ظاهرة الغموض في الأدب العربي الحديث.. قراءة نقدية في أدب رواد الحداثة (3)

د. إبراهيم محمد خفاجة|أستاذ اللغة العربية وآدابها المساعد – وعضو الاتحاد الدولي للغة العربية

مظاهر الغموض في الأدب الحديث وأمثلة عليه

تعددت مظاهر الغموض في الأدب الحديث، لا سيما الشعر، الأمر الذي حدا بالدكتور عبد الرحمن محمد القاعود إلى أن يخصص بابًا كاملاً في كتابه عن الإبهام في شعر الحداثة يتحدث فيه عن مظاهر هذا الإبهام([1])، ولأن مصطلح الإبهام هو نفسه مصطلح الغموض في معناه ودلالته، فهما مترادفان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ، فقد حرصت على أن أورد أهم هذه المظاهر كما ذكرها  الدكتور القاعود، دون الخوض في التفاصيل، وهي على النحو التالي:

1- الغياب الدلالي:

وهو السمة الغالبة في هذا الاتجاه، وله العديد من المظاهر، وتتمثل في:

  • غياب الموضوع.
  • خلق تأثير شعري.

ج- التجريد: (الشعر الصافي)، (الشعر الصامت).

2- التشتت الدلالي: حيث يصير المعنى مبعثرًا وغير متماسك.

3- إبهام العلاقات اللغوية:

 وتمثل فيما يلي:

  • انخفاض المستوى النحوي.
  • تفجير اللغة.

          ج- اللغة الشعرية.

          د- الجمع بين المتنافرات.

          هـ- الصورة.

          و- البياض.

          ز- علامات الترقيم.

أمثلة على الغموض في الشعر الحديث:

تتعدد الأمثلة الدالة على الغموض في الشعر الحديث، وكثر النتاج الذي يحمل سمات هذا الاتجاه على نحو كبير، وإن كان في مجمله يغلب على أصحاب الشعر الحر أو ما يسمى بشعر التفعيلة، وغلب على نتاج أصحاب الاتجاه الرمزي وشعراء المهجر، ونتاج فترة الستينات والسبعينات من القرن الميلادي الماضي خير شاهد على ذلك، والأمثلة على هذا الاتجاه أكثر من أن تحصى، ولكن يكفي هنا الإشارة إلى بعضها.

 المثال الأول:

يقول على جعفر العلاَّق في قصيدة له بعنوان أنثى الينابيع:

خذني إلى مائها

يا ماء. إن فمي حجارة

ودمي ليل يموج

لظى

ماذا تشم يدي

في الريح؟ أغنية

من أغنيات يديها؟

نجمة خلعت غبارها

في مهب الريح؟

أين مضت، أنثى الينابيع؟

هل أمضي بلا امرأة

مبتلة؟ دون أوطان

ألوذ بها

………

*-المثال الثاني:

يقول عفيفي مطر في إحدى قصائده:

تلبس الشمس قميص الدم

في ركبتها جرح بعض الريح

والأفق ينابيع دم مفتوحة

للطير والنخل

سلام هي حتى مشرق النجوم

سلام/

……….

ضمت الحقول ركبتيها

ونامت الثعابين

سلام ظلامي يتكوم قشا

ناعما وزغبا

والثيران أغفت واقفة

تتكسر أنجم الليل في

حدقاتها الفسفورية الغائبة

سلام قناع ليل رحيم

رأيتها تلفظ ما وضعت من

علائم الرسوم

رأيتها تحمل في الحواصل

أهلة الخرائط التي نقشتها في

ورق الأحلام

وتبني أعشاشها في

شجر الرياح

*-المثال الثالث:

يقول رفعت سلام في قصيدة بعنوان نظرة أخيرة:

نظرة أخيرة:

شمس تحتسي شايا

ورياح تنام في فراشي

وغيمة تحت الوسادة

نار تصعد الجدار

أشياء صغيرة تومئ لي

وعلبة سجائر خاوية

فأمضي

……..

……….

الخاتمة:

أرجو أن يكون فيما قدمت ما يلقي الضوء على هذا الاتجاه الفكري الذي وفد على الثقافة العربية المعاصرة من ثقافات الغرب، وكان ملمحًا مميزًا للنتاج الأدبي على مدى عدة عقود من القرن الماضي، وما زال له أنصاره والمدافعين عنه إلى وقتنا هذا على الرغم مما فيه من إفساد للغة، وللذوق العام، وجنوحه إلى الهروب من الواقع بمشكلاته، بدلا من محاولة التصدي لها، والإغراق في بحر من الهواجس والخرافات والهلاوس التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

وحتى لا يُساء فهم هذا الكلام فلست ضد الحداثة، أو ضد فكرة  الأخذ بمعطيات العلم الجديدة، والاستفادة من التجارب الإنسانية في الثقافات الأخرى، فالفكر ليس حكرًا على أمة دون أمة، أو فئة من الناس دون فئة، ولكن الذي أدعو إليه هو أنه يجب الأخذ في الاعتبار قيمنا الأصيلة التي يجب المحافظة عليها، كما أن نظام لغتنا يختلف كثيرًا عن تلك اللغات التي تربى عليها دعاة الحداثة، فما يصلح هناك ليس بالضرورة أن يصلح هنا، ولعل القاسم المشترك بيننا وبينهم هو وحدة التجارب الإنسانية، ومع ذلك فالاختلافات بيننا وبينهم كثيرة سواء في الفكر أو المعتقدات الدينية أو العادات الاجتماعية، وهو ما يؤثر بشكل كبير على التفاعل والشعور، وينعكس بطبيعة الحال على طريقة التعبير.

وهنا تكمن الخطورة، وخاصة إذا علمنا أن وظيفة اللغة ليست قاصرة على التعبير عن المشاعر الإنسانية الفردية فقط، بل تتعداها إلى نقل الأفكار والمعتقدات، وإحداث التواصل بين الأجيال على مر العصور، والأدب بشتى فنونه يعد من أهم وسائل اللغة لنقل تلك الأمور والتعبير عنها.

والحداثة -في فهمي وكما أراها- ليست أحاجٍ لفظية، أو إغراقات فلسفية بقدر ما هي دعوة إلى التطور في الفكر، والتسامي في الشعور بالذات والآخرين، والبراعة والدقة في التصوير، والتجديد في الأساليب وطرق التعبير عن المشاعر والأفكار، مع المحافظة على البناء اللغوي والأساس الفكري الذي ننطلق منه، وليس هدمهما ونسفهما لبناء نظام آخر جديد يبعد كثيرًا بالأدب واللغة عن غاياتهما السامية ويفقدهما أهم خصائصهما في التواصل والتعبير.

مراجع المقال:

-الإبهام في شعر الحداثة، د. عبد الرحمن محمد القاعود، عالم المعرفة – الكويت، 1978م.

-الحداثة، د. وليد القصاب، دار القلم ، دبي- الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، 1417هـ -1996م.  

– الأدب وفنونه، د. محمد مندور، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، بدون تاريخ.

– الأسس النفسية للإبداع الفني، د. مصري عبد الحميد حنورة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م.

-سيكولوجية الشعر (العصاب والصحة النفسية)، د. محمد طه عسر ، عالم الكتب، القاهرة، مصر ، الطبعة الأولى 1420 هـ – 2000م.

-في الأدب الإسلامي، د. وليد القصاب، دار القلم، دبي – الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، 1419 هـ -1998م.

-لسان العرب، ابن منظور المصري، دار صادر بيروت لبنان، د.ت.

-الميزان الجديد، د. محمد مندور، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

– النقد الأدبي الحديث، بداياته وتطوراته، د. حلمي محمد القاعود،  دار النشر الدولي، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى  1427 هـ -2006م.

– النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الخامسة 1971م.

– النقد المنهجي عند العرب، د. محمد مندور، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، 2003م.

([1]) الإبهام في شعر الحداثة، د. عبد الرحمن محمد القعود، ص: (177-290)، نشر عالم المعرفة، الكويت 1978م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى