الأسير ناصر أبو حميد وتقرير الأمنستي
عيسى قراقع | فلسطين
في المؤتمر الشعبي لنصرة الأسرى في سجون الاحتلال الذي عقد في قاعة الهلال الأحمر في البيرة يوم 9/2/2022، وزع علينا التقرير الطبي عن حالة الأسير المريض بالسرطان ناصر أبو حميد بعد أن قرأه شقيقه ناجي بصوت مرتعش يفيض بالحزن والغليان.
التقرير أعده البروفيسور ميخال لوطم المتخصصة في قسم علم الدم والسرطان في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، يثير الغثيان والخوف ، لم يقل التقرير ان الاسير ناصر سوف ينهض من السرير، تقرير يحقنك بإبرة التخدير لتعيش في السكون والاندهاش، تقرير يجعلك تلتصق في السرير، انتظار أن لا يسبب العلاج الكيماوي تلف الاعصاب وانخفاض تعداد الدم للأسير ناصر، انتظار ان هذا السرطان الحرشفي قد لا يمتد في جسده أكثر، انتظار الا تضطرب وظائف الرئة كي يستطيع أن يتنفس بلا أجهزة اصطناعية، انتظار أن يتغير زمن البقاء على قيد الحياة من سنة الى خمس سنوات وأكثر وأكثر، أن يشفى ويعود الى أمه الصابرة .
هذا التقرير يوتر الاعصاب، يتحرك مع ناصر من مستشفى إلى مستشفى، ومن علاج إلى علاج، التقرير شهادة مرافقة للأسير ناصر أمام المحاكم الدولية والرأي العام ، التقرير تزداد صفحاته وتتقلص كلماته كل يوم، الأعصاب تتوتر أكثر، التوقعات مخنوقة ، التقرير مليء بالدم والسعال والقلق، يرتجف في يد ناجي ابو حميد شقيق ناصر، يبكي أمام الجمهور، التقرير صار سردية طويلة تقرأ في صفحاته عن مئات الحالات المرضية في السجون التي التصقت بالسرير والجدار ولم تنهض أبداً، التقرير يتحدث عن أسماء اسرى أحياء ويشطب أسماء أسرى غادروا الحياة .
التقرير الطبي تفوح منه رائحة جريمة منظمة تجري في اقبية الظلام، صفحاته بيضاء وسطوره تذوب شيئاً فشيئاً، صفراء أحياناً ومنقوعة بالدم الاسود المحتقن احياناً أخرى، وفي ختام التقرير تقرأ:
السيد ناصر مصاب بسرطان الرئة وتوقع كبير بموته بسبب مرضه في الوقت القريب، وفي هذا الختام تفرق الحشد الشعبي وغادروا القاعة، الكل يقيس المسافة بين القريب والبعيد في كلمات التقرير، الكل وضع يده على صدره، الجميع خرج ولكن لا يعرفون إلى اين …
آلاف التقارير الطبية وثقت حالات الأسرى المرضى وسياسة الاهمال الطبي المتعمد واستهتار سلطات الاحتلال بحياة الاسرى وعدم تقديم العلاج اللازم لهم، هذه التقارير المكدسة رفعت الى جميع مؤسسات حقوق الانسان بالعالم والى لجان الأمم المتحدة، لم يأت احد، ربما لم يقرأ أحد، وفي المرة الوحيدة اليتيمة التي وصلت فيها لجنة تقصي حقائق كانت عام 2014 من قبل البرلمان الاوروبي على أثر استشهاد الاسير عرفات جرادات، جرى طرد اللجنة من قبل سلطات الاحتلال ولم يتم التعاون معها، لقد اقفل الملف مصحوبا بالاستياء والاستنكار العاطفي .
التقرير الطبي عن حالة الاسير ناصر أبو حميد يقول: ان اطباء السجون ومن يقف وراءهم خانوا القسم الطبي العالمي، واصبحوا جلادين في زي أطباء، مشاركين في الجرائم الطبية المستمرة، أو صامتين عن سياسة القتل البطيء للأسرى ومشاركين في عملية التعذيب الجسدي والنفسي، ومكملين لأدوار المحققين وسياسة القمع المنظم بحق المعتقلين
التقرير الطبي لناصر ابو حميد يشخص حالة الشعب الفلسطيني تحت نير الاحتلال، العلاج الكيماوي الذي يستخدمه المحتل بحق كل فلسطيني، تدمير الخلايا والعقل والفكر والتطلعات الفلسطينية، تقليص الصراع الذي يدعون اليه هو تقليص الاحلام والجغرافيا وتلاشيها بعد زرع امراض الاستيطان والنهب والسلب والقهر ونشرها من البحر الى النهر في نفوس الشعب الفلسطيني .
التقرير الطبي عن حالة الأسير ناصر أبو حميد يثير الغثيان، كابوس هناك في السجن المحصن بالأسوار وأدوات البطش الرهيبة، وهنا أمام الحواجز والاقتحامات والإعدامات الميدانية، تجفيف حياة البشر، كل شيء بأيدي المستعمرين: الاقتصاد والحركة والهواء والدواء والفضاء، يزحفون استيطاناً وقتلاً، يزحفون إلى البحر وإلى أخر خيمة لبدو النقب في الصحراء، يزحفون إلى القدس والشيخ جراح والأحياء، يهدمون ويطردون ويجرفون ويعتقلون ويمارسون طقوسهم وعربداتهم الشيطانية في كل مكان.
التقرير الطبي عن حالة الأسير ناصر أبو حميد يكشف مدى عجز نقابة الأطباء العالمية والموقعين على الإعلان العالمي لحقوق الأنسان وكافة المواثيق الدولية، جميعهم لم يستطيعوا إنقاذ الضحيّة وإنقاذ أخلاقيات المهنة الطبيّة، لقد ترك الأسرى خلف السياج يموتون ببطء، الشريعة الاستعمارية تهيمن على شريعة حقوق الأنسان، التقرير لم يحرك أحداً سوى خشبة الموت على أكتاف الحائرين .
التقرير الطبي عن حالة ناصر أبو حميد يثير الغثيان، انه يعلن أن الصهيونية تفترس البلاد والأشلاء، وأنه لم يعد هناك وقت للعلوم والإنسانيات وشعارات السلام، الأسير يصارع الموت ، كوابيس الأسرى المرضى المشلولين والمعاقين والمصابين لم تعد تحميها المسكنات والعكازات والشعارات، البلاد تنهشها الوحوش الجائعة ، البلاد تحولت إلى معسكرات اعتقال جماعية، نحن في بطن الوحش، سرطان الاحتلال المزروع في جسد ناصر ابو حميد يتفشى في أجسادنا، يدمر لغتنا وثقافتنا وأدياننا وأنظمتنا الاجتماعية ، يفترس أرواحنا وأجسادنا قبل وصول الآلهة .
التقرير الطبي عن حالة الأسير ناصر أبو حميد يرد على تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي ) الذي نشر يوم ١/٢/٢٠٢٢ ويتهم إسرائيل بارتكاب جريمة الفصل العنصري بحق الشعب الفلسطيني ( الابرتهايد ) من البحر إلى النهر، داعياً إلى تفكيك هذا النظام ليحل السلام في المنطقة، جسد ناصر أبو حميد هو جسد الشعب الفلسطيني أرضاً وتاريخاً وحضارة ووجودا، لا ينفذ عليه صراع عرقي فقط لنطالب بإصلاح النظام الإسرائيلي وبالحقوق المتساوية، إنه صراع إبادة وتطهير قومي، مشروع احلالي مركب من السيطرة والإستعمار والكولونالية والعنصرية، فحق تقرير المصير حسب قانون القومية الإسرائيلي محصور فقط لليهود، الحق في الوجود والحياة لهم وحدهم، نحن لسنا فقط بحاجة للتصاريح وحرية التنقل بقدر ما نحن بحاجة الى حق تقرير المصير وزوال الاحتلال، فأمراض الاحتلال المؤقتة صارت دائمة ومرسخة .
التقرير الطبي عن حالة ناصر ابو حميد يقول: أن السجن الاسرائيلي هو قبر لكل المقاومين والاحرار، الاسرى يقبرون في امراضهم المزمنة وفي مؤبداتهم المفتوحة على اعماق النسيان، أنهم في جرف يؤدي الى الهاوية، السجن الصهيوني صمم من اجل الابادة الجسدية والثقافية والوطنية، وتمتد الابادة وجدانياً ومادياً الى خارجه لتقيم نظام السيطرة والهيمنة على حياة ملايين الفلسطينيين، وهذا هو جوهر المشروع الصهيوني واهدافه الكولونيالية .
هناك مسافة بين التقرير الطبي حول صحة الأسير ناصر أبو حميد وتقرير منظمة الامنستي، مسافة في المفاهيم والمفردات المتوارية، تقرير الامنستي هو وردة على قيد، لم ينزع المرض الخبيث في الجسد المقيد، في حين ان التقرير الطبي عن حالة ناصر أبو حميد يقول: لا تستبدلوا كلمات الاحتلال والاستعمار بالابرتهايد، الحالة مختلفة، لا تستبدلوا خطاب الحرية والانعتاق بخطاب الحقوق المتساوية، لا تشرعنوا الكيان الاستعماري الصهيوني الذي قام على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية والتاريخية، نحن نموت كل يوم، نحن في معازل ضيقة، بلا هوية وبلا جنسية، انهم يرفعون فوق رؤوسنا البنادق ويهتفون بشعار التوراة (لا تشفق) صارخين: أبد سكان كنعان ولا تشفق عليهم، اقطع حناجرهم، اذبحهم جميعاً رجالاً ونساءً، وشيوخاً واطفالاً وبهائم، ليتمجد الرب بذلك .
الاسير ناصر ابو حميد في قبضة المرض والسجان، هو بحاجة الى الحرية والحياة والكرامة الانسانية، هو في قبضة النازيون الجدد، هو لا ينتفس، لا يتحرك، انه يتلاشى، لا يوجد وقت، انتهى التقرير، توقف التشخيص، ارتاح ضمير العالم كثيرا بعد تقرير الامنستي، والان يعدون لنا خطاباً مؤثراً للرثاء.
تقرير الامنستي وكافة التقارير الدولية لم تفرج عن اسير مريض يصارع الموت، انها تثير الغثيان، هي تعرف اننا نموت كل يوم، ولكنها لا تحمي الحياة، هي تعرف أن إسرائيل كدولة مستعمرة ومحتلة تتصرف بعنجهية فوق القانون الدولي، لكنها لا تحاسب ولا تلاحق وتتوارى خلق اللغة السحرية، هي تعرف أن الكيان الصهيوني يصب كل هواجسه وهلوساته وخرافاته فوق رأس الشعب الفلسطيني ولكنها تمده بالدعم والاسلحة.