في السابع من شباط 1990 استشهد أيمن زقوت
خالد جمعة | فلسطين
أم يوسف، تسكن في آخر مخيم الشابورة في رفح، مناضلة وحزينة، وبيتها الذي يجاوره السوقُ من جنوبه وملعب “برقة” من شماله، كان عنواناً يسهِّلُ الكثير من الوصفات، بتعرف بيت أم يوسف، بعدها بخمسين متر بتروح عالشمال بتلاقي المحل… وهكذا.
حين استشهدَ ابنها طلعت زقوت عام 1988، قطع الحدث قلبها إلى نصفين، فلم يبق لها في الحياة غير ابنها البكر يوسف، وإبنها الصغير أيمن، هذا الأسمر الذي تشوب ملامحه طيبة وخفة دم الأولاد الذين تشوبهم بعض السمنة الخفيفة، أيمن لم يكن ولداً مجهولاً، فلم أذكر أن امرأة من المخيم طلبت منه شيئا وتردد في تلبيته، حتى لو أدى ذلك أن يذهب إلى آخر المدينة، كان محبوباً وزاد من حب الناس له استشتهاد أخيه طلعت، ففي ذلك الوقت كان الاستشهاد عزيزاً والشهيد مكرما إلى حدود التقديس.
أيمن تعرض للاعتقال، وحكم عليه بالسجن، وشمل الحكم أيضاً بنداً يتضمن غرامة مالية عالية، كان يفترض أن يبقى أيمن في السجن بعد انتهاء فترة محكوميته إذا لم تُدفع الغرامة عنه، فقامت أمه بالاستدانة من كل من عرفتهم كي توفر مبلغ الغرامة ليخرج إبنها من السجن، وبالفعل خرج أيمن.
يوم 7 شباط 1990، عصراً، شاهدتُهُ يرمي الحجارة في مواجهة من ضمن المواجهات اليومية التي كانت تحدث في مخيم الشابورة، أمسكت به من طوق معطفه الجلدي الأسود، وهززته بعنف: إنت مجنون؟ ألا تعرف أن حكم السجن مع إيقاف التنفيذ الذي تلقيته جوار الحكم بالسجن الفعلي، سيطبق عليك دون محاكمة إذا أمسكوا بك؟ ثم إنك لم تخرج من السجن سوى منذ أيام، أمامك وقت طويل لكي تعود إلى النضال، خذ فترة راحة يا أخي.
أخفض رأسه بأسى معلناً موافقته على ما أقول، وتركني وغاص في المخيم، لكنه لم يذهب إلى البيت، ذهب إلى الطرف الآخر من المخيم، في شارع يؤدي إلى شارع البحر، المنطقة معروفة لسكان رفح باسم: منطقة المطافي، وهناك تلقى رصاصة قناصة عبارة عن رصاصة دمدم متفجر في ظهره جهة الكبد من ضابط عربي يعمل في الجيش الإسرائيلي، يعرفه كل سكان رفح، ولمن لا يعرف رصاصة الدمدم فهي ليست رصاصة عادية، بل هي رصاصة تتفجر بعد أن تدخل الجسد إلى مئات الشظايا التي تنتشر في الجسد وقلما نجا منها أحد.
المأساة بدأت بهذا ولم تنته، ففي مستشفى ناصر في خانيونس استقبله الطبيب [م.ف] ووضعه على طاولة الإستقبال وراح يبكي بحرقة ويقول: لو كان عندي جهاز [سمى جهازا لم يعرفه الواقفون] لاستطعت إنقاذه، لو كان عندي إبرة [وسمى دواء لم يعرفه الشباب أيضا] لاستطعت إنقاذه، لعنة الله على الإبر والأجهزة، وبدل أن يقوم الشباب بتهدئة أصدقاء وأقارب أيمن، أصبحوا يهدئون الطبيب الذي أصيب بحالة عصبية اقتربت من الجنون، وهو يصرخ باسم الجهاز وباسم الحقنة، أحضروها لي ويمكنني أن أنقذه، وزاد جنون الطبيب حين عرف أن لأيمن أخ شهيد.
على الطرف الآخر ولكي تكتمل المأساة، كنا قد حفرنا القبر وجلسنا ننتظر أن يأتوا بجثة أيمن، وهنا جاء أحد الشباب وقال: أيمن لم يستشهد، أصيب فقط، فخرجنا بعد أن انقلب انفعال الحزن إلى فرحٍ منطفئٍ حَذِرْ، وقبل أن نصل إلى طرف المقبرة جاء شاب آخر وقال: أيمن استشهد، أنا رأيته بنفسي، فعدنا لنقف جوار القبر، فجاء ثالث وقال: الآن أنا حضرت من المستشفى أيمن لم يمت، فخرجنا فقابلنا رابع وقال: أيمن البقية في حياتكم!!!
ثلاث مرات نخرج من المقبرة ونعود إليها، مع كل ما يرافق هذا الخروج وهذه العودة من انقلاب في الأحاسيس من صفر إلى مئة إلى صفر إلى مئة، لكن المرة الأخيرة لم تدع مجالاً للشك في الأمر، فلم يأت أحد ليخبرنا، بل أتى جسد أيمن مسجياً على نعش، كان جميلاً كعادته، مع غصة ظهرت في زم شفتيه قليلاً على ما يبدو من ألم الرصاصة، وقد تيبست حركة الألم على شفتيه، ووقف الجميع عند القبر، لكني لم أحتمل رؤية جسده ينزل إلى الحفرة، فانتحيت جانباً وجلست إلى جوار قبر شهيد آخر بعيداً عن الحشد، وفجأة تذكرت أنني عنفته قبل نصف ساعة فقط من استشهاده، فبكيت، بكيت بكيت بكيت، لم أبك شهيداً كما فعلت معه، اختلطت لدي ذكرى ما قبل استشهاده بنصف ساعة مع ذكرى أخيه طلعت مع انفعالات الفرح والحزن التي سببها تضارب الروايات حول استشهاده، بكيت دون وعي، بكيت أيمن وبكيت فيه كل شيء فقدته.
في بيت العزاء الذي أقيم خلف بيتنا، كانت المسجلة الضخمة تطلق آيات القرآن بلوعة، وكنت أجلس متذكراً أشياء كثيرة تخص أيمن، لم تعجبني الأحاديث الجانبية التي كانت تدور بين المعزين، وفجأة، قمت، واتجهت إلى بيتي، وأحضرت شريط كاسيت، أطفأت المسجلة، وأخرجت الكاسيت الذي كان فيها، فبدأ الجالسون بالاعتراض والتململ، لكني لم أهتم، بل لم أسمع ما يقولون، أحد الأصدقاء اقترب مني وسألني بحذر: ماذا تفعل؟ فأجبته: سأجعل كل الجالسين هنا ويتحدثون كأن شيئاً لم يحدث، سأجعلهم يبكون دماً، وقد فعلت هذا.
وضعت الكاسيت، رفعت صوت السماعات إلى آخر مدى، وضغطت على زر التشغيل، وجلست، فانطلق الصوت كعاصفة من حزن:
سأحُدِّثُكُم عن أيمن
عن فرحِ الغاباتِ الفاتنِ في عينيه
وعن سحرِ يديه
إذا فرّتْ أنهارُ الأرضْ
وخبأَهَا بينَ أصابعِهِ
سأحدِّثُكُمْ عن أيمنْ
عن قمرٍ تشتبكُ الأشجارُ
على دمِهِ المنسي
فيسقطُ في النسيانْ
عن طفلٍ
يركضُ خلفَ فراشتِهِ
وعن الخنجرِ
في أقصى الوديانْ
وعمَّ صمتٌ يشبه صمت المقابر على بيت العزاء، وبدأت الدموع تنساب من الجالسين على استحياء دون أن تصدر عن أحدهم بنت شفة.
أذكر يومها، أن الجيش حين حاول مهاجمة بيت العزاء، حدثت مواجهة من أعنف المواجهات التي جرت في تاريخ المخيم، كانت نتيجتها أن المخيم بقي لثلاثة أيام محرراً، يحتفظ بأعلامه وشعاراته، دون أن يتمكن الجيش من اقتحامه، والأهم، أن صوت مارسيل خليفة وأغنية أيمن، ظلت تتردد في بيت العزاء طوال الأيام الثلاثة بلا انقطاع.