خاطف البهجة.. قراءات في شعر السمّاح عبد الله (9)

فتحي محفوظ | ناقد مصري

 القصيدة السابعة: نذر

لكأنما أعطاكَ ربّ الكون شيئا آخرًا
غير النشيجْ
تلقى به أهوالَ هذا العالم المهزوزِ
بين السهوِ والحرامْ
وترش هذا الشوك بالألق المعبق
والأريجْ
لكأنما يختارك القدّيسُ
أنت المتعبُ الصديانُ
راهبًا
تجترُّ طولَ الليل شهوةً
بين زوايا هذه الكنائسِ المحرَّمةْ
تمضي وحيداساكتا
والناس يحرسها الضجيجْ
يا أيها الموهومُ
من أعطاكَ سِرّ الفرحةِ الأُولى
ووارى وجهَه
ومضى
فصرتَ تعسُّ في خللِ الليالي
واحدًابين الجداراتِ الكثيرةِ
والهواء مُعَبَّأٌ بروائح الغُيَّابِ والماضينَ
والجسدُ النحيلُ يحاولُ الفرحَ العصيَّ
وأنتَ منذورٌ لشيء آخرٍ غير النشيجِ
وغير آلامِ السهامْ
يا أيها الموهومُ
شيَّخَتِ المشاويرُ الطويلةُ في خُطاكَ
فكيف فضَّختَ الحشا
ولمنْ
تعجّلتَ الكلامْ؟.

المثالية تحت أثقال الواقع المهزوز

التكوينات الشعرية عند الشاعر الكبير السماح عبد الله واحدة من خصائص شعره. في قصيدة نذر وللوهلة الأولي نصبح أمام واحدة من تلك التكوينات، وهي التكوينات التي تتمثل في خواص تكاد ان تنفرد بها، كالاهتمام العميق باللفظ والكلمة، وخلق الصور الموازية للدلالات العميقة، والقدرة علي التجسيم اللغوي. إنها الاعتبارات التي تتعلق بقدرة اللفظ بمفرده مدفوعا بقوة استطراد ما سبق من الإنشاد علي الإيحاء، وهذه ملكة من ملكات الخلق الفني لدي شاعرنا الكبير. إن تداعيات المعاني، والتصاق الكلمة بالجملة، والتصاق الجملة بالنص، باعتبار أن النص يمثل في حد ذاته جملة كبيرة طبقا لما يراه رولان بارت، ربما أتاح له تلك المقدرة علي إيجاز التدفق السردي واختصاره في لمحة أو كلمة أو حتي لفظة أو إشارة، ناهيك عن استخدام مساحات الفراغ للتعبير عن اللحظة، وهو ما يعنيه إفساح المجال لعالم الإشارات في بلورة النص بكلمة أو إيماءة أو إشارة، وفي هذا ما يثقل الأعباء الوظيفية لدي الناقد، لتلمس كل كلمة أو لفظة أو إشارة لقياس تداعيات المعني. من بين خصائص التكوين لدي شاعرنا أيضا هو تسخير قدرته علي السرد نظرا لما يتمتع به من موهبة تختص بالقص والسرد والحكي، وهو ما يساعد علي تتبع الخيوط الدرامية للأحداث المروية بطريقة سلسة.
علينا أيضا أن نتخيل موضوع قصائده، وهو يحيطها بالعناية، حتي أنه غالبا ما يضع مفرداتها داخل إطار يجيد وصفه وهو ما أطلقنا عليه بالحيز . دائما وأبدا يستخدم السماح عبد الله إطاراته المحددة لإنشاء موضوع مغلق علي مساحته، يحتوي علي حيز ضيق، ومن ثم فالإدراك للقيمة الجمالية لنصوصه هو إدراك ينبع من طريقة النظر إلي موضوعاته، كمن ينظر الي لوحة معلقة علي حائط. ولوحاته لا تحتمل الوضع السكوني لأي منها. بل إن عناصر الحركة الدائبة هي سمة تميزها. ولعل مزج الشعر / التكوين بالخصائص السردية هو الحافز الذي يقوم بمنح معظم نصوص السماح تلك الحيوية الفائقة.
في هذه قصيدة نجدنا أمام فعل يختص بالبحث عن تكوين بلاغي من منطلق منظور جمالي، يقودنا مباشرة إلي منطقة تختص بالأجسام اللغوية المعبرة بصفة عامة، فهو يقودنا إلي تقنيات استخدمها هذا النص الرائع لتكوين مجسمه التعبيري، والصفات الملازمة للجسم المعبر تقودنا بدورها لتمثل شخصية رجل نحيل في حالة أبعد ما يكون عن النشيج:
“شيَّخَتِ المشاويرُ الطويلةُ في خُطاكَ”
وفد منحه الله منحة مقدسة:
“شيئا آخرًا غير النشيجْ
تلقى به أهوالَ هذا العالم المهزوزِ “
وطبقا لهذا فهناك علاقة مسطورة بين الرجل وعالمه المهزوز مع الخالق:
” العالم المهزوزِ بين السهوِ والحرامْ “
ونتساءل بدورنا: تري ماذا كانت طبيعة علاقة الرجل برب الكون؟، وماذا كانت طبيعة المنحة؟، وما هي الصور المتواترة عن الطبيعة الأنطولوجية لذلك العالم المهزوز؟ وهل كانت المنحة من النوع الذي يستطيع الرجل من
خلالها مواجهة هذا العالم .
يتحرك الرجل بين حدين من خلال منظومة محددة: حد التذكر والسهو من جهة،وحد الحرام والحلال من جهة أخرى، كحدود مشتركة بالمعية مع رب الكون، ففي معية الله نجد أن حدي التذكر والسهو، وهو ذلك الرباط الخاص مع النفس، هو رباط يقتصر علي وضع الذاكرة ضمن الخيارات المفروضة، وفي معية الله، فهو في رباط يبدو أكثر اتساعا مع عالم الأخلاق وعالم المثل العليا.
واستخدامه للفظتي السهو والحرام، يندرج تحت خصائص النص وربما اندرج أيضا تحت مفاهيم تتعلق بخصائص الإنشاد الشعري عامة عند السماح عبد الله.
علاقة أخري ضمنية، هي تلك العلاقة بينه وبين الآخرين، والذين يمثلون العالم المهزوز علي اتساعه واهتزازه بين السهو والحرام. إنه وبواسطة تلك المنحة قادر علي مواجهة العالم، بل وقادر علي فعل المعجزات، لكن حركته ذات الطابع المثالي، تجعله يميل الي رش الألق المعبق والأريج علي الشوك، وما يؤكد ذلك الطابع المثالي، هو اختيار القديس له ليصبح راهبا، وما هو إلا ذلك الإنسان المتعب المجهد الصديان حسب تعبير النص، وعندئذ تصبح تجربته المثالية علي المحك: فتكون قتل الشهوة أحد مظاهرها. والوحدة مظهر آخر يحيط به وسط سكون العالم المهزوز:
” فصرتَ تعسُّ في خللِ الليالي
واحدًا بين الجداراتِ الكثيرةِ “
وتبرز كلمات مثل الواحد والكثير لتحقق تلك المقولة عن خصائص الكلمة المنفردة في فنون الإنشاد، عند شاعر بحجم السماح عبد الله، كما تحدد الجدارات المحيطة بكيانه ذلك الإطار الذي وضعه النص ليحيط النص بحيز مكاني، خاصة وهو يحيط الجسم بالأسوار .
أما عن الذاكرة لدي الرجل، فهي ذاكرة لا تكاد تمنحه نعمة النسيان . . نسيان أولئك الذين قضوا نحبهم خارج الإطار وفي محيط العالم المهزوز بين السهو والحرام، فالعالم خارج إطار النص هو عالم الأموات، ومن ثم فليس أمامه من شيء ليتذكره سوي روائح الفقد والغياب، وعلي وجه الخصوص عندما تحول العالم خارج إطار النفس إلي عالم من أناس كانوا قد قضوا نحبهم.
وارتباط قضاء النحب بالغياب، إنما قدمه النص ليطرح ويؤكد قدرات الألفاظ منفردة علي التعبير، وهو التعبير الذي يقدم للإنسان الصورة المتكاملة عن طبيعة الحياة، وطبيعة وناموس الكون، كما أنها تضع داخل السياق النصي لبنات تكثف بها حالة الوحدة والفردانية، وهي تلك الصورة التي لن يمل السماح عبد الله من إبرازها عبر العديد من نصوصه الهامة.
لم تقدم الصورة الكثير عن طبيعة تلك المنحة الربانية وسخائها، ولم تقدم سوي أخطاء كان قد اقترفها هذا الصديان عندما أكثر من الكلام وفضح الحشا فاستحق النقد
” فكيف فضَّختَ الحشا ولمنْ تعجّلتَ الكلامْ؟. “
وسقوط الطابع المثالي تحت رسن الخطيئة، أمر وارد فيما لو أننا أخذنا في الاعتبار ما اطلق عليه النص بتعجل الكلام وفضح الحشا، من الخطايا الهادمة لعالم الأخلاق والمثل، كما أن سقوط الطابع المثالي يعيد الإنسان الي طبيعته. يمنحه الله ما هو بغير قادر علي حمله. إنها المنحة الربانية وهي تذوي تحت أثقال الواقع المهزوز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى