قراءة نقدية: سيموطيقيا ‘العود الأبدي’
سوران محمد
اذا يری الكاتب الفاضل مصطفى معروفي بأن آلية الغموض في الشعرهي آلية الإبهام ، فأنا أرى ان لغة العصر تتطلب منا ان نخرج من التعريف التقليدي للشعر الموصوف بالكلام الموزون المقفى، اذ ان دوامة الحياة في حركة مستمرة للأمام و قد يتدخل أمور شتى في خلق نص أبتكاري، هنالك قراءات و عوامل اجتماعية و نفسية و فكرية و الخ … قد تترك بصماتها على النصوص الجيدة، وقد يختار الناقد مذهبا نقديا مختلفا لقراءات نصوص متعددة و متفاوتة، على سبيل المثال ان النص الذي يتناسب معه مذهب النقد البنوي ربما لا يتناسب هذا مع الآخر بل يمكن فك شفراته عن طريق مذهب التفكيكي أو السيمولوجي أو التحليل النفسي و الاجتماعي… فلو أخذنا نصوص الرائد المذهب السوريالي والطبيب النفسي الفرنسي أندرية بريتون نرى انها لا تتعدى أصابع اليدين، لكنها تتألق في قمة الابداع والغموض و تحتمل أوجه عدة للفهم والتحاليل و بحاجة الی بذل جهود للاستنباط والتفسير.
صحيح ان هنالك سيلا جارفا من النصوص الذاتية والتي هي أقرب إلى الخاطرة و السرد الذاتي أو هموم الحياة اليومية لکاتبه دون مراعاة أدنى شروط صياغة الشعر شكلا و مضمونا، لكن في الجانب الآخر علينا ان نحذر الوقوع في التفريط بحق كل النصوص الحداثوية، ولو ان هذه الفئة تعتبر قلة قليلة اذا قارناها بالاغلبية العظمى و لاننسى بأن الاعتباطية هي بذاتها من سمات الحضارة الغالبة في يومنا هذا! اضافة الی ذلك غالبا ما يتحكم بالشعر عوامل مخفية خارج عن عالم المادة، و كما قيل “ان الشعر جمال وغموض محبب يبعث النشوة في القلوب.. شلال يتدفق من مشاعر الإنسان حين يحدث ذلك التفاعل الغريب المفاجئ بين عناصر الطبيعة وعناصر الإنسان وعناصر اللغة” أو كما قال الاديب المشهور واسيني الأعرج : في مدننا شئ من السحر والغواية لا يعرفهما إلا الشعراء.
فلنأتي بمثال يحتذى به و نبدأ بالكلام حول النص الابداعي (العود الأبدي) للشاعر المتمكن والموهوب أحمد برقاوي، فلم لا؟ وان هذه القصيدة مليئة بالرموز والصور الشعرية المتجددة، من العنوان الی المضمون نحس وكأننا أمام لوحة مدهشة لرسام محترف معبئة بالالغاز و متعددة بالمعاني الفلسفية العميقة، فهو يخرج من اطار المألوف في صياغة نصه، بل يبتعد كل البعد عن الذاتية المحبطة واللغة السطحية اليومية.
ان الاستخدام الكفوء لمصطلح (العود) في العنوان يحفزنا أن نفسره بأشکال متعددة من بينها آلة العود الشرقية الأصل أو العود من الاعواد، واذا نقرأه بفتح العين فهي تجرنا الى عالم آخر وهي العودة الابدية أو اللاعودة، فلنتسلق الجدار الخلفي للنص و نری لماذا يجرنا بشغف الی عالمه الضبابي ويشجعنا على کتابة هذا التحليل السيموطيقي؟
ربما قد سئم شاعرنا المرموق من كثرة استخدام ضمير المتكلم في نصوص الشعراء فلذا لا نرى حظا ولو يسيرا للذات في هذا النص المتألق، فهو يحاول جاهدا الاستفادة من استعمال استعارات و رموز شتی في رقعة جغرافية صغيرة بالقرب منها أو حتی في الكون الشاسع کالـ(الصخرة، الاشجار، القمر الشمس، النمل، القبور، شغب، جسد، القطار)، و مع هذا الكم من المعطيات سيسهل لنا الشاعر فهم مقاصد النص باعطاء الصفات المتلازمة مع كل عنصر من هذه العناصر بهذه الاشكال و حسب هذا الترتيب:
الصخرة: لا تأبه بالوقت (خارج الزمن)
الأشجار: دائمة الخضرة (ولا تقرأ!)
القمر: عين جاحظة (أعمى)، صامت
الريح: اللازمن
النمل: خارج الزمن (لايعرف الليل والنهار)
المقابر: الأبد الاصم
شغب: النهايات.
جسد: مضي حيث لا عودة (جريان)
القطار: سفر خادع للصناديق الفارغة
الذكريات: صناديق أمل فارغة
ولو نظرنا من منظور دلالي الی هذه العناصر و مررنا عليها من خلال اشاراتها البلاغية نصل الی استنتاج بان الشاعر يتحدث بلغة مبطنة و غنية جدا حول عالم الانسان و مکامنه، لکنه يرتقي بنصه الى مستوى عال من التقنية التعبيرية والغموض المعرفي بحيث لا يسترعي انتباه قاريء سريع العبور مع أول قرائته. فاعطاء اشارات الوقوف للصخرة والرزنامة لشجر هرم، و العين الجاحظة للقمر والتجول للنملة و احتفال المقابر و خداع القطار كلها صفات للبشر وقد أعطيت لهذه الرموز من الجمادات أو الحشرات، اذن ان الانسان هو المحور في هذا النص لكن طبيعة اللغة الدلالية الراقية في هذا النص تستر عنا أثناء المرور السريع عليه كل المعان المستورة الا ان ندخلها من بابها الخلفي کي نكشف المستور منها و نعطيها الحق اللازم بقراءاتنا المتعددة. ثم ان ملاحظة صراع ثنائية الصمت والحرکة و توزيعها علی العناصر تقودنا الى استنباط جديد للبقاء والفناء، أو العدمية والازلية.
وربما قد دفع الشاعر الشعور بالمسوءلية تجاه الحياة برمتها و مصيرها الحتمي حين ألف هذه القصيدة الجميلة المعبرة وکما قال رسول حمزاتوف: نحن الشعراء مسؤولون بالطبع عن العالم كله.
متن النص:
الصخرة التي تقف وحدها في الحديقة
لا تأبه بالوقت
الأشجار دائمة الخضرة
لم تعلق يوماً رزنامة على جذعها الهرم
القمر الذي يطل بداية كل شهر بدراً
بعين جاحظة
يظل صامتاً في كل تحولاته
لا زمن يدق باب الريح
وتسخر الشمس من مواقيت حُشرت فيها
النمل الذي يتجول في البيت باحثاً عن نقطة دبق
لا يعرف توالي الليل والنهار
المقابر التي تعج بالأموات
واحتفلت بدوران الأرض مرة واحدة حول الشمس
آوت إلى الأبد الأصم
الشغب الثمل والمتخم الراقص على أنغام النهايات
يزهو بحماقته أمام الأجرام والكواكب السابحة
في ليل الشهر الثاني عشر الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة
ويستيقظ صباحاً
على قرع باب مألوف
ويمضي الجسد سائراً على السكة إياها إلى حيث لا عودة
إلى محطة سفره
فسكة القطار المتوازية خادعة
القطار الذي يحمل صناديق فارغة
مكتوب عليها صناديق الأمل
مليئة بالذكريات
سائرة إلى مدافنها الأخيرة.