مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْل
د. خضر محجز | فلسطين
أبو الأنبياء وأبونا إبراهيم عليه السلام، تتنازعه كل الأمم، وترجو أن تنتسب إليه: “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ” آل عمران/68
ذلك أن الله ألهمه حسن التفكير قبل أن يبعثه نبياً: “وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ” الأنبياء/ 51
فتحدى المشركين علناً وحيداً، كما هو شأن مؤمن يشعر بمعية الله: “وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ” الأنبياء/ 57
كل هذا في عهد الصبا، قبل أن يبعث نبياً. فنحن نعلم أن الأنبياء يبعثون على الأربعين: “قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ* قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ” الأنبياء/ 59 ــ 60
ثم دخل معهم في نقاش علني: “قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ” الأنبياء/ 66ــ 67
فلما غلبهم رفعوه إلى ملكهم ليناقشه: “إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” البقرة/ 258
فلم يكن أمامهم إذ أفحمهم الفتى المبارك، إلا أن قرروا موته. إذ لا يقبل المحجوجون ـ غالباً ـ بالهزيمة، ولا يقتنعون بقوة المنطق.
إنهم لا يبحثون عن الحقيقة، بل عما في رؤوسهم.
وإذ يفشلون في ميدان النقاش، يستخدمون القوة، ويهددون المخالف بالموت: “قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ* قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ* وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ* وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ” الأنبياء/ 68 ــ 71
لقد ألقوه في النار إذن.
وإن ما يسبق القذف في النار، لفتنة، وأي فتنة!
يناقشونه فيغلبهم
يهددونه فلا يستكين
يعدون النار على مرأى عينيه ليتراجع، فيواصل التحدي
لقد كان بإمكانه أن يعلن التراجع ظاهرياً، ليفوز بالحياة، والله يسمح له بهذا، لكنه يختار العزيمة، ويقرر القبول بالموت.
إذن لا يلقي المناقش مخالفه في النار، إلا بعد أن يفشل في إقناعه بالعدول.
نحن بين يدي فتى خارق الشجاعة. بنيانه خارق القوة، قبل النبوة، وبعد النبوة.
بنيته تخدم قلبه.
لقد نظر الفتى الكلداني حوله، يبحث عن إلٰهه الذي يشعر به في قلبه.
هكذا يستخدم إبراهيم عقله وقلبه معاً، يبحث عن الله، وسط قوم لا يعرفون الله: “وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ” الأنعام/ 75 ــ 76
إن قلبه لا يقبل بإلٰه يغيب. إنه يعلم أن الإلٰه الحق لا يغيب عن الكون، كما لا يغيب عن القلب.
لقد استهدى إبراهيمُ قلبَه المباركَ فهداه. ولولا الله لما هداه.
إذن فلا يمكن ان يكون النجم هو الإلٰه.
ربما القمر: “فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ” الأنعام/77
وإذ تبين للفتى أن القمر كذلك يغيب، فقد رفض عبادته، وواصل رحلة الحث: “فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ” الأنعام/78
إذن فهو في مرحلة نفي الألوهية عن المخلوقات. وبعد نفي ألوهية المخلوقات، لا بد من البحث عن الإلٰه الحقيقي. والإلٰه الحقيقي يجب أن يكون من خلق كل هذه المخلوقات، ما تحول منها إلى إله، وما لم يتحول. فليبحث عنه الفتى: “إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ” الأنعام/79
يبدو أن الفتى الكلداني أخذ يدعو قومه. وهنا مكمن الخطورة في نظرهم: “وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” الأنعام/ 80 ــ 81
يبدو لي أن رب السماوات والأرض هو الذي يتدخل في السياق المتلو على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الجملة الاعتراضية، تعليقاً على القصة: “الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ” الأنعام/ 82 ــ 83
لقد هداه ربه قبل ان يبعثه نبياً. ولقد امتحنه ربه قبل أن يختاره رسولاً!
يا لله!
أي فتى كان هذا الكلداني الرائع!
إذن فقد يئس القوم من إعادة الفتى إلى دينهم، فقرروا حرقه حياً: “”قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ” الأنبياء/68
فتدخل الله لينقذ فتاه، ويهزم أعداءه: “قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ* وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ” الأنبياء/ 69 ــ 70
وحمله الله وابن أخيه المؤمن، إلى فلسطين المباركة منذ الأزل: “وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ” الأنبياء71
وهناك نزلت عليه الرسالة، بعد أن تحول من فتى إلى رجل بلغ أشده، فالرسالة في هذا السن تبلغ الأنبياء.
عاش إبراهيم ردحاً من عمره دون أن ينجب، ثم حين بلغ الكهولة منحه ابنه الوحيد إسماعيل، وأمره أن يلقيه وأمه في صحراء الجزيرة العربية بين الجبال.
ولما بلغ الطفل أشده، أمره ربه أن يذبحه فذبحه دون تردد.
لقد كان قلب إبراهيم لا يتسع لحب يوازي حب الله. كما كان الصبي مطيعاً فاستسلم لأمر الله، بعد أن حث أباه على طاعة الأمر. لكن الله تدخل لإنقاذ الفتى، بعد إذ نجح الكريمان في الامتحان.
أي نبي! وأي مسلم! وأي أب!
سبحان من ملأ قلوب أصفيائه بالحب.
كل حياته كانت امتحاناً، وفي كل امتحان كان خليله بجانبه يشد من أزره فينجح. ولولا الله لما نجح.
ولما بلغ به الكبر عتياً، جاءته الملائكة تبشره بإسحق: “َقالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ” الحجر/ 54
لقد جاءته الملائكة على هيئة بشر، فقدم لهم عجلاً سميناً مشوياً: “فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ” الذاريات/ 26 “فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ” هود/ 69
وعلى عادة الأعراب في الصحراء، خشي من غدر الرجال، إذ لم يأكلوا معه العيش والملح: “فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً” الذاريات/ 28
لكنهم أبلغوه أنهم ملائكة لا يأكلون، فاطمأن: “قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ” الذاريات/ 70
وبعد أن اطمأن أبلغوه بأنهم جاؤوا لغرض مزدوج: تبشيره بغلام، وخسف قوم لوط القربين بأريحا. فتعجبت زوجته سارة من بشارة تخبرها بأنها ستحمل وتلد رغم أنها عقيم في شبابها، وهي الآن عجوز كذلك: “قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ” هود/ 72
فتعجب الملائكة من تعجبها، لكنهم لهجوا بالصلاة عليها وبيتها وزوجها ونسلها: “قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ” هود/ 73
لكن الأعظم سوف يأتي حين يجادل إبراهيم الملائكة في أمر الله بخسف قوم لوط، ويرجو إمهالهم المزيد من الوقت، فلا تشجبه الملائكة ولا يشجبه خليله، بل يجزي الله نبيه بالمزيد من الرقة والحنان والحب: “فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ” هود/ 74 ــ 75
يا لكم يدلل الله خليله! وإن تدليله ليوازي حبه! صلى الله على أبي الأنبياء، أبينا.
كان إبراهيم قد أودع ابنه وزوجه جبالاً سوداء، وأرضاً قفراً لا ماء فيها ولا شجر، ولا قوت فيها ولا بشر.
وإذ كان واثقاً بأن الله لن يضيع نسل خليله، فقد وقف واثقاً يدعو ربه أن يحفظهم ويمنحهم هدايته السماوية ورزقه الأرضي: “رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” إبراهيم/ 37
كما دعاه سبحانه أن يجعل هذا البلد الأمن: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ” إبراهيم/ 35
ويبلغ الإخلاص بأبي الأنبياء مداه، حين يقصر دعاءه بالرزق على المؤمن من نسله، ويستثني الكافرين: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ” البقرة/ 126
لكن الله يعلمه علماً هو خير العلم، إذ يخبره بأن الرزق في الدنيا مكفول لكل العباد، مؤمنهم وكافرهم: “قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ” البقرة/ 126
يتعلم إبراهيم الدرس جيداً، ولعل هذا الدرس وما يماثله هو ما جعل خليل الرحمن أكرم الناس في كل الأزمنة، باستثناء محمد صلى الله عليه وسلم، إذ نراه يقدم العجل السمين المشوي لبضعة أشخاص ـ كما نوهنا سابقاً ـ واثقاً من رزق الله القادم.
يغادر إبراهيم القفر الخلاء إلى فلسطين، واثقاً من رعاية الله لولده وزوجه.
في فلسطين يبلغ إبراهيمَ الكبرُ، ولكنه مرة أخرى يخضع لأمر الله بالسفر بعيداً، بحثاً عن وليده الذي كان سيذبحه قبل سنوات، الوليد الذي سبق أن ألقاه في الصحراء (البخاري عن ابن عباس).
يستقبل الولد أباه بكل ترحاب، فيبلغه بأن الله أمره ببناء بيت لعبادته هنا في المكان الذي تحول، بفضل زمزم، من صحراء إلى واحة ومدينة تزهو بها المدن: “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” البقرة/ 127
ويطيع النبيان الكريمان أمر الله، فيرفعان البيت، ويطهرانه للصلاة والحج والعبادة: “وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ” البقرة/ 125
فيا لروعة المشهد: الشيخ والصبي ينقلان الحجارة ويبنيان بيت الله.
وحين يرتفع البناء أكثر من قامة الرجل، يضع إبراهيم على الأرض صخرة كبيرة، يعلو عليها ليتناول من وليده الحجارة، فيرفعها ليواصل رفع البناء. وبعد أن يتم البناء، يضع الصخرة في المكان المخصص لها من البناء، ذلك المكان الذي كان قد ترك فيه فجوة على مقدارها (البخاري عن ابن عباس).
تلك الصخرة هي مقام إبراهيم. ويُقال بأنها ستظل في الجدار، إلى عهد أمير المؤمنين عمر، إذ يتزايد الحجيج، ويتزاحموا للصلاة عندها، فيأمر الفاروق بنقلها إلى ساحة المسجد، قريبا من الناس، وراء المطاف (البداية والنهاية وفتح الباري بسند صحيح).
بمجرد أن يتم بناء النبيان الكريمان للكعبة، ينادي إبراهيم وسط الصحراء الناس إلى الحج إلى هنا: “وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” الحج/ 27
لقد سمع أهل مكة النداء، وبلغوه لمن استطاعوا، وبدأت من هنا شعيرة الحج. وليس صحيحا ما يقوله المرحوم كشك من أن نبي الله نادى في الخلاء، فلبته الأرواح في عالم الغيب. فهذا من الإسرائيليات المكذوبة، لأن مكة كانت موطن إسماعيل وقبيلة جرهم الثانية التي أصهر إليها. بمعنى أنها كانت مأهولة بالسكان.
وعاد إبراهيم إلى فلسطين. وهناك مات ودُفن. وواصل ابناه ـ إسماعيل في الجزيرة العربية، وإسحق في فلسطين ـ تبليغ رسالته.
هذا هو أبو الأنبياء الذي يفخر كل العالم بالانتساب إليه. ولا يحق لهم إلا أن يستحقوا الانتساب إليه. اللهم اجمعنا بالأحبة، محمدا وإبراهيم وجميع الأنبياء في مستقر رحمتك.
أفبعد كل هذه الرحلة والشجاعة والتحدي والعظمة والاتصال، يأتي كذوب ليزعم أن هذا الشجاع المتمرد، يخشى فرعون، فيكذب عليه خوفاً على حياته، ويضحي بشرفه (سارة) كأي بشري دنيئ لا نصيب له في الخير! سبحانك هذا بهتان عظيم.