طَريق السَّلامة

يكتبها : محمد فيض خالد

ما إِن تَتَربّع شمس الصَّباح الفاترة، مُرتسمة فوق حِيطانِ الدَّرب ؛ حتّى يتخذَ وجهته ناحيةِ الجسرِ، تبدأ الحكاية بافتعال شِجَارٍ مع أخيهِ ” فتوح ” ليفر بعدها مولِّيا خائفا يترقّب من ” عرجون ” أمه اللاسع، حَافيا، عريانا لا يسترَ جلده الرّقيق المصطبغ بزرقةِ مياه التِّرعة ، سوى جلبابه البالي ، لحظات ويَسندَ ظهره إلى جِذعِ ” النبَّقة” العتيقة المجاورة للمُصلَّى ، مُتنَمِّرا كصقرٍ يُراقِب حركة الطّريق التُّرابي الممهّد خاليا من كُلِّ شيء ، سوى شجيرات السّنط والصّفصاف ، التي احنت هَاماتنا تحت هجيرِ الظّهيرة الحارق .

ما إن تَقترب عربة حتّى يَهبّ منتصبا من فورهِ، وقد اكتسى وجهه بجديةٍ مُفاجئة ، يَنطَلق لسانه في تباهي:” أهلا يا مازدا حصيرة”، تبتعد عنه فلا يَتبقّى من أثرها الصّاخب، غَير غبار الطّريق المُتَلوّي ، تتجلى أحلامه ترعى أمامه في براحٍ  شاسع، تَلتَمع عيناهُ امتنانا وهو كاَمنٌ في مكانهِ ، يظلّ هكذا حتّى  يتَفرّق دمّ المغيب في الأُفقِ المحتقن ، لتُعانِق شمس النّهار التلال البعيدة، وتدفن رأسها في مياه بحر يوسف في بياتٍ مؤقّت، يَضحَك الشيخ ” مغاوري ” ملئ شدقيهِ، حينَ يتبدّى ” صابر” كحبةِ الذُّرة فَوقَ المقلاةِ، هَائجا لا يثبت على جنبٍ، تلتمع عيناه اللوزتيان وهو يحوقِلُ مذهولا :” اثبت يا ولد حَتّى لا يطيش عقلك ، شيطان رجيم ، خبير بجميع الماركات ، هنيئا لكِ يا نفيسة بخلفتك”، يتحلّب ريقه حين يتحسّس  هيكل عربة نقل القطن ، يُرابط أمام منزلِ المعلم ” عزيز” ، مُتَطوعِا يَحملُ صينية الشّاي ، كثيرا ما يَشبّ إلى قُمرةِ السّائق؛ يلتقط علبة السّجائر أو دفتر الأوزان ، تَشعّ السّعادة في  تقاطيع وجهه الذي لا يخلو من طفولةٍ، يتيه فيّ عوالمٍ من النّشوةِ مأخوذًا بالجمالِ ، يضرم صوته بحرارةِ الاندفاعِ، يزفر من صدرهِ زفرة عميقة ، يبدو أمامه خيالا زاهيا تنعقد خيوطه ، كما انعقدت خيوط الضباب حول الحقول ، ينتفض على إثرِها كمن مسّه طائفٌ من الشّيطانِ، أحلامه ألذّ من الشّهدِ حتّى ساعة نومهِ، يبدأ في تَصايحه ، يرَفس الهواء برجلهِ يُردِّدُ مُنفعِلا :” عجلة ورا يا أسطى تعالى كمان .. هب”، يسقط لحظتئذٍ جَسدا هَامِدا من فوقِ الفرنِ ؛ لا تفيقه إلّا  لسعة ” عرجون” النَّخيل في يدِ أمه، التي خَابَ ظنّها في ابنها ، كان أكبر همها أن تتخذهُ سندا ، بعد إذّ تَنكّرتها الأيام ، وأدارَ لها أهل زوجها الظهور ، تركوها وصغارها يتسولوا اللقمة ، تعتليه في لحظاتِ الشّجاعة، يقف في مواجهتها مُتلألأ الوجه وقد أشرق ، وفي نبرةِ الواثق يقول :” غدا نلعب بالفلوس لعب ، سوفَ اُسافِر لمصر مع الأسطى “مدكور”، دا قاللي أنت حريف سواقة “، ثم يذوب في الدّربِ، على ما يبدو أن نبوءة ” الحريف” بدأت تَتحَقّق ، مع موسمِ القطن ، تزدحم القرية بالشّاحناتِ ، استقبلَ ” صابر ” الأسطى ” مدكور” بحرارةِ التّرحَابِ بعد طولِ اشتياق ، فاتحه في أمرِ السّفر ، تناوشته جُرأة مُحبّبة، شخصّ ببصرهِ مُرتَاعا يُردِّدُ مفتونا :” مصر “، قبل أن ينفتلَ مُختَالا ، في عُجالةٍ جَمَعَ خِرقه في منديلٍ ، زَمجرت مُحركات الشّاحنات في غضبٍ ؛ تنفثَ من بطنها دخانها الكثيف ، اعتلى قُمرةَ القيادة إلى جوارِ معلمه ، اخَرجَ ذراعه من النّافذةِ مُلوِّحا في اغتباطٍ للصِّغار الذين تجمّعوا تنزّ عيونهم بشهوةِ الرّحيل، لتُودِّع القرية ” الحريف” إلى أجلٍ غير مسمى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى