مقال

كيف تفشل الرؤى المثالية في ملامسة الواقع البشري؟

أوهام الفلاسفة

ظهير طريف فالح| العراق

قد يتساءل البعض: لماذا نسعى لفهم طبيعة الإنسان على حقيقتها، وما الفائدة العملية التي نحصل عليها من ذلك؟

في الحقيقة، أننا لا نستطيع أن نصلح الانسان أو نعالج مشاكله ما لم نفهم طبيعته التي جبل عليها. فقد أخطأ المفكرون القدماء حين تصوروا الطبيعة البشرية كأنها نتاج العقل، وتصوروا العقل كأنه موهبة عليا وظيفتها الوصول الى الحقيقة، واعتقدوا أنه يمكن إصلاح البشر من خلال الموعظة والخطابة والنصيحة، صاغ هؤلاء المفكرون صورًا مثالية للإنسان، كما فعل أفلاطون في “جمهوريته” والفارابي في “المدينة الفاضلة”، ثم دعوا الناس لتبني هذه المثل، كان اعتقادهم أن الإنسان، بمجرد أن يتعرف على هذه المثل ويقتنع بها عقليًا، سيبدأ في تحقيقها في ذاته ومجتمعه، مما يؤدي إلى تحقيق الصفاء والهناء .

لكن هذه الافكار المثالية أخفقت في التأثير الفعلي على حياة الناس، الذين ظلوا متمسكين بنمط حياتهم التقليدي، وعندما تعلم بعض الأفراد فلسفة معينة، تعالوا على الآخرين وتبنوا دور الواعظ، لائمين الناس على سوء أخلاقهم، رغم أن سلوكهم الفعلي لم يكن مختلفًا كثيرًا عن سلوك من يلومونهم .
إذا فشلت فكرة مثالية في التأثير على البشر على مدى الأجيال ، فإن اللوم يقع على الفكرة نفسها وليس على البشر. فالبشر جبلوا على طبيعة معينة لا يمكنهم تغييرها بسهولة. لذا، يجب علينا تعديل الأفكار لتناسب الطبيعة البشرية بدلاً من محاولة تعديل الطبيعة البشرية لتتوافق مع الأفكار المثالية.

      صور لنا الفارابي في كتابه《المدينة الفاضلة》مجتمعاً سعيداً يعيش في أتم الصفاء والهناء، وكان رأيه أن من أهم خصائص هذا المجتمع وجود رئيس صالح فيه ينظم شؤونه ويحكم فيه بالعدل. وقد ذكر الفارابي الصفات المثالية التي يجب أن تتوفر في الرئيس حيث يكون تام الأعضاء فاهماً ذكياً فصيحاً معتدلاً صدوقاً عادلاً قوي العزيمة محباً للعلم معتزاً بكرامته .
الفارابي وأمثاله من المفكرين القدماء لم يتناولوا التساؤلات العملية مثل: أين يمكننا العثور على هذا الرئيس الكامل الذي وصفوه؟ وكيف يمكننا أن نجعل الناس ينتخبونه؟ لنفترض أننا عثرنا على هذا الشخص المثالي وجئنا به إلى الناس، وطلبنا منهم انتخابه لتحقيق السعادة، فهل سيتفق الناس على هذا الرأي؟

   إن البشر على توالي الازمان لا يمكن أن يتفقوا على رأي واحد ولو جاءهم هذا الرأي من السماء، فهم لابد أن ينقسموا عليه وقد يتنازعون حوله أو يتقاتلون.
إن الشخص《الكامل》الذي جئنا به اليهم لا يكاد يصل اليهم حتى يظهر تجاهه منافسون يحسبون أنفسهم أفضل منه وأعدل وأذكى، ثم يحاولون أن يجمعوا حولهم الانصار، وعند هذا يبدأ الجدال بينهم وربما أدى ذلك إلى التشاتم أو التشابك بالأيدي أو التضارب بالسيوف، وقد تنتهى المعمعة بسقوط الشخص 《الكامل》 على الأرض مضرجاً بدمائه.

    يبدو أن الفارابي وأمثاله يعيشون في عالم خيالي منفصل عن الواقع البشري. يضعون خططًا لإصلاح المجتمع دون النظر في مدى إمكانية تطبيق هذه الخطط عمليًا على البشر.من المؤسف أن بعض المفكرين والكتاب المعاصرين ما زالوا يتبعون هذا النمط المثالي. يروجون لأفكار كبيرة دون مراعاة مدى توافقها مع الطبيعة البشرية، يجب إعادة تقييم أفكارنا وجعلها متوافقة مع الواقع البشري..اليوم، نحن في حاجة ملحة لإصلاح الأذهان قبل الشروع في إصلاح المجتمعات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى