” خراريف “.. واقع متصل بالذاكرة
د. إيهاب بسيسو | فلسطين
في استعادة العبث على خشبة المسرح أو في محاكاة وقت لم يتغير منذ نشأت الحروب في دروب المدن كجيوش ومقاتلين.. يطل مسرح الحارة الفلسطيني من بين ركام الحكايات المرتبكة بين شمع متأرجح في الظلام ودوي القذائف ونصوص الحروب المدفونة كذكريات صامتة ليتحدى عقدة الصمت الملاحقة لوجع الضحية عبر عمل مسرحي بعنوان “خراريف” مستوحى من نص الكاتب العالمي أوجين يونسكو بعنوان “تخريف ثنائي”.
النص الذي تم توظيفه مسرحياً في أكثر من رؤية وتجربة فنية، يظهر في التجربة الفنية الفلسطينينة “خراريف” كمزيج مسرحي ساخر في إحدى تجليات مسرح العبث الذي ساهم عبر العديد من الأعمال المسرحية في تأمل النتائج الناجمة عن الحروب والتي شكلت في السياق حالات نفسية سيطر عليها انعدام الثقة في الآخرين مما مهد الطريق تدريجياً لانعزال الإنسان وسيادة الفردانية إضافة إلى صور الويلات المختلفة والدمار المادي الذي طال أوروبا خلال القرن العشرين بسبب النزاعات المسلحة المتعددة.
خراريف سؤال الوقت المتصل بالقلق والبحث عن فسحة أمل ممكنة في مدينة متخيلة تنهشها الحرب بكل ما لديها من ضجيج وقذائف.. رؤية العمل المسرحي مبنية على حوارية قلقة بين زوجين يعيشان ضمن ديكور متقشف يمثل بيتاً صغيراً في عمارة سكنية تقع على طريق رصاص المتحاربين، هل تهم هنا الأسماء؟ أو هل يهم إن كانت الحرب جنوداً محتلين أو ميليشيات مقاتلة؟ …
هنا – على خشبة المسرح – تذوب تفاصيل البارود القاتل خارج البيت الصغير وتظهر عقدة المحاصَرين بالتوتر والقلق والخوف أمام جمهور يرى الكثير من ملامحه اليومية وجها، لوجه على خشبة المسرح.. هنا تتلاشى المسافة المتوقعة بين المتخيل والواقعي في مساحة ضيقة شبه محطمة كتلك الأجساد التي تحاول حماية ما تبقى من صوابها وذاكرتها وأحلامها في وقت الحرب.
الجغرافيا تتسع لكل التأويلات الممكنة عربياً وعالمياً هنا يمكن رؤية غزة وبيروت ودمشق وبغداد وبرلين وباريس ومدريد وغيرها من مدن العالم الذي يواصل الحياة على حافة الموت.. هنا يمكن رؤية ذاكرة حروب أهلية وصراعات يومية مع ظلال الاستعمار وبشاعة الديكتاتورية.
المسرحية تترك للجمهور حرية التأويل واختيار المكان والزمان الملائمين للمعنى دون تكلف أو انحياز مسبق لحدث أو حرب معينة.. ربما لهذا تم الاستعانة في سياق المعالجة الدرامية والرؤية الاخراجية بمقاطع عاجلة لأغنية “جاي مع الشعب المسكين” لزياد الرحباني والتي استخدمت قبل ما يقرب من خمسين عاماً في مسرحية نزلة سرور، للدلالة على استمرارية الأسئلة التي ما زالت تلهب الحناجر في كل زمن ومكان …
جاي مع الشعب المسكين
جاي تأعرف أرضي لمين
لمين عم بموتو ولادي
بأرض بلادي جوعانين” …
في مسرحية “خراريف” اتحدت الكثير من عوامل النجاح التي جعلت المسرحية لوحة مكثفة للوقت الانساني عموماً والفلسطيني على وجه الخصوص في مواجهة عبث الحروب والصراعات الأهلية …
منها أداء الفنان نقولا زرينة والفنانة هديل تكروري والفنان جريس أبو جابر …
ومنها تصميم الإضاءة والمؤثرات الصوتية والديكور لعصام رشماوي ومنها المعالجة الدرامية لميرنا سخلة عن نص الكاتب الفرنسي، الروماني الأصل أوجين يونسكو ومنها إبداع المخرج محمد عيد الذي صنع من تلك القدرات الفنية الثرية بالمعنى لوحة مسرحية تستحق التأمل ضمن مفردات العبث في الواقع المتخيل وعلى خشبة المسرح …
المسرحية التي تجوب المدن الفلسطينية من إنتاج مارينا برهم – مسرح الحارة في بيت جالا والتي استضافتها اليوم جامعة دار الكلمة في بيت لحم تقدم مشهداً من مشاهد الرؤية الفنية الفلسطينية غير القابلة للهزيمة أمام مختلف التحديات …
هكذا عرفت الصديقة مارينا برهم منذ سنوات بإصرارها ومثابرتها مع جميع أعضاء أسرة مسرح الحارة على مواجهة الرداءة بالمزيد من العمل على صناعة جمال فني نواجه فيه رداءة الوقت برؤية وعزيمة …
“خراريف” عمل مسرحي يستحق المشاهدة …
Marina D J Barham
جامعة دار الكلمة
مسرح الحارة