التنظير المؤيد لقصيدة النثر مِنْ ذوي الموزون، خباثة أمْ رثاثة؟

جوانا إحسان أبلحد | شاعرة وناقدة عراقية واختصاصية طب المختبراتملبورن / استراليا

يحدث أن يحطَّ نورس التساؤل على بحيرة الفكرة الآتية بذهني :

ما الذي يُعرِّف النتاج اللغوي/الإبداعي/العربي على أنهُ (شِعر) وبمنأى تام عن التعريف العتيق لـِ قدامة بن جعفر بأنهُ (كلام موزون مقفى له معنى) هو الشِّعر المُسَلَّم بهِ أو المُشرَّع لأجلهِ.

وهوذا أُهجِّج هذا النورس مِنْ على بحيرة فِكْري بالإجابة مِنْ منظوري الإبداعي على هذا التساؤل الشيِّق وَ الشاق في آن..

برأيي يُصَنَّف النتاج (شِّعراً) بالدرجة الأولى لو احتوى على سمة الشِّعرية والرابضة على صخرة المخيال التصويري/الرؤيوي، ثم تفتيت تلك الصخرة بمعاول الكتابة الشِّعرية كـ الاستعارة، الكناية، الانزياح، ثم مجموع النتاج قابل للقراءات المُتعددة التأويل والتأوين. أعتقد عند توافر هذه السمات يكون النتاج شِّعراً بغض النظر عَنْ موزائيك بنائهِ، لو يتراصف على التفاعيل الخليلية أو بأسلوبية حرة.

وكم مِنْ أشعار قديمة وصلتنا مِنْ حضارات قبل الميلاد وكانتْ مخطوطة على الحجر أو ورق البردي وصُنِّفتْ كـ (شِّعر) بذهنية أوانها أو حتى بذهنية الناقد لها بيومنا هذا، وبديهياً كانتْ مكتوبة بأسلوبية حرة وخارج المصفوفة الفراهيدية.

إذن الشِّعرية هي الحد الفاصل بين تصنيف النتاج كــ شِّعر مِنْ عدمه بغض النظر عن موزائيك بنائه على حدِّ رؤيتي الشخصية/الشاخصة بذاك النورس..

:

قصيدة النثر، ونورسها الذي حلَّقَ بآفاق الشِّعرية وبمنأى شاسع جداً عن سجن التعريف العتيق للشِّعر (كلام موزون مقفى له معنى)، وعليه أسميتُها منذ مجازٍ ونيف بالقصيدة المُجنَّحة..لكن ماانفكَ تعاطي بني الموزون مع هذه المُجنَّحة يُــؤجِّجُ ذهني بالاعتقاد الآتي:

أعتقد هو شأنكَ الخاص لو تُحلِّق بنورسكَ الشِّعري ضمن سياج ذاك السجن أو تجعلهُ يفطس تماماً بسرداب ذاك السجن..لكن ما مدى شأنك الإبداعي بالنوارس الشِّعرية الأخرى والمُتصيِّرة مثلاً على هيئة قصائد نثر ؟!

يحاولُ أحياناً بعض شعراء الموزون أن يجُرِّبوا كتابة قصيدة النثر، ربما من باب اِستسهالها وسخريتهِ الباطنية أو العلنية منها، أو من باب تجريب حقيقي يؤمن بقيمتها الإبداعية، بكلتا الحالتيْن اللغط الأكبر الذي يقع به هؤلاء المُجرِّبون يأتي مِنْ سماعِهم بمعيار واحد مِنْ معاييرها -الذي يمقتونه وَيستغربونه- والمُتمثِّل باللاوزن/اللاقافية.

ويأتي تجريـبُهم بها كمحاولة الاِنسلال مِنْ الوزن المُـناط بـسليقتِهم الشِّعرية وحرية الكتابة المُرادفة عندهم لحرية البوح ليس إلا..فـينتهي نتاجُهم/ تجريبُهم على هيئة خاطرة تتوكَّـأ عُـكَّازَ البوحية السافرة لغوياً ودلالياً وضاجَّة بالكنايات المستهلكة..ربما يجهلون أو يتغافلون أن قصيدة النثر الحقيقية/الحاذقة وثلاثة خطوط تحت نعتيِّ الحقيقية/الحاذقة لاتؤتى بسهولة وتُـعَدُّ أصعب أنواع الشِّعر،

معاييرها شائكة وجدانياً / شاقَّـة فنياً، بينما المعيار الأصعب الذي يُصنِّفُ النص كقصيدة نثر هو عمقها الفلسفي ونوعية رؤاها بتقنية مغايرة بالانزياح والاستعارة عن التي بالشِعر الموزون. وليس بالضرورة هناك المقدرة التامة من تحقيق العمق الفلسفي أو الاستعارات المبتكرة عند جميع معتنقي قصيدة النثر، كما أنه ليس بالضرورة كل معتنقي الموزون لو جرَّبـوا كتابة قصيدة النثر ينتهي نتاجُهم على هيئة خاطرة جـلـيَّـة.

:

هذا التجريب بِـ نورسيَّـة قصيدة النثر سواءً جاءَ مُحَلِّقاً أم زاحفاً، أراهُ صحياً بالحالتيْن..لأن التجريب بأيِّ لونٍ جديدٍ على اِعتناقنا الإبداعي ولو مـرَّة واحدة بعمرنا الإبداعي حركة ناجعة وماتعة في آن.

وعلى سبيل المثال، ماذا لو حاولَ شاعر الموزون أن يتنصَّلَ مِنْ نمطية تعابيره ويأتي بكناياتٍ أدهش تأثُّراً بقصائد النثر -القوية- وماذا لو حاولَ شاعر قصيدة النثر صياغة العبارات بطريقةٍ أبلغ تأثُّراً بقصائد الموزون -القويَّة -، أجل هكذا تجريب يُساورنا بالانفتاح على فنيات جديدة ويساعد على عملية التبادل اللغوي والرؤيوي بين الألوان الشِّعرية.

وهذا المسفوك مِنْي أعلاه على سبيل شأنك الإبداعي/التجريبي بقصيدة النثر وأنت فقط شاعر موزون. لكن إن كُنتَ تعتنق الموزون إلى جوار النقد،

ما مدى شأنك التنظيري/النقدي بهذي القصيدة المُجنَّحة -آنياً- وأغلب معتنقي قصيدة النثر -آنياً- يكتبون ما يُصنَّف بالخاطرة ويقدِّمونها بشكلانية قصيدة النثر..والأنكى تأتي حضرتك وتمارس تنظيراً مغلوطاً على كيان إبداعي بأكملهِ وعُكَّازكَ يستند على أرضيةِ نتاجاتٍ رخوة ليستْ بقصائد نثر، سواءً جاءَ تنظيركَ مؤيداً أم معارضاً لها. أيضاً هناك احتمالية نفوق نورسها بين يديْكَ لو أخضعتَها لإحدى منهجيات النقد الكلاسيكي، وهي القصيدة الحديثة فنياً ولغوياً وأديولوجياً، وحضرتك الجاهلي بكُلِّ تعبيرٍ وتخريج حتى الرثاثة..!

ثم حضرتك كـ شاعر/ناقد موزون لامناص أنكَ تجزم بأنَّ الناتج الصحيح لمعادلة الشِّعرية العربية لايُستخرج إلا مِنْ خلال المصفوفة الفراهيدية، فالشِّعر العربي عندك مقرون بالإيقاع، والإيقاع عندك لايتحقَّق إلا مِنْ فوهة العروض..ولأن قصيدة النثر لاترتدي بُردة الإيقاع الخليلي ستبقى بمنظوركَ ليست شِعراً..وهُنا الإسقاط المبطن لها حتى لو منهجيتكَ النقدية ثرثرتْ بجمالية صورها أو أسْـهَـبَـتْ بتبيان أي إيجابية فنية بها، لكن بنهاية التنظير قد تُصرِّح أو تُلمِّح أنها ليستْ شِّعراً..وهُنا اللقمة الخنَّاقة بطعامٍ شهيٍّ لكنه مسموم..!

بَلْ هُنا الطعنة السامة بخاصرة النضال الإبداعي عند معتنقيها وهم يحاولون تقديمها كـ شِعر على مَـرِّ عُمْرِها، خصوصاً قصيدة النثر العربية.

:

شخصياً أرى أن التنظير السديد/البنَّاء لقصيدة النثر يأتي فقط من الذي يعتنقها إبداعياً وبهيئة قوية وَ قاهرة في آن..فهو الأعمق والأعرف برفَّـاتِ أجنحتها عند محاولة التحليق بمعاييرها الشائكة فنياً / الشاقة وجدانياً.

بينما محاولات التنظير لها مِنْ ذوي الفنون الأخرى، فأغلبه يصبُّ ببالوعة الإسقاط المبطن أو اللغط السافر حتى لو جاءَ مؤيداً لها –هذهِ رؤيتي الشخصية- ولا أراها فقط مع تنظير معتنقي الموزون بَلْ تشمل القاص والروائي عندما نظَّرَ لها.

ومِنْ نافذة رؤية مُغايرة وَ مُنصفة في آن :

أراني أمقت تنظير معتنقي قصيدة النثر، حصراً الذي يتناسى بلورة معاييرها أو إنصاف مبدعيها الحقيقيين بـتدارُس أسلوبيتهم، وينهمك فقط بالتنظير المقارن بينها وبين الموزون فيُسهب ويُبالغ بجدواها الخارقة في الألفية الثالثة ثم يتنبأ باِندثار القصيدة الموزونة !

وأغلبنا يدرك عدمية هذا التنبؤ/التمني والمسألة محسومة/متأصلة بذائقة المتلقي العربي والمُبرمجة سماعياً بالإنجذاب لإيقاع الموزون الأشدُّ والأشجى..!

:

ختاماً :

برأيي قصيدة النثر العربية لامناص لها إلا أن تسيرَ بخطٍّ متواز ٍمع القصيدة الموزونة وتحاول أن تتنافس معها بهيئة شفَّافة على حلبة النص الإبداعي- لاغير- فهذا الأبقى والأبهى للنوعيْن والذي يُطوِّر الشِّعرية العربية مِنْ خلال النوعيْن. وأتمنى على النقاد مِنْ كلا النوعين أن ينشغلوا بالتنظير الذي يُرادف التدارُس الجاد/التطوري المنفرد بكُلِّ نوعٍ على حدة، ويخرج جمعهم مِنْ دائرة النقد المقارن بين النوعيْن، والذي يُؤلِّب التعصُّب والتنافر واللاجدوى إبداعياً.

شخصياً أحبُّ الشِّعر الموزون وأتذوَّقهُ بحاسة نيِّرة جداً/مُستأنسة جداً، حيثُ كانتْ بداية وجداني الإبداعي بهِ قبل اِعتناق القصيدة المُجنَّحة، كما أؤمن بتأثيرهِ الأكبر/الأطيب على العامة، لَكِّنِي أنبهر فقط للموزون المُتجدِّد/المُتفرِّد لغوياً ودلالياً، فأُراهن على فعاليته الإبداعية بالألفية الثالثة بالذي يُنافس قصيدة النثر وَ أبهى !



 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى