عندما تتحدث النصوص بما هو مسكوت عنه

فراس حج محمد | فلسطين

نشرتُ يوم الثلاثاء 7-4-2020 نصا بعنوان “عن النّهود في حجرها الصّحيّ”، أتتني عليه ردود فعل كثيرة، من كتّاب وكاتبات، أغلبها منحاز للقصيدة، وما فيها من فكرة، ولم ينتقد القصيدة إلا قارئتان أديبتان. وممّا جاءني رأي تفضل به الكاتب المقدسي الصديق إبراهيم جوهر: “صباح الخير يا “فراس”! أيّها المشاكس فنيّا ورسائل! قصيدتك – القنبلة: قرأتها… جميلة في اللقطة والفكرة والصورة… لكنني خشيتُ التعليق أو حتى وضع إشارة الإعجاب! بل جبنتُ…! يا رجل: أنت تنبش النار!”.

ومن ذلك ما كتبته الكاتبة المقدسية هدى عثمان أبو غوش، وعلى ما يبدو من تاريخ النشر أنها كتبت رأيها في النص في اليوم الذي نشر فيه، ولولا أنها بعثت به إليّ على بريد الفيسبوك لم أنتبه إليه، على الرغم من أننا صديقان افتراضيان، ولم تشر إليّ عند النشر ما أخّر اطّلاعي على رأيها في القصيدة لليوم التالي.

بكل تأكيد جميل ما كتبته الأستاذة هدى مع أنها حشرت نزار قباني في الحديث، باعتباره، كما هو سائد عند المثقفين، مربّي النهود الأول، وقد استحوذ على كل فضيلة في تغنيجها والاحتفاء بها، مع أن نهودي النصية لا تشبه نهود نزار الشعرية لا من قريب ولا من بعيد. وإنما هو التداعي المسموح به للكاتب أن يجريه على هامشية النصوص التي يريد قراءتها أو التعليق عليها. وإلإ فإن ثمة نهودًا جميلة جدا عند الشاعر الجاهلي المفتخر بذاته وبقبيلته ذي الصوت الصاخب عمرو بن كلثوم، فثديه الشعري أجمل من “حُق العاج” وأكثر شهوة ودافعية لاختبار اللذة المحسوسة إن دخلتْ هي والشاعر على خلاء وقد أمنت عيون الكاشحين.

يا له من تشبيه غير مسبوق وغير متجاوز للنهد! في ظني إلى الآن لم يستطع أحد أن يأتي بوصف دقيق للنهد كما فعل ابن كلثوم هذا، في الحجم المثالي للنهد وللون معًا، وسبق لي أن أجريت بمساعدة “الموسوعة الشعرية الإلكترونية” بحثا إحصائيا عن وجود النهد وغيره من ألفاظ في الشعر العربي، لأجد عددا هائلا من ذلك لدرجة لتوفر كمٍّ لا بأس به يصلح لبناء هرم من الحلمات سيجده نزار متوفرا ليبني منه أهراما في قصائده فيما بعد.

ثمة نهدان عند محمود درويش موصوفان مرة بإجّاصتين كبيرتين، ومرة أخرى بـ “طائري حجل” غافيين على صدر تلك المرأة التي سيقضي درويش وقتا بانتظارها، ولكنها “لن تأتي”. فيصاب بما يشبه الاكتئاب، وإفساد اللحظة والخطة.

بكل تأكيد ثمة نهود شعرية ونثرية مصفوفة بأناقة في نصوص كتّاب وشعراء كثيرين عربا وأعاجم غير هؤلاء الذين ذكرتهم. والشيء بالشيء يذكر فإنّ أكثر نهدٍ أحبه هو نهد “عمرو بن كلثوم التغلبي” المشار إليه أعلاه، أمّا نهدا درويش فهما يثيران في نفسي صورة غير جميلة وغير شعرية، ونهود نزار وحشية صلبة مقاتلة لا تصلح للفن على ما أعتقد، فقد أفسدها كما أفسد المرأة وكل شيء فيها.

إنه لنص جيد نوعا ما ذلك النص الذي يثير الكتّاب، فيكتبون عن رداءته أو فكرته، أو مشاكسته. وفي محادثة خاصة مع صديقي الكاتب زياد جيوسي اعتبرتُ أن النص جيد إذ كشف عن جانب مهم من معاناة ما، من المحظور أن نتحدث عنها علانية، ولكن إذا ما خلا الجبان بينه وبين نفسه قال وأفاض في قوله، ولا رادّ ولا حدّ لما يقول ويهذي به.

وقبل الانتقال إلى ما كتبته هدى أبو غوش حول النص أذكر أنها ليست المرة الأولى التي تكتب فيها “أبو غوش” حول قصائد لي، لها نفَس “أيروتيكي”، فقد سبق وأن تكتّلت ضدي مجموعة نساء دعين إلى مقاطعة “ندوة اليوم السابع الأسبوعية” المقدسية عندما أعلنت الندوة عن مناقشة كتابي “ما يشبه الرثاء” وكانت المقاطعة بسبب تضمّن الديوان نصا ورد فيه “ما يخدش الحياء”، وأنا هنا أعيد ما ورد في “مانيفستو” المقاطعة الذي نشر حينها.

والآن إلى ما تفضلت به الأستاذة هدى حول قصيدة “عن النهود في حجرها الصحي”:

“آخر ما كنت أتصوّر، أنْ يُكتب عن النهد وهو في الحجر الصّحي، أنْ يأتي الشّاعر بقصيدة تعبر عن حالة النّهد، أتلك هي الدّهشّة التّي يتوجب على الشّاعر أن يكتبها ليبهر القارئ بخياله، أن يقدم المبدع ما هو غير مألوف؟

قرأت قصيدة “النّهود في حجرها الصّحي”، للشّاعر والكاتب الجريء، فراس حجّ محمد، يصوّر ذبول النّهد والآثار التّي لحقت بالنّهد جرّاء الحجر الصّحي، حيث يعاني من حالتي الحزن والاكتئاب، ينتظر نافذة الحرّيّة في زمن الكورونا ليزاول غروره على الملأ حسب رؤيّة الشّاعر،وفي قصيدة “النّهود في حجرها الصّحي” إشارة لحالة العزل في كلّ شيء حتى الأعضاء تضرّرت ولم تعد كسابق عهدها من الالتحام والتّواصل، كما ويبيّن الأثر النفسيّ العاطفي عند الرّجل في فقدانه لهرمون السّعادة الّذي يجلبه له النّهد.

ومن هنا نرى أنّ الرّجل في مأزق كبير، عليه أن يصلّي من أجل أن يفكّ الله حالة الكورونا ويتحرّر هو ليشمّ عطور الهرمون!

وحين نذكر النّهد في الشّعر العربيّ، فلا بدّ من أن نذكر شاعر المرأة نزار قباني على وجه الخصوص في قصائده، “رافعة النّهد” “نهداك “مصلوبة النهديّن” رفع من شأن النّهد وأدخله لقصره الشّعريّ في زمن ما قبل الكورونا، فداعبه ورعاه بعنايّة فائقة، حيث خرج النّهد حُرّا بلا معاناة، والحروف هبّت في السّماء، فأمطرت غزلا لحضرة جلالة النّهد.

وماذا عن المرأة؟ ماذا كتبت عن النّهد الذّي شغل الشعرّاء، ما هي رؤيتها الخاصّة؟ وهل ثارت على تغزّل الشعراء به أم صمتت راضيّة منتشيّة باهتمامهم بها!”

إلى هنا انتهى حديث الكاتبة عن النص، ولكنه بكل تأكيد أثار الكثيرين من القراء، ليتركوا بصمتهم في حواشي المقال القصير وهوامشه، وتبقى إشارة إبراهيم جوهر أكثر التفاتا للموضوع، حيث لفت انتباه الكاتبة أنه يتوجب عليها أن تكمل من حيث توقفت، فلا يكفي على ما يبدو من كلام جوهر أن تعيد المرأة ما قال الرجل فيها، ولكن ماذا تقول هي؟ مع أنه لا كاتبة تجرؤ على قول الحقيقة كاملة تجاه مخاطبتها لأعضاء الشهوة فيها، فهي إن لم تخَف من المجتمع، فهي أشد خوفا من جسمها والتلذذ بمخاطبة أعضائه الفائرة فيه. أو فلنعترف أن “العقل في مأزق” كما قالت الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر.

 

ويتجلى مأزق هذا العقل في أن المرأة على ما يبدو ركنت إلى الشاعر الرجل ليقول عنها ما كانت تود أن تقوله، كما عبّرت عن ذلك الكاتبة السورية رجاء شعبان فكتبت: “النهد هو رمز المرأة، والمرأة هي رمز الطبيعة، والطبيعة تعني الخصب والعطاء، ولن يفلت شاعر من وصف النهد؛ لأنه بالفطرة هكذا مفطور على نهد، أي حنان وعطاء المرأة، المرأة الأم، وصولا إلى المرأة الزوجة. وهكذا لكل شاعر توصيفه وتطرّقه الخاص. وإنني أحببت كل الطرق بما فيها الجريئة؛ لأن المرأة لا تستطيع أن تبرز جرأتها فتوصف بالعاهرة. لهذا تحب من يتحدث بأنوثتها؛ سواء الجسدية أو الرمزية أو الروحية. وأحب كل الشعراء سواء عمرو بن كلثوم أو امرأ القيس مرورا بنزار قباني “نبي المرأة المكبوتة” ومحمود درويش. وصولا إليك شاعرنا الحاضر فراس الأستاذ الذي أتحفنا بنهود تراعي المرحلة التي نعيشها في زمن الحجر الكوروني”.

 

كم كنت سعيدا بهذا، وأنا أرى النص يتفاعل بهذا الشكل، دافعا الكتّاب والكاتبات للحديث وإن كان الحديث خجلا في أغلبه، ليشاركوني أو يعارضوني في وجهة نظري، فالأمر سيّان عندي، بل يكفيني رضًى عن النص هذه المقروئية التي حققها، وهذه الكتابات التي أنبتها، فكأنه يشبه “إلقاء الحجارة في بركة الركود” كما قال جوهر للمرة الثالثة، واصفا مهمتي في الكتابة على هذه الشاكلة، أو كما كتبت الصديقة عناية المصري: “لشعرك جرأة يفتقدها البعض، مع أن ما ورد في الشعر العربي الكثير وكان من أجمل ما ورد قصيدة الدرة اليتيمة أو ما عرفت بالدعدية فقد سبق الكثير من شعراء العرب نزار وغيره”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى