صَقيعُ الغُرَّبةِ
فايز حميدي | شاعر فلسطيني – أمستردام
-١-
أرَى فيمَا أرَى
تَثائبَ النَّهارُ وَغَفى
كَقطرةٍ لَمَعت في الضُّحَى
وَتشامخَ الغُروبُ وَتوَارى
وهزَ خَاصرةَ الليلِ
العَتمةُ تَتمرغُ بِنشوةٍ على بِساطِ المَدى
تَجهرُ بالوَلاءِ لِصداقةِ الرِّيح !!
والزمنُ جَارٍ في عُروقِ الحَياةِ ..
ذَاكِرَتي تُحَاصِرُني تَنوءُ بِحمْلِها
أفتحُ رِئتيَّ للفَضاءِ
فَتومِضُ عُيونُ الطَاغية
وَتمتدُ أذرعةَ المنَافيَّ
هُناكَ في البَعيدِ البَعيدِ ..
بَريقُ الفَجرُ يَحتضر
وَوجوهٌ تَرفعُ نخبَ أشْجَانِها
بيوتٌ تَئنُّ وأفواهٌ قَتيلةٌ
وَمسَاكنٌ غَادرتها مفَاتِيحُها بِلا رَجعةٍ!!
يَا حَنيناً يَحضنُ بَوابةَ القَلبِ
لأروَاحٍ مُطوَقةٍ في زَنَازِينِ الوقتِ والرَّدى
مُصفدةً أيَاديهُم مَغلولةً أقدَامُهم
سَحَقتهم رُحَى الزَّمنِ وَغُبار السِنينِ
مُدنٌ تُجرجرُ عَارَها !!
والعُمرُ الحَزينُ مُوغلٌ في عَراءِ الشَّجن
في رِئتيَّ وَطنٌ يُقشِّر حُزنهُ
وَيجهشُ بالبُكاءِ
وَجَسدٌ مَوشومٌ بِحوَافرِ التَتارِ
وَجائعٌ يَرى الشَّمسَ رَغيفاً
وَمُتيماً يَرى وَجهَ حَبيبتهِ شَطيرةً
يَأكُلها اليبَاس ..!!
-٢-
هيَ الغُربةُ نُقطةُ ضَوءٍ مُكحلةٍ بالأمَلِ
وَردةٌ تَمرحُ في ذَاكرةِ الوَرى
وَأهِزُ جِذعَ النَخلةَ فَأرى
وَجهٌ مُعفرٌ
وَمَوجٌ تَائهٌ
وَذِهنٌ كَئيبٌ
وَنخلةُ صَقرَ قُريشٍ في رَصافةِ الأندَلس
غَريبُ الوَجهِ واليَدِ واللسَانِ
في ليَاليَّ شَمال الشَمال
السَّماءُ عَميقةٌ عِندَ حَافةِ الكَون
صَقيعُ غُربَتِها بَحرٌ وَحشيٌ
وَمخالبٌ شَرسةٌ
وَرَصِيفانِ تَلمعُ بينَهُما سِكةً حَديديةً
وَأجنحةُ النّوارسُ تَهرمُ في خَريفِ الطَريقِ
وفي الأُفقِ رفُّ غُربانٍ بِلا انتِهاء
وأشرِعةٌ سَوداء تَحزُّ صَدرَ المَدى
في وجُومِ ليلي الشَتَوي
أُقلبُ الأيامَ
وَأقرأُ رِمالَ خُطايَ
تَاريخٌ يُضللهُ الوضوحُ
وَنبضٌ أثقَلتهُ كَثافةَ الرُؤيَا
أُحاورُ رُوحيَّ
وَينفجرُ الصّمتُ دِماء !!
مُثقلُ الجَسدِ ، مُطبقُ الجِفنِ
مَصلوباً في العَراءِ
وَجنونُ الهرَاوةِ على الظَهرِ
أرْنو إلى مَاضٍ تَدرجَ لَونهُ
وَاستقرَ بِلونَ الرَّماد
أُعانِقُ نَزيفَ اللحظَة
تَذبلُ الحُروفُ وَتتصحرُ الصَلواتُ
وَيختنقُ النَغمُ
وَأشاطِرُ النِجمَ السُّهاد
-٣-
يَا بِلاديَّ !!
كَم انتَعلنَا حِذاءَ الوَهمِ
وَشَرِبنَا ميَاهَ الصَحوِ المُوجعِ
في بِلادِ الأكفَانِ !!؟؟
يَا شَامُ نَشيدُنا مُخضلٌ بِالعتَاب
تتدثَرينَ زَبدَ البَحر مُزينٌ ببيرقٍ من ضِياءِ
وفي سُهوبِ الذَاكرة
حِكايةُ جَمرٍ وَخيطُ رَجاء
مَا زلْنَا كَما نَحنُ
نَزرع الحُبَّ هَاتفينَ للكِفاحِ
وفي حَنايَا الدُّجَى نضيء الشموع
وَنولِّدُ الوردَ من مُخيلةِ اليَباس ..
أنشِدُ بِلاداً كأوطَانِ النُجومِ يَعلوهَا النَّدى
دَافئةً كَحُضنِ حَبِيبتي
تَطوي ظِلالَ اليأسِ رُوحاً من سَناءِ
وَسَماؤها تُقاومُ لا تُساوِمُ
وأنهرٌ مُشرقةٌ تَتَبدى منْ شَفا الأَملِ
أيُّها العَالَمُ
الهَالِكُ
الأبْكَمُ
المُتَواطِئُ
الزَائِغُ بينَ الوجُودِ والعَدمِ
أَلا يَا زَمانَ الصَّمتِ والأهزُوجةِ الحَزِينةِ
مَتى تُشرِقُ بَسمةُ الرَّبيعِ
تُزهِرُ وَتُثمرُ في غَدِنَا الآتي ؟!!
مَتى نُحيي الوعُودَ من رُقَادِها العَميق
وَنُسافِرُ في العَوسَجِ نَحوَ الحَصَادِ ؟!
( القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية )