“حليب الضّحى” لـ” محمود شقير” جنس أدبي جديد هجين.. يجمع بين القصّة القصيرة جدّا والرّواية

ديمة جمعة السّمان | فلسطين

   في كل إصدار جديد يفاجئنا الأديب محمود شقير، بأسلوب متجدّد يثير الجدل.. في مجموعته القصصيّة “حليب الضّحى” الصّادرة عن “مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة عام 2021، والتي تقع في 238، وتحتوي على 202 قصة قصيرة، لم يكن الجديد في الفحوى فحسب، إذ أن المرأة دائمة الحضور في كتاباته، فهي الأم والأخت والإبنة والحفيدة والحبيبة… إلخ. ولم يكن الجديد أيضا في تناوله واقع المقدسيّين في مدينتهم المحتلّة المقهورة بفعل الاحتلال الغاصب. إذ أن شقير أفرد إصدارات كاملة عن القدس التي يعشقها، والتي لا يعتبرها أي مكان فحسب، فهي كل شيء ذكره ولم يذكره في مجموعته، تسكن الوجدان والأحاسيس والمشاعر، وتتربّع داخل حجرات القلب، تأبى أن تغادرها.. كان الجديد في “حليب الضحى” أنها تميزت بلون جديد هجين، يجمع بين القصة القصيرة جدا والرواية، وكأن شقير يؤسس لجنس أدبي جديد.

 المجموعة عبارة عن سلسلة من قصص قصيرة جدا، مربوطة بخيط رفيع، يجمعها كخرز المسبحة، تقرأها رواية متكاملة، تقدّم لك تفاصيل الحكاية، مع الاحتفاظ باستقلالية كل قصة قصيرة جدا من ال 202 قصة، إذ أنّه من الممكن قراءة كل قصة منفردة، والاكتفاء بها، تماما كقصصه التي اعتدنا على قراءتها والاستمتاع بمفرداتها المكثفة الغنية، قليلة العدد وكبيرة المعنى.

حليب الضّحى لون جديد لا ينحاز للرّواية، ولم ينحز للقصة القصيرة جدا أيضا، بل جمع بينهما في قالب جميل منمق، فقدّم لكل قارىء اللون الذي يرغبه، فإن رغب في القصة، يقرأ كل قصة باستقلالية تامة، ويبحر في خياله، يغوص في الكلمات يحللها ويصنع منها حكاية طويلة.  أما القارىء الذي يبحث عن الرواية والترابط بين الأحداث فيقرأها “رواية”. كما فعلت انا، فقد استمتعت بأحداثها المترابطة المتكاملة بشخوصها وعلاقاتهم ببعضهم البعض، ونسيت أو تناسيت ما كتب على غلاف الكتاب: (قصص قصيرة جدا).

“حليب الضحى” نصوص تحمل الوجهين بتقنية المحترف. كتبها شقير بأسلوبه السهل الممتنع، فيها الوصف والخيال والمعلومة والعمق والدهشة والعبرة والألم المغموس بالأمل.. رأيت فيها الانسان بضعفه وقوته، ابتسمت حين ابتسم، ومسحت دمعته حين حزن، وفرحت لفرحه، وغضبت لغضبه، وتألمت لألمه.. وتأمّلت الخير معه بمستقبل فجر آت.. ولكن، ماذا قصد شقير بحليب الضّحى؟ وهل يختلف حليب الضّحى عن حليب الصّباح؟

وفق تفسير بن سيرين للأحلام، فإنّ شرب الحليب في المنام، يعني الرّزق والمال. إذن، هو وصف للعامل الذي يخرج في وقت الضّحى ليلتقط رزقه، ويعود لعياله آخر النّهار بالرّزق الوفير، ليلبّي احتياجاتهم ويوفّر لهم حياة كريمة. ولكن هل يستوي رزق الذي يسري صباحا، ورزق الذي يفوته الصّباح؟

تناول شقير حياة عائلة بدوية، يخرج أبناؤها إلى مدينة القدس بحثا عن الرّزق الوفير. وقد كان لكل ابن من أبنائها قصة لها دلالات اجتماعية ونفسية، منهم من يتزوج ليكتشف أنه عقيم، وآخر يتزوج ليكتشف أن زوجته عاقر، ومنهم من يتوه بين الموبقات السبع، فيرتدّ ويصحو من غفوته على يد امرأة اسمها مريم، وهي نصرانية الديانة. لم يختر الأديب شقير أسماء شخوصه بعفوية، بل قصد أن يوظف كل اسم لخدمة نصوصه، إذ كان كل اسم يشكل دلالة لها أبعادها… “قيس” العقيم طلّقته زوجته نفيسة، فتزوج ليلى العوراء التي عشقته بعد أن علمت أنه يكتب رواية، وهي تحب الروايات.. قررا أن يتبنيا طفلة، فأسمياها ” قدس”… نفيسة، طليقة قيس تزوجت رشيد، فأنجبا طفلا أسمياه قيس. نفيسة أرضعت قدس، فأصبح “قيس” و”قدس” أخوين في الرّضاعة. استشهد رشيد -والد قيس الصغير- برصاص الغرباء، الا أن العلاقة الحميمة بين الأسرتين زادت تقاربهما، وجعلت منهما أسرة واحدة متحابّة… ركّز شقير على رضاعة الطّفلين، وعلى مشاعر الأمومة، وحاجة الأم لإشباع غريزتها… أمّا مدينة القدس، وواقع مجتمعها المرير، فقد كان له حظّا كبيرا في المجموعة.

فكان الشّهيد والأسير والجريح، وكانت جرافات الغرباء التي تستهدف المنازل وتترك سكّانها دون مأوى. وكان جمال القدس بطبيعتها الخلابة، وتنوّع فصولها الأربعة. وكان جمال روح من يسكن القدس: الطّيبة والرّحمة والتّكاتف والتّعاطف والانتماء والإخلاص مكلّل بالأصالة.

تحدّثت مجموعة “حليب الضّحى” عن النّكبة التي شرّدت الفلسطينيين من بيوتهم، وتحدّثت عن ضياع المراهقين داخل مجتمع الغرباء، حيث تتوفّر فرصة العمل. فهناك الخمر والنّساء والموبقات بأنواعها، في ظلّ غياب المناعة النّفسية والاجتماعيّة. ولا يصحو الشّاب إلا بعد حين، وقد غرق في وحل الخطايا، إلا من رحم ربي.

مجموعة “حليب الضحى” هي عبارة عن عدّة صور اجتماعيّة سياسيّة اقتصاديّة تاريخيّة جغرافيّة متراصّة، جعلت منها لوحة إنسانيّة كبيرة، وثّقت سيرة شعب ومكان في زمان حرج، ينتظر رؤية توثيقيّة إنسانيّة بعيدة عن التّوثيق التّاريخي التّقليدي الذي يزيد من ظلم الإنسان، ويحوّله إلى رقم لا قيمة له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى