دراسة نقدية في قصيدة ( لله ياعباس )

كريم القاسم | العراق

(جمال التصوير الشعري في الشجاعة)
دراسة نقدية في قصيدة ( لله ياعباس ) للشاعر الشيخ ستار الزهيري

ــ نحن نعلم ان الصورة الشعرية هي ركن اساس في الشعر وبكل تصنيفاته ، ولولاها لما كان الشعر شعرا . بل وهي سِمة ملازمة للشعر منذ القدم ، وتختلف هذه الصورة من شاعر الى آخر حسب ما يختزنه من تراكم ثقافي وتنوع معرفي ، ولهذا يختلف تصوير هذا الشاعر عن ذاك ، ويؤثر هذا الشاعر في حس المتلقي دون ذاك.
( للهِ يا عباس)
الشاعر الشيخ / ستار الزهيري

للهِ يا عبَّاسُ كيفَ ركِبتَها
ما بينَ هائِجَةِ الخيولِ وحزبِها

حتَّى توارتْ بينَ كَفِّكَ واللِّوا
دنيا الوجودِ بشَرقِها وبغَربِها

الطَّفُّ يَصفَعُهُ الذُّهولُ بوَقعَةٍ
وأخو العَقيلةِ عَقلُها وعَقيلُها

مَعصوبَةُ العينينِ تمشي بكربلا
هذي الخليقةُ والطريقُ وراءها

لَمّا غَشا العبَّاسُ أركانَ الوغى
صاحَ العدوّ: الأرض تَرجِفُ مالَها

وتقدَّمَ التّاريخُ يَكتُبُ لَحظَةً
يُطوى الوجودُ وعُمْرُهُ بزمانِها

ما بينَ عَينَيكَ ٱنهمارُ مَواقفٍ
لكنَّما ضيقُ الزَّمانِ أَعاقَها

عَيْنُ السَّماءِ مَكانَ عينِكَ أُطفِأَتْ
أوَ لا تَرى عندَ الغروبِ غِيابَها

بَهِتَ المُطَهمُ عندَما أورَدتَهُ
ثَغرَ الفُراتِ فلَمْ يُجزْ في شِربِها

علَّمتَهُ .. أمْ كانَ مِنهُ سَجيَّةٌ
منْ يصحبُ العبَّاسَ يأتي بمِثلِها

ما زُلتُ أنظرُ في لِوائِكَ أَنْهُراً
قصَّتْ على الآتينَ قصَّةَ مَهرِها

وأصيخُ سمعي..في زفيرِكَ صَرخةً!
يا لوعةَ الأيتامِ بَعدَ شَهيقِها

وتَشابَكتْ صُوَرُ الجَمالِ عَلَيكُما
حتى توَهمَ خاطري مَنْ ذا بِها

قدْ عاشَ قلبُ السِّبطِ فيكَ وعشتَهُ
فاعتاصَ أمري وٱستبيحَ بدَركها

يا مُولِعاً طَرَفَ الرِّثاءِ بمُهجَتي
ومؤجِجاً صورَ الحِمى في
طرفِها

تلكَ الملاحِمُ حيثُ أنتَ خطَبْتَها
كيفَ استطاعَتْ أن تَفْي لخطيبِها

أوقدتَ وجهَ النيِّراتِ بنَظرَةٍ
وسَكنتَ مَجروحَ الجَبينِ بضَوءِها

إني على كفَّيكَ لوعَةُ ثاكِلٍ
تُخفي الأنينَ وراحَتي في ثارِها

وأُحسُّ نيرانَ الحَريقِ بأضلُعي
إدرُكْ أَبا الفَضلِ الحَميَّ خيامَها

 سأقتطف من هذا الفيض الكريم بيتين شعريين فقط ، لخصوصيتهما لديَّ مِن وجهة نظرٍ نقدية تحليليلة ، رغم ان النص الباذخ قد اشرق بصور شعرية أخرى تجسد سِمات سيدنا العباس بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهما ، ذلك الرجل الهمام ، حامل اللواء الباسل المغوار، صاحب الشيمة والغيرة التي قلَّما نجدها عند الفرسان على مدى التاريخ ، رغم ان أقلامنا مازالت مُقصِّرة خجولة امام هكذا رجال وهكذا بطولات .
• الصور الشعرية المنتقاة هنا تتمثل في تجسيد شجاعة وبسالة وفروسية سيدنا العباس بن علي ، وعندما تتمثل هذه الشجاعة بصورٍ شعرية يجب ان تكون دالَّة وفاعلة في وجدان المتلقي ، ويجب أن تكون برتبة موازية الى رتبة الشخص الموصوف في القصيدة .
• لنتأمر هذه الصور الشعرية الرائعة في نظم الشاعر الشيخ (ستار الزهيري)

أولاً : الصورة الشعرية المتمثلة في البيت الأول التالي :

(حتَّى توارتْ بينَ كَفِّكَ واللِّوا …. دنيا الوجودِ بشَرقِها وبغَربِها )

ــ الصورة الشعرية الظاهرة هنا هي صفحة قتالية تصف نصراً مؤزراً في تفريق الجيش بسراياه وكتائبه ، هذا النصر جاء ضمناً في التصوير ، وهنا تتجسد فطنة الناظم والشاعر .
فبإمكان الشاعر ان يرصف الفاظَ النصر ومرادفاته في النظم ، وفي هذه الحالة سيدخل الصورة الشعرية في رتبة الواقعية وهو ما لانرجوه في التصوير الشعري ، فكلما كان الخيال خصبا ، كلَّما كان التصوير الشعري أخّاذاً جارفاً للذائقة .
استعمل الشاعر مفردات دالَّة على المعركة (توارتْ ، كفكَ ، اللواء ، بشرقها وبغربها )
ــ إذا توفرت في هذا الفضاء التأليفي العناصر التصويرية التالية :
1- نتائج فعل المحارب الجسور / وهو (توارت دنيا الوجود))
2- ادوات الحرب / اشار لها مجازا في (كفّكَ) ويعني السيف ، و(اللواء)
3- المكان / وهو الوجود شرقا وغربا وهو مجاز آخر لكثافة الجيش واتساع رقعة المعركة .
ــ وحسناً فعلَ الشاعر حيث لم يأتِ بعنصر الزمان ، كي يعطي للصورة الشعرية صفة الاطلاق والعموم ، كون هذه البسالة متجسدة في كل معركة وليست لمعركة محددة العنوان .
ــ استعمال مفردة (توارتْ) هي الانسب لهذه الصورة الشعرية والتي تعني التستر والاختباء ، وبمقدور الشاعر ان يأتي بمفردة (اختفتْ) لكنها لن تفي بالغرض المرجو للصورة ، فلقد حَصرَ صورة البطولة بين قطبين (اللواء والكف الضارب) تفصلهما عن بعضهما مسافة ذراع واحد او اكثر قليلاً ، وكأنما حصر الجيش كله امام صدر سيدنا العباس ، حتى وإن كان ممتدا طول الوجود شرقا وغرباً ، وهذا الجيش العرمرم بكل جبروته قد اسستتر في هذه المساحة الضيقة ، بين الكف التي تحمل السيف والاخرى التي تحتضن اللواء خوفاً ورهبة ، طالبا الرحمة او النجاة .
*هناك فائدة اخرى لابد ان نلتفت اليها ، فقد يسأل سائل :
ــ ماسبب ورود مفردة (اللوا) في نهاية الشطر الاول خالية من الهمزة ( ء ) ؟
ــ الجواب /
إن اصل الكلمة هو (اللواء) ، وهنا يمكن استخدام الضرورات الشعرية ، وهي كثيرة جدا ومتشعبة ، وهذه احداها ، وتعتبر من الضرورات (المقبولة) والتي تسمى (قصر الممدود) حيث يمكن للشاعر أن يحذف الهمزة (ء) من الاسم الممدود ليصبح مقصوراُ لضرورة الوزن والقافية ، وهي حالة كثيرة الاستعمال حتى في الدعاء الادعية والخطب .

ثانياً: الصورة الشعرية الثانية المشرقة في البيت الشعري التالي :
(لمّا غَشا العبَّاسُ أركانَ الوغى … صاحَ العدوّ: الأرض تَرجِفُ مالَها )
ــ في هذه الصورة الشعرية نتلمس إختلافا واضحاً عمّا سبق رغم توحّد الهدف وهو إظهار الشجاعة والبسالة لسيدنا العباس رضي الله عنه .
ــ الاختلاف هو إن الصورة الشعرية الأولى غايتها الرئيسية تتمثل في وصف الفرار والجبن للجيش المعادي ، أما الثانية فالغاية هي وصف لفعل شجاعة الشخص الموصوف .
ــ الشاعر كعادته ابتعد عن كل ما هو مُستهلَك في التصوير الشعري ، حيث اجتهد ليأتي بالجديد والبديع ، وهو صورة شعرية تحمل سرداً قصصياً ، وهذا نهج نهجَهُ كثير من شعراء العصر الجاهلي كالشاعر امرؤ القيس وغيره .
ــ لقد وفرَتْ الصورة الشعرية هنا عناصر الاقصوصة :
1- الحدث : وهو ارتجاف الارض تحت اقدام الاعداء (الارض ترجفُ) لشدة هول ماأصابهم من خوف وفزع تحت ضربات سيف العباس
2- الشخصية المحورية : وتتمثل في شخصية واحدة لاتتحمل التشعب والتفريع وهو سيدنا العباس ، حيث جاء اسمه صريحاً ( لمّا غَشا العبَّاسُ ).
3- الزمان : وهو الليل ، وهنا ابدع الشاعر في اخفاء الظرف الزماني ، لكنه افصح عنه من خلال الفعل (غَشا) وهو بمعنى (أتى) ويستعمل دائما مصاحباً للتصوير والحَدَث الليلي أو في الظلام .
4- المكان : وهو (اركان الوغى) المتمثل في الجهات الاربعة لساحة المعركة .
5- الخاتمة : الصدمة ، وابراز عنصر المفاجئة للمتلقي وهو التساؤل (ما لها ؟ ) نتيجة الرجَفان والاضطراب ، ليكون الجواب حاضرا لدى المتلقي وهو المعنى والتصوير الشعري الذي تضمنه الشطر الاول من البيت .
ــ مما تقدم نجد الاسلوب السردي القصصي ساطعا في ثنايا البيت الشعري ، فالشطر الاول إبتدأه الشاعر بـ (لـمَّـا) وهي حرف جزم تختص بالفعل المضارع في حالات معينة وبالماضي في حالات معينة اخرى .
ــ هنا جاءت (لـمّـا) مختصة بالفعل الماضي (غَشا) إذا يتوجب وجود جملتين ، حيث يقتضي وجود الجملة الثانية عند وجود الاولى ، والاولى (لمّا غَشا العبَّاسُ أركانَ الوغى) فإقتضى حضور الجملة الثانية (صاحَ العدوّ ….. ).
ــ هكذا نسج ذكي ماهر يستدعي التوقف عنده ، حيث وفـرَّ الشاعر الاسلوب السردي في شطرين فقط ، فكان الشطر الثاني يتمثل في اربع (ثيمات) وأحداث مركَّزة ومكثَّفة الاشارة :
1- الأصياح : صراخ الجيش بعبارة : الارض ترجفُ
2- الأرتجاف : اضطراب الارض .
3- التساؤل : عبارة ( ما لها ؟ )
4- الصدمة : تمثلَتْ بطبيعة السؤال (ما لها ؟) وعدم معرفتهم بما حدث لهول الامر وشدته .
ــ أقول : شكرا لك ايها الشاعر … حقاً اجدتَ وابدعتَ .
• من هذا الفيض النقدي ، نود أن نبين إن النظم والشعر بكل مسمياته وفنونه يحتاج تثقيفاً معرفياً ذاتياً ، وهذا التثقيف لايأتي من فراغ ، إنما الاطلاع والمران هما السبيلان لذلك ، وقد يتسائل سائل :
ــ كيف استطاع الشاعر الزهيري من حبك هكذا عبارت وإجادة نظمها ؟
الجواب/
عندما يروض الشاعر أو اي مؤلف مَلَكَته التأليفية على التروي والتهذيب والتشذيب لكل مايكتب وإن طال به الوقت ، لاشك إنه سيصل الى مبتغاه ، حتى يصبح الامر كالسليقة والسجية المواكبة لما ينظم من شعر وينسج من عبارات ، فالزهيري لم يكتب حديثاً ، بل مرَّ بتجارب ومنغصات وعقبات حتى وصل الى ماوصل اليه .
• ان التصوير المنسجم المتفاعل مع هدف النص قد أضفى عليه صبغة القوة الجاذبة للذوق والمتفاعلة مع وجدان القاري والسامع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى