الخريف

منى مصطفى | روائية مصرية وكاتبة تربوية

تتباين أذواق الخلق في تفضيل الفصول الأربعة بعضها على بعض، وكنت ممن يحبون الخريف وتسبح روحي مع سحبه البيضاء، وأعيش معه نفحات الاستعداد للعيد، فكأن الدنيا تستعد للثوب الجديد، وتسقط كل فَضلة أرهقها الزمن أو أحدث فيها ندبة لتستبدلها بثوب الربيع المعطر بعبق الزهر،والصاخب بقيثارة الأمل وزقزقة الحياة،وكأنه وَقْدة الشباب التي لا تنطفئ … ثم يأتي الشتاء هدأة للدنيا، بعد صخب الربيع،يأتي وكأنه الحكيم الموجِه لطاقة الطبيعة الفتية، فيهذبهاباللين ودفء الغمام تارة وبالرعود والأعاصير أخرى، ولا يسأم حتى يملأ خزائن الأرض بالحبوب، ويخزّن في أجبابها الماء لتستمر الحياة، ثم يسلّم الأرض للصيف فتتجدد الأرواحبنسائمهالعليلة،ويقوى البدن بفواكهه اللذيذة التي جعلها الله آية دالة على بديع صنعه، فقد جمعت بين الجمال بأطيافه؛ فألوانها ساحرة وفائدتها عالية، وهي فوق ذلك آية للتدبر والتفكر لمن كان ذا لب وبجمال الكون متدبر، فسبحان من نوعها وهي تسقى بماء واحد وتنبت من تربة واحدة!

وهكذا تتنوع الفصول لتربّي كل ذي عقل؛ تقول له: استمتع ولكن لا تنس مهمتك الأصيلة في الحياة، فأنت كما تلك الفصول عليك الإعداد والإنتاج والإنماء والترفيه…

تلك هي الفصول الأربعة في عقلي، تنوعها ذاته نعمة، تعلمني تقلباتها الحكمة، وبقليل من غض الطرف تحلو جميعها في عيني

إلى أنجاء هذا الخريف، خريف 2021 ؛فاجتمع فيه العام كله بجماله وبهائه وبحماسه وعطائه وبرعوده وأوحاله!!

لمعت سحبه البيضاء بنور الحرية، واصعّدالقلب للسماء فامتلأ برحابتها، وأضاء بنورها، وسما بعلوها، وطهر بطهر ساكنيها، وصفا كزرقتها، وادّهن بمسكها، وانتشى بطيبها …فقد أنار عتمةَ الظلم صمودُ الأبطال، وبدد عزمُهم برودةَ الأوصال، وأحيا صبرُهم قوةَ الإيمان، ورسم نجاحهم أطيافَ اليقين في نفوس أمة كادت أن تفقد كل شيء … هؤلاء هم أبطال النفق! ذلك النفق المحفور بقوة القلب لا قوة اليد، وبآلة الصبر لا آلة الحفر وبنور الإيمان ونار العدوان، هذه هي آلاتهم الحقيقية في نقب النفق … فهذا الحدث (خروج بعض أبطالنا الأسرى من أعتى سجون الصهاينة عن طريق حفر نفق من قلب السجن للصحراء ) جدد في قلوب المسلمين العزم وأوقد لهم مشعل الحرية من جديد بعدما ذبل فتيله لكثرة ما تجرعوا من الظلم والهوان

هذا النفق المظلم سقى جنين النور في أواصر الشبابحتى أنبت كرامة في نفوس كان قد غشّاها اليأس وأحاطها البؤس، وأثبت أن هذه الأمة باقية لا يقتلها ديناميت ولا يفنيها نووي، فقوتها في عقيدتها وفي شبابها الذي خالط التوحيد لحمه وعظامه، فعلم أن الله وحده هو المعز المذل لا سجون الطغاة ولا تعذيب المعتدين …

لم يشغلني الحدث بقدر ما شغلني قلب أولئك الأبطال، وبقيت أتساءل : تُرى ما الأمل الذي دفعهم لهذا الفعل الجبار؟

أيّ شمس تلك التي حلموا أن تشرق في أعينهم عند أول نظرة للسماء بعد الخروج من النفق؟

ما الوجه الذي قدّموا حياتهم رخيصة للنظر فيه …؟

 ألف أداة استفهام طلّت برأسها على عقلي تزاحم أختها، وألف طيف من إجابة طاف بمخيلتي، لا شك أن أحدهم أراد مسحة على وجهه من يد أمه الحانية، وثانيهم حلم بنظرة في عين حبيبته الوفية، وثالثهم ناداه ثغر صغيرته الباسم وهيج شوقه نعومة يدها الغضة وهي تتحسس وجهه ..، ورابعهم أحرقته دموع والده وانكسار ظهره بعد  فقد ابنه عضيده … والأهم أنهم جميعا كانوا أحرار القلب لم يفتّ عزمهم أسر الجسد مادامت الروح طليقة تجول حيث شاءت كل صباح! كلهم آمنوا بحرية التوحيد تلك الحرية التي منحها الله للروح الأبية، فلا تعبد إلا باريها وحده وإن تسلط عليها الطغاة أو حبستها الجدر، إنها سرٌّكرّم به الله ابن آدم وسخر له باقي الكون!

ولكن!

طبائع الأشياء ألا تغترب كثيرا عما فطرت عليه!

فالخريف يبقى خريفا، لن يكون يوما ربيعا!

وقع الأحرار في الأسر تباعا، وسقطوا في شباك المعتدين مرة أخرى بعد أن حققوا بطولة منقطعة النظير، فكل واحد منهم كان فردا يواجه أكبر قوة مخابرتية في العالم ويتفوق عليها وعلى عتادها بجسده النحيل وعتاده الضئيل وعقيدته الراسخة رسوخ أُحد!

 ثم كانت النهاية( الكثرة تغلب الشجاعة )فأسر العدو أبدانهم مرة أخرى، وبقيت أرواحهم طليقة وذاكرتهم خصبة تقتات على مسحة يد الأم الحانية، ونظرة شفيقة من عين الحبيبة، وقبلة من ثغر الصغيرة وقبل كل ذلك قبس من يقين ملأ الصدور

أيها المعتدون: نحن الربيع والشتاء والصيف والخريف، وأنتم كالأنعام بل أضل!

هذه أمة تهرم لا تموتولادّة لا عقيم، لقاؤنا القادم في الربيع ولن يكون خريفا بحول الله! انتظرونا وراء غرقدكم بعقل خريف وروح أسيرة وعقيدة عفنة وبدن يرتجف وهنا وضياعا، فلا دنيا حزتم ولا آخرة فزتم، والحمد لله على نعمة الإسلام فهي وحدها الجنة والربيع!

وصدق ربي سبحانه إذ قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )