ما لم أقله لأورلي في يافا
تحسين يقين | فلسطين
إهداء إلى رائد دزدار مخرج فيلم يافا أم الغريب
والى: تحسين الكريدلي، وأنطون خوري، وصلاح الدباغ، وأحمد نور السقا، والفنانة تمام الأكحل، وسهام الدباغ، وازدهار الفرخ، وفؤاد شحادة، وأبو نزار صبحي أبو شحادة (الذي بقي هناك)، والباحث سامي أو شحادة، ود. محمد أبو لغد، وزكي النورسي، وطاهر القليوبي، وخير الدين أبو الجبين، ود. سليم تماري (باحث من أبناء لاجئ في رام الله)، وعدلي الدرهلي وخالد البيطار، وأنطون خوري، وعلي المنياوي، وإلياس سحاب، ونبيل رملاوي، وكامل قسطندي، وزينب ساق الله، وازدهار الفرخ، والمعلمة فيوليت ناصر. الى من بقي وإلى أرواح من رحلوا، من رواة الفيلم.
يافا!
“جميلة” اسمها..
وجميلة في كل الفصول، وفي المطر..كنت عندما أشتاق ليافا، أذهب الى الاسكندرية.
.50 صورة، ولا أدرى كيف التقطتها، فقد كنت منشغلا بالجميلة
من العجمي مرورا بجنوب البلدة القديمة، وأنا ساهم الوجه متأملا، ثم الساحة أعلى تل يافا، فالبيوت والعلالي الحديثة الأبواب، الزواريب، مشاهد من البلدة نزولا ما بين التل والشاطئ. شباك غزاه الصدأ، جسر يربط بين بنايتين، ساحة المدافع، جامع البحر، المشربيات عن بعد مع أجمل بيوت وعن قرب، وما همست لي..برندات درجات رصيف بيت الجمارك العثماني، الميناء القديم، قريبا من العجوز والبحر، والشمس ترسم برتقالا عند المغيب.
“السرايا العتيقة التي بنيت في بداية القرن التاسع عشر، كقصر فخم للحاكم الثماني محمد أغا “أبو نبوت”، التي استخدمت دارا للبريد ثم سجنا مدنيا، ثم مع انتقال بيت الحاكم، استخدمت كمصنع للصابون لعائلة دمياني”..مسرح السرايا، برج الساعة، بيت السرايا الجديد، مركز البوليس..برج الساعة..شارع اسكندر بيك..النزهة ..الحلو.. المنشية.
والشوق لرؤيتها في الطريق من القدس حيث الأخضر يبسط جماله في كل مكان. وأنا المشتاق، لرؤيتها بعد غياب.
أن أراها، هذا ما يتمناه العاشق. لذا من اللحظة الأولى للنظر أتساءل، لماذا أشعر دوما بغير العادي، منذ تجوالي فيها أول مرة قبل 25 عاما.
في كل مرة أشعر كالمحب العاشق عند أول لقاء. هنا سأسير بضع دقائق من أطراف سلمة التي تحتلها محطة الباصات، الى يافا، فأدخل من طرف الجنوب، مقابل البحر، وهو عشق آخر، وهنا سأصعد أجمل تل في الدنيا تماما كعاشق..
تماما كعاشق، يود أن ينظر في كل تفاصيل المحبوبة الجميلة يافا، فكلها جمال وتاريخ وحياة كانت ظل منها بعض حياة، وكلها تدخل القلب، وهنا كل خطوة أراني هناك في زمن مضى، هل يعود؟ وهل لي أن أستعيدها هنا.
ساعتان ونصف الساعة، الوقت المتاح، فماذا سيفعل زائر غريب الآن؟ لو كنت أمس قبل نيسان 1948، لأطلت التجوال والمبيت، ف”أم الغريب” دوما كريمة تحتضن زوارها.
ليست الزيارة الأولى ولا الكتابة الأولى، لكنها هذا المساء اليافيّ، جاءت في سياق مشاهدتي لفيلم “يافا ام الغريب” لرائد دزدار، حيث المشاهدة ليافا أمس واليوم، والاستماع ل 25 راويا يافيا ويافية، جلهم في الشتات.
قلت يوما: الكتب تحيلني الى الأمكنة، والأمكنة تحيلنا للكتب، فماذا أقول اليوم وأنا أرى وأسمع روايات حقيقية لمن كانوا هنا يوما أطفالا وفتيانا وشبابا.
لا كلام يسعفني، وآه من آه واحدة لا تكفي ولا تشفي.
هنا تحت ظل منارة الدير، أقف قليلا، وأنظر سريعا، ثم تدور عيوني لتحط ككاميرا على جدران البيوت، والأبواب والشبابيك. ولا كلام، فقط أستعيد ناس المكان، فيبدؤون بالظهور، وما يكادون حتى يختفوا..ثم هكذا في كل رطن من يافا، يظهرون.
وهنا، كيف لزائر مرّ هنا ساعات أن يعرف المكان الممتد أمكنة وأزمنة؟ وكيف لقارئ كتب عن المدينة أو لمشاهد فيلم عنها أو مشاهد من أفلام أخرى أن يكون دليل القارئ/ة؟
صعب أن يكون الزائر هو الدليل، فهو محتاج لدليل آخر..أدلاء آخرين. بيوت وقصور قديمة ومبان كثيرة، من عصور متنوعة، فيها الطابع المعماري المديني والمحلي العربي ليافا، مساجد يمآذن، وكنائس بأجراس، وبجر أزرق محايد من بعيد، لا يضحك ولا يبكي، لكن أمواجه تختزن الكثير.
فهنا..كانت نهاية حياة أهلها.
ومن هنا كانت بداية الحزن الطويل الذي لم ينته، للمكان، ولأهله ال 120 ألفا أو يزيد، الذين لم يتبق منهم غير ثلاثة آلاف يافي، صاروا غرباء في مدينتهم.
على السلم الحجري، أحد أدراج التل، أهبط في التاريخ، أتطلع في البوت، لأسمع أصوات أهلهم، وارى بعض وجوه أطفال تطل من الشبابيك، ثم لتختفي الأصوات والوجوه، ويحضر وجه امرأة مرحبة بي، فاقف على باب البيت الجميل، ليدور حوار قصير بالإنجليزية:
جاليري؟
تفضل.
– مرحبا، شكرا على الدعوة، فأنا كاتب فلسطيني أهتم بالفنون.
-هذه لوحتي.
-جميلة، تبدو الأذن سائدة في اللوحة، كأنها مركز البورتريه، هنا إصغاء.
– أنا أورلي.
– أهلا أورلي، وأنا تحسين، وهي تعني التحسين، سماني والدي كذلك بعد حرب 1967، فقد عاش أبي على أمل تحسن الأحوال.
– وهذه رشيل.
– أهلا رشيل
– تلك لوحتي، قالت رشيل، وهي كما ترى عن المرأة الإلهة تأثرا باليونان.
– لقد سبقت اليونان حضارات سوريا والعراق، وأكثرها تناولت وضع المرأة الالهة والحاكمة، هل سمعت شيئا عن الكنعانيين؟
– بالطبع
راحت عيناي تتطلع في غرف البيت، مبني على نمط القبة، فالبيت دافئ شتاء بارد صيفا. اعتذرت من أرواح من بنوا البيت هنا يوما ليعيشوا وأولادهم وبناتهم وأحفادهم هنا، ظهرت وجوههم مختلطة المشاعر، في تأمل عميق، ابتسمت لهم ومضيت.
هل كان علي أن أدخل في البيت-الجاليري؟ هل قرأتا وآخرون هنا المونولوج الذي في داخلي، خصوصا أنني تعمدت ذكر كلمة فلسطيني؟ الظن أنهن قرأن ما قرأته من تاريخ بيت ومشاعر حزينة غاضبة لما آل له البيت من مصير. والظن أنني قرأت ما قرؤوه.
-هل كان ذلك يكفي؟
– ربما لا، فقد تعمدت أن أتحدث عن دور الفن والأدب في السلام. لكن هل كان بالإمكان علينا جميعا، أنا وهن أن نتقبل هذا الواقع الأليم؟ هل فعلا هناك بشر من بني الإنسان يرفضون عودة أصحاب البيوت إليها؟
كان إبراهيم أبو لغد رحمه الله يتحدث عن يافا وهو في رام الله في التسعينيات، كمن يتحدث عنها بشكل عادي، كأن لم يمض عليها 55 عاما من الاستلاب. كان يراها قريبة جدا، فقد قال لي بأنه بعد قليل سيذهب كي “يتبلبط” في بحر يافا!
أبو لغد الذي كان ابن 18 عاما حين حاول مرارا وصحبه ثني الناس عن المغادرة اضطر أخيرا لمغادرتها، ليعود إليها زائرا، ثم ليدفن في ترابها، كما أوصى.
مشاهدات قصيرة، وفد تركي، كان من السهولة للتواصل باللغة العربية مع رجل الدين، معلمات من بيت صفافا، ومشربيات جميلة، وبرندات تحكي رونق الحياة التي كانت هنا، فتظهر من خيالي سهام الدباغ إحدى الراويات في فيلم “يافا أم الغريب”، حين كانت تستدعي جلوس الأسرة على “البلاج”، على الرمل حيث يدخن الكبار الأرجيلة. تظهر الفنانة تمام الأكحل فتظهر لوحاتها وجداريات رفيقها إسماعيل شموط.
أسال عن صبحي أبو نزار أبو شحادة (الذي بقي باقيا هناك)، فأعلم أنه رحل، بقيت روايته.
تحدث أبو شحادة عن الصناعات والمهن المرتبطة بالبرتقال، لكن أين هو برتقال يافا!
لا برتقال هنا اليوم الا القليل يا خالد البيطار، وانت الذي تتذكر ال 5 ملايين صندوق برتقال التي تفوق عائدات البترول في ذلك الوقت!
هنا عند برج الساعة، أسال شاب من عائلة سابا أين شارع إسكندر عوض؟ فيشير إليه، الى الشمال الشرقي، فيطل زكي النورسي، ابن تاجر يافيّ، الذي روى عن ازدهار يافا وهذا السوق، فأتذكر ما وصف يافا: مدينة عصرية بكل معنى الكلمة.
أسمع أذكر يوما كنت في يافا للأخوين رحباني، ثمة ارتباط كبير بأهل الفن ويافا، فأهلها ذواقون ومحبون للغناء، ثمة رمزية هنا، فإلياس سحاب، المتحدث في الفيلم كموسيقي، يؤكد ان تطور الموسيقى العربية في لبنان بدأ في يافا، من خلال خيري الشريف وغازي الشرقاوي.
وسنرجع نرجع يا يافا..ادندن الكلمات..كم مر على هذه الأغنية؟ وأي حنين كانت تثيره؟
ترى كيف عاش أهل يافا بعيدا عنها؟
في السيارة الى القدس، ليلا، كانت يافا تنير الطريق، ولا أدري لم صار الليل نهارا.
وسترجع يافا، تلك صيرورة أخلاقية وتاريخية، صعب ألا تعود، حتى المحتل لن يرضى عن ذلك طويلا.