قراءة في نص ” هذيان ” للشاعرة المصرية رشا فاروق

سي مختار حمري | شاعر وناقد مغربي

أولا – نص: هذيان – للشاعرة رشا فاروق

يُواري الخريف جمر أحزانه خلف دمعات أوراق متساقطة لبلاد مشمّعة بالحبر الأحمر ، تخاف شجيراتها البوح فتؤثر الصّمت، وتتلوها الرّياح بصوت بارد على مسامع صباح فرّ من رئة ليل اكتحل بالسواد ، ليلعن قصائد الشعر المتخاذلة التي عمي بصرها وتسارعت على حفنة ضوء ممزق الحلم ..
ضلت طريقها ..:لم تستطع رسم الشمس بين سطورها المائية ..
أكذوبة هي قصص الحب الضاحكة
فعصافيرها يتيمة دوما ، مقلمة الأظافر تتمّنى لو بحوزتها عصا سحريّة تقلب (موازين) روح المسافة بين شجرتي اليأس والفرح المجدولتين بعنق الأيام وظلهما المحفور على الأرض .
تعال أيها الخريف ..
بعدستك الكاشفة نطوف مدن الكلام بحثا عن بقايا تغريدات (نتوءات) الوجع المرابطة على وتين القصيدة ، ونطرق نوافذ الخيال الهائمة كي نملأ جرار الأمنيات بسنابل الحبّ متّسعة الألوان صالحة لكل أرض ممتدّة إلى جدران القلوب ، علّها تمنحها أوكسجين الحياة ..
لتحيا حرةً .

ثانيا – القراءة والإضاءة:

العنوان:

”هذيان ..” والهذيان لغويا: إضطراب عقلي مؤقت يتميزباختلاط أحوال الوعي أو التكلم بغير تفكير منظم أوالإحساس المبالغ بالأهمية والعظمة.
الهذيان طبيا: حالة مؤقتة من الإرتباك الفكري والوعي المشوش ناتج عن الحمى الشديدة أو السكر أو الصدمة أو أسباب أخرى يصحبها القلق الشديد والهذيان والهلوسة والإرتعاش ..
من الناحية الأسلوبية يمكن تصنيف العنوان ضمن الإنزياح التركيبي بالحذف لأنه يحقق نوعا من الغرابة والمفاجأة ويحمل قيمة جمالية تجعلنا نتسائل لما يمكن اسناد هذه الكلمة النكرة ؟؟ومما يزيل الشك باليقين هو وجود نقط أمام الكلمة تعبر عن الحذف أو تمثل فاصلة سيستأنف بعدها الكلام و هذا أيضا يستدعي المحذوف منه ، ويمكننا أن نسوق عدة أمثلة على ذلك كأن نقول: هذيان إنسان ــ هذيان أمة ــ هذيان شعب ــ هذيان السياسيين…. فالمفردة ذات حمولة دلالية متشعبة قد تخفي خلفها الشاعرة بعض أسرار النص وقد تشكل إحدى بؤره الدلالية لهذا وجب أن نقف عندها طويلا لترِنّ في مخيلتنا مايكفي من الوقت لتنجلي ضبابيتها ولتعْلَق بالذهن لتصاحبنا في تقصي المتخفي واللامرئي وراء السطور والكلمات
هذا النوع من العناوين يحفز ويستفز المتلقي لولوج تضاريس النص ليستجلي حقيقة ما تخفيه هذة العتبة التي لاتخلو من غموض وتستدعي عدة اسئلة منها على سبيل المثال لا الحصر : على من سيعود الهذيان ؟؟ هل على مضمون النص ؟؟ ام على احدى مكوناته ؟؟ام على الواقع الذي تعيشه الذات الشاعرة ؟؟ ذلك ما سنحاول سبر أغواره

النص :

((يُواري الخريف جمر أحزانه خلف دمعات أوراق متساقطة لبلاد مشمّعة بالحبر الأحمر ، تخاف شجيراتها البوح فتؤثر الصّمت ، وتتلوها الرّياح بصوت بارد على مسامع صباح فرّ من رئة ليل اكتحل بالسواد ، ليلعن قصائد الشعر المتخاذلة التي عمي بصرها وتسارعت على حفنة ضوء ممزق الحلم ..
ضلت طريقها ..:لم تستطع رسم الشمس بين سطورها المائية ..))

تستخدم كلمة ”الخريف” كرمز للفصول التي لها نصيب كبير من الرمزية الإنسانية فلكل فصل استخدامه الرمزي الخاص به .. وما يهمنا هنا هو فصل الخريف ذو رمزية عالية ودلالات متشعبة تطال العديد من الحقول فهناك: خريف الطبيعة/ خريق العمر /خريف الفكر / خريف الأوطان / …..ومن الكلمة نشتق الفعل خَرِف يَخْرَف فهو خَِرفُُ ، والخرف : هو فساد العقل بسبب الكبر ومنها جاء خريف العمر الشائع الإستعمال الدال على اقتراب النهاية بعد أن أصبح الشباب من الماضي وحلت مكانه الشيخوخة بتقدم العمر.

رمزية الخريف في الشعر العربي :
في الخريف نهاية لحيوية الربيع والصيف، في الخريف ذبول وغياب الألوان ويعرف هجرة للطيور إلى المناطق الدافئة مما يجعل الخريف كئيبا في عيون بعض الشعراء ، يمثل النهاية والرحيل والجمود ويثير الحزن في النفوس ليطغى عليها الحنين والأسى والملل ويسود السكون الرهيب بلا همس ولا حفيف أشجار ولا عطر أزهار
هناك من الشعراء من يرى للخريف وجها آخر فهو الفصل الذي يعلمنا أسرار الحياة بينما تمر الفصول الأخرى دون أن نعرف أحزاننا وهواجسنا
هناك من ينظر إلى الخريف من زاوية الهجر ويعيش فيه الحنين إلى الماضي وإلى المستقبل في آن واحد
ومن مجازات الشعراء أن لأوطانهم فصولا فتراهم يتغنون بربيعها وينعونها في الخريف ومنهم من يرى أن الوطن دخل في سبات عميق، ومنهم من أسهم في اشعال حطب الثورة في الخريف العربي أو ما اصطلح علي تسميته بـ ”الربيع العربي”
نلاحظ إذن أن هناك إختلافا كبيرا بين الشعراء في رمزية الخريف فهناك من يعتبره ولادة الحب والشعر ، و من يراه كئيبا وظالما يقتل ما بناه الربيع والصيف ومن يراه منبع الحكمة ومن يراه اقتراب النهاية أو فساد مستشري في الأوطان أو سبات عميق.

كيف ترى شاعرتنا الخريف ؟؟
((يُواري الخريف جمر أحزانه ..)) يُنعت الخريف بأن له أحزانا كالجمر الحارق يعمل على إخفائها، فتتم شخصنته في إنسان حزين ، كئيب، يعيش حرقة ألمه ووجعه في سكون وصمت رهيب يشبه صمت الخريف الخالي من الهمس وحفيف الأشجار وهجرة الطيور المغردة ، ترى أين سيخفي أحزانه حتى لا تُكتشف؟ ((خلف دمعات أوراق متساقطة ..))

نلاحظ أنه في كلا الجملتين تم استعمل المجاز والرمز بشكل مكثف ونفس الشيء سنلحظه فيما سيلي من النص ــ فمن أنسنة الخريف إلى أنسنة الأوراق فإذا كان الأول حزينا فهناك بعض أوراق ساقطة تبكي دموعا لتساعده على إخفاء حزنه على (( بلاد مشمعة بالحبر الأحمر… )) فإذا كان الخريف يرمز ألى اجهاض الأمال و الأماني التي كانت تمثل أحلاما لتتحول إلى حزن و سقوط من كان يحمل هاته الآمال وأحلام التغيير فإن هذا يحصل في بلد مختوم عليه بالشمع أوالمداد الأحمر ، في قبضة كماشة محكمة الإغلاق .. والمداد يستدعي الحروف و الكلام والفكر الذي وضع عليه خط أحمر بما يعني أن مجال شكوى الظلم او التفكير في التغيير الى الاحسن موصدة ابوابه فعلا وقولا ((تخاف شجيراتها البوح فتؤثر الصمت ..)) فالشيجرات ترمز لمن لهم ظل وأغصان وفروع، لمجتمع ولحاملي فكر متجدر في التربة، كماهي الأشجار ، فكرأصيل ، إيجابي ومتمر .. ران الخوف على الجميع وصار التعبير عن الفكر والاراء يدعو للرعب والخوف مما يسمح لنا باستنتاج أن هناك قمع وغياب لحرية التعبير والمعارضة الفكرية والايديولوجية فيؤثرون الصمت ولو كانت بهم خصاصة مخافة أن يصيبهم مكروه أو ما لاتحمد عقباه …وهنا نورد قوله تعالى وإن كان في اتجاه آخر : ” ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة ” ( الحشر :9) هنا يتم تفضيل الآخر على النفس لكن في النص يؤثرون الصمت حفاظا على أنفسهم..

هذا البوح الذي صمت عنه الكل تكفلت الرياح بنقله إلى جميع الجهات والنواحي ليطرق كل المسامع ، الريح تدل على أن النقل تم عبر طرق غير رسمية ، غير معهودة أو متوقعة طرق مذهلة تطال كل الجهات والأصعدة والفكر الذي تم تبادله يعبر عن فكر مشرق يصبو لجلاء الظلمة وإحلال الضوء لينير الأفعال والسلوكات الأخلاقية الراقية والتفعالات الهادفة لتتم لعنة القصائد الشعرية و الفكر السائد والنافذ الذي جعل البعض يبيع ضميره مقابل حفنة من (المال أو الحبوب) لملأ جوع بطنه او جيبه او مخازنه أو اي ثمن آخر بخس وهو يظن أنه سيحققون بعض أحلامه الذاتية أو مستقبل زاهر له ولذويه لكن يتبين له في نهاية المطاف أنهم مخدوع وأن أحلامه ستتمزق كالأوراق ليلقى بها في سلة المهملات وأن مقاصده وغايته مضللة ، مثل هؤلاء لن يستطيعوا الإضائة بفكرهم التابع الخانع أو شعرهم
طريق المجتمع و تغيير واقع الظلم والألم والوجع إلى طريق الصواب و أفضل الاحوال ، لأن سطورهم التي يكتبون عليها هي من ماء والكتابة عليه تختفي حتى قبل انهاء الحرف الأول منها وكما يقول المثل ” كمن يكتب على الماء ” في نوع من الاستهزاء فهو ضرب من الخيال وفعل لايوصف به الا من يتعمد الإنفراد بنفسه هروبا من واقع مرير ..

((أكذوبة هي قصص الحب الضاحكة فعصافيرها يتيمة دوما ، مقلمة الأظافر تتمّنى لو بحوزتها عصا سحريّة تقلب (موازين) روح المسافة بين شجرتي اليأس والفرح المجدولتين بعنق الأيام وظلهما المحفور على الأرض .))

توصف قصص الحب الضاحكة بالأكذوبة: بأية قصص حب يتعلق الأمر؟؟؟ هذا هو السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن فالمجتمع الذي تم توصيفه في الفقرة الأولى هو عنوان صارخ على الشقاء والضياع والتيه والهذيان فكيف لأفراد هذا المجتمع أن يعرفوا الحب السعيد ؟؟؟ سواء تعلق الأمر بالحب بين الجنسين أو حب الأوطان أو كل ما يمكن أن يمثل روح المجتمع من فكر وفلسفة و عقائد اي هوية المجتمع في مفهومها العام الذي يحتوي الخلاف الثقافي والعرقي …(( فعصافيرها يتيمة مقلمة الأظافر )) إن الذين يحتمل أن يتبادلوا هذا الحب سيجدون أنفسهم يتامى ، فرادى ، في غياب الطرف الآخر المقابل الذي سيبادلهم الحب ، فلاحول ولا قوة لهم لإيجاد الرفيق الحبيب أو الوطن العطوف الرحيم أو غيره .. ممن يعترف بحبهم و مجهوداتهم وتضحياتهم لينالوا مايستحقون من التقدير والاحترام .. سيعيشون الغربة ، في الحب ، والوطن ، والذات ، والكون على حد سواء ويتمنون لو كانت بأيدهم عصا سحرية تمكنهم من تغيير الوضع ليعود إلى الحالة التي يعتقدون أنها طبيعية وذلك بإزالة المسافة التي صارت تطول لتفصل بين حياة الفرح المأمولة والمطلوبة من الجميع انتقالا من حياة الياس والحزن المعاشة والتي تخيم على الكيان والنفس والوجود والتي من اسبابها تعاقب الأيام في غفلة من الزمن في وضعية ميؤوس منها وظلمها االمحفور في الأرض اي المتجدر والذي قد يشيرأيضا الى من اوتهم القبور في ليلة مظلمة بئيسة والذين كانوا بالنسبة للمجتمع يمثلون الظل الذي يعبر عن السند والكنف والامتداد والانعكاس في مجتمع فقد ظلاله الوارفة في من غيّبَتْهم المنون او باعوا ضمائرهم او صمتوا عن الباطل كشيطانخرس .. فلا ظل بدون ضوء.. مصداقا لقوله تعالى {{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا }}( الفرقان :45)

((تعال أيها الخريف ..
بعدستك الكاشفة نطوف مدن الكلام بحثا عن بقايا تغريدات (نتوءات) الوجع المرابطة على وتين القصيدة ، ونطرق نوافذ الخيال الهائمة كي نملأ جرار الأمنيات بسنابل الحبّ متّسعة الألوان صالحة لكل أرض ممتدّة إلى جدران القلوب ، علّها تمنحها أوكسجين الحياة ..
لتحيا حرةً))

تتم المناداة على الخريف من طرف الشاعرة في تجاوز واضح للذات الشاعرة وللواقع المرير عملا بمقولة الروائي والمفكر إميل سيوران “” لا تؤدي الإنحدارات بالضرورة إلى الأسفل
فكم محنة. تكشفت عن أجنحة وكم أزمة شكلت إنطلاقة جديدة وصنعت التاريخ ”
تمت دعوة الخريف ليحضر ومعه عدسته المكبرة الكاشفة في تجاوز لما يمثله من حزن وشيخوخة واقتراب نهاية ولكن ربما لما يحمله من تجربة أليمة فلا يعرف حقيقة وحرقة الألم والوجع الا من اكتوى بنارهما لكن ذلك يجعله يكتسب الحكمة ووضوح الرؤية مما سيسهل البحث والكشف عن مكامن بقايا الأحزان و نتوءات الوجع التي ترابط في قلب القصيدة التي تهيمن على الفكر والعواطف والمشاعر وتجعل من الحياة جحيما لايحتمل .. وتهدف العودة ايضا لتوجيه الخيال الهائم لإزالة هذه الرؤية المضببة الظلامية وحل المعادلة الصعبة التي يفرضها واقع الحال وذلك بإرتداء حلة التفاؤل وملأ جرار الأمنيات ببذور المحبة بما ترمز إليه من خيرات عميمة وافرة تتسع لكل الألوان دون اعتبار لعرق أو انتماءات فكرية أو عقائدية أو طائفية .. هو بحث حثيث عن حب صالح لكل الأرض دون اعتبار حدود أو بعد أو اختلاف لتمتد خيراته الى كل قلوب الناس ويرضى لها وعليها الجميع لتعود الحياة ألى القلوب بعد موات وجمود ، بعودة الأوكسجين الذي به تنفس لتحيا حرة…

خاتمة :
يتعلق الأمر بنص حداثي أسلوبا ومعاجلة يقوم على أكتاف المجاز المكثف والإختزال في اللغة والإبتكار في الصور الشعرية المجازية ( الاستعارية) ، يعتمد عمق التأمل ودهشة الصياغة الفنية ..يتطرق لإشكالاتنا في الوطن العربي المتعددة الأبعاد فكريا ، مجتمعيا ، سياسيا ، فلسفيا ، وعقائديا ويعبر في الشكل والمضمون عن واقعنا المرير … وفي الختام يطرح رؤية شاملة واضحة مبنية على العودة الى أصول المحبة والحب في شكله المطلق لتجاوز كل الأحزان والأوجاع ما ظهر منها وما خفي ، ما هو فوق الأرض وما هو تحتها ا ، ترفعا عن أحقاد الماضي و نعرات الانتماءات وكل مامن شأنه أن يعقد ويجعل الحياة لاتطاق على كوكبنا ، هناك تبني للنزعة الإنسانية في شكل الحب النقي الصافي الذي لاتشوبه شائبة ..انها دعوة لروح الإنسانية السمحة المتمثلة في التعاطي بلطف وانصاف و تعاطف واحترام وتقدير لكل الحالات الإنسانية ليسود السلام داخليا في الذوات وخارجيا ليعم الجميع
نص جميل وممتع لما يحمله من افكار ومجازات صيغت بطريقة فنية متميزة مدهشة تلامس الإحساس في مقاربة فكرية تغري بالمتابعة
متمنياتي لك شاعرتنا المبدعة الأنيقة والراقية بالنجاح والتوفيق على الدوام
شكرا على روحك الإنسانية العالية جدا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى