدوام،ويحفل بالتجارب والعطاءات والمواهب الكبيرة،والأسماء المميزة،واللافتة،والمثيرة.
أجيال ترفد أجيالاً متعاقبة وجديدة، وطالعة تخط ما تيسر لها من إشراقات شعرية،ومن نوازع وإرهاصات ودفائن رؤيوية، تقتحم بها عالم الشعر الواسع، والزاخر بالحركات، والتيارات والمدارس الشعرية، لتضيف لهذا النهر الكبير والجاري، أصدافها المتلألئة،لكي يظل لامعاً، ومضيئاً وجارياً،فوق أرض خصبة بالكلمات
الشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي شاعر حجز لنفسه مقعدا للشعر في عالم الإبداع تونسيا وعربيا،إذ ينطق بموهبة شعرية عربية أصيلة،يخضب حرفه بشاعريته وفلسفة أشعاره لتمتزج المدارس الأدبية الشعرية في كتاباته المتماوجة بين الرمزية والرومنسية، وليصير التشكيل السريالي في الرسم (الفن التشكيلي) ظاهرا في قصائده معلنا ميلاد شاعر متجه إلى البحث عن طريقة و أسلوب خاص لتبليغ رسالته الشعرية في عالم سريالي رائع مملوء بالتساؤلات والصور الشعرية المكثفة المتداخلة و التي إن دلت تدل على جمالية الإبداع و التحليق بالقارئ في صوفية الوجدان و عبقرية البوح العفوية التي يغرق فيها الشاعر د. طاهر مشي..
و لعلني أستشهد بقصيدتين من روائع قصائده الشعرية :
(ساكن القلب)
أَيَا مَن تَسْكُن القَلْب
مَتَى بِالحُبّ تُحْيينَا؟
فَقَد هِمْنَا بِكُمْ حُبّاً
وبَات العِشْق يُدْمِينا
وَنبْضِي مِن هَوَى خِلّي
غَدَا بَدْرا يُنَاغِينَا
عليلاً شابَه عشقٌ
فَهَام الليْل يُشْجِينَا
وبَاتَ الجُرْح أشْوَاكا
وَهَولاً سَاكِنًا فِينَا
وَنَبْضِي قَد غَدا مِنْه
بِهَجْر العِشْق يَشْقِينَا
وقدْ زدْنا به حزناً
عَذابًا كَمْ يُجَافِينا
أَيَا مَن أَنْتِ فِي قَلْبِي
مَتَى تَأتِي لِوادِينا؟
تَجُودُ الأَرْض تَحْنَانًا
بِدَمْع العَين تَسْقِينَا
وَنُنْهِي عِشْقنا وَصْلاً
وَبعْدَ الهَجْر تَشْقِينَا
^^^^^
في حضرة عينيك
قد بات قلبي في مداها واستقرْ
يهمى دروبي في روابيها انتشرْ
في مقلتي قد صابني سهم النوى
إذ ثار بركاني وبالنار استعَرْ
فتردد الأوصال من عزفي شذا
والشوق تؤويه الضلوع لمستقَرْ
يا بسمة الثغر الذي نطق الهوى
في حضنك الأيام تلهو والقدرْ
ومسافرٌ شوقي على طول المدى
أذروه دمعًا من عيوني ما انهمَرْ
في وصلك المشتاق ما رام الجفا
والنبض مبتور وأشقاه السهرْ
يا موطني فالزهر يسقيه الندى
تعلوه أشواق الغرام فما انكسَرْ
جئت المجير لحبنا أبغي الرضا
جئت السلام لعشقنا طول السفَرْ
ردي إلى قلبي السلام وصافحي
يكفي جفاءً فالهوى نبضي بترْ
إن القصيدتين اللتين بين أيدينا من روائع الشعر (وهذا الرأي يخصني)، ولعل القراءة الإنطباعية التي كنت قد قدمتها سريعة،إلا أننا نلمس أسلوبا جديدا في إيصال الرسالة الإبداعية انتفضت فيه شخوص متعددة داخل الفضاء الشعري للقصيدتين( الشاعر-الوَجد – العشق– الغرام.. مناجاة الحبيبة بأسوب شعري عذب..)، فالخلق الفني متفاوت في جسد القصيدتين تبعا لإهتزازت نفسية الشاعر بين الصوفية والرومنسية والرمزية والصورة السريالة الراقية ..
ونحن لا نبحث عن التجربة الانفعالية،بل نبحث عن قوة التاثير التي كان الشاعر موفقا فيها بطريقته الإبداعية،لأن معيار التمكن الفني لا يكمن في ارتباط القصيدة بذاتية المبدع،بل يتحوله إلى معيار التمكن الموضوعي عندما تترك القصيدة أثرها و مدى تأثيرها في عقل وقلب المتلقي للرسالة الإبداعية.
تجليات اللغة الشعرية لدى الشاعر الألمعي د. طاهر مشي:
ونعني باللغة الشعرية ما تعارف عليه النقاد من استخدام الشاعر لمكونات القصيدة اللفظية ذات التداعيات والدلالات الإيحائية،وهو ما اتفقوا عليه بالمدلولات الانفعالية للكلمة،ولا يعنينا في هذا المقام ما قال به بعض النقاد من مفهوم للغة الشعرية بأنها الإطار العام الشعري للقصيدة ، والتي يقصد بها مكونات العمل الشعري من ألفاظ وصور وخيال وعاطفة وموسيقا ومواقف بشرية .
وعليه،فقد تميزت لغة شاعرنا (د. طاهر مشي) في جل قصائده التي إطلعت عليها بالشفافية والوضوح،فهي بعيدة عن لغة التعتيم والتهويم في سرف الوهم واللاوعي،تلك اللغة التي تلفها الضبابية القائمة والرمزية المبهمة،فلغته ناصعة واضحة لا غموض فيها،وتعبر عن مضامينه بأسلوب أقرب فيه إلى التصريح المليح منه إلى التلميح،وهذا يعني أن الشاعر (د. طاهر مشي) ذو منهج تعبيري سلس،وقاموسه الشعري لا يحتاج إلى كد ذهني وبحث في تقاعير اللغة،وأنا إذ أصرح بهذا،إنما أغبط شاعرنا على الرؤى الواضحة والألفاظ المعبرة بذاتها.
وختاما لهذه الدراسة النقدية التأملية المتواضعة والمتعجلة أيضا أتقدم للشاعرالتونسي الكبير والمتألق (د-طاهر مشي )بالشكر و التقدير مع دوام إبداعه الراقي الجميل..
ولنا عودة إلى هاتين القصيدتين الرشيقتين،وغيرهما من القصائد العذبة عبر مقاربات مستفيضة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى