أحدهم طار فوق عش الوقواق

رحمن خضير عباس | العراق

هذه الرواية، هي أوّل عمل للكاتب الأمريكي كينكيسي، وقد تكون من أهم أعماله الروائية.  كتبها في بداية ستينات القرن الماضي، حيث يعالج من خلالها طبيعة التناقضات في الهرم السياسي الأمريكي، الذي يقوم على فكرة التفوّق.

      رافقَ كين كيسيمخاض التحولات الحادة في المجتمع الأمريكي،ومنها قضايا السكان الأصليين والفصل العنصري بين السود والبيض ،وشبح المكارثية التي طاردت مجموعة كبيرة من الشعراء والصحفيينوالكتاب والفنانين بتهمة الشيوعية. وقد تميزت المرحلة بالكثير من التحولات والإرهاصات ومنها، ظهور نزعات شبابية متطرفة.

كان كيسي يكتب بحرارة وصدق ، وقد عاش حياة شخوصه حتى بلغ به الأمر أنْ يجرّب أثر الحبوب المهدئةوالصدمات الكهربائيةعلى نفسه ، ليرى مدى تأثيراتها الحقيقية ، كي يكون صادقا في تجسيد معاناة أبطال روايته.

   المخرج التشيكي الكبير موليش فورمانالتقط من الروايةعمقها السياسي والفكري، وكتب من مادتها سيناريو لأجمل الأفلام السينمائية ،والذي حصد في عرضه لأول مرة عام ١٩٧٥ خمس جوائز أوسكار .

ماكميرفي هو بطل الرواية،جسّد دوره بجدارة الممثل الأمريكي جاك نيكلسون ،وبطل الفيلم شاب في مقتبل العمر، يعيش حياة بوهيمية ، تقوم على الانغماس في اللذة ، فيُتهم باغتصاب فتاة قاصر،ويُحكم  بالسجن لمدة خمسة عشر عاما. وفي محاولته للتخلص من قضبان السجن وأغلاله ،يمثّل دور المُختل سلوكيا وعقليا،من أجل نقله إلى مصحة عقلية . وبالفعل يدخل إلى المصحةالتي تعجّ بالكثير من المرضى الذين يختلفون في مستوى مشاكلهم العقلية والنفسية. ورغم أنّ الطبيبالذي يقيّم الحالات الجديدة ، يصارح ماكمرفي بشكّه في أنه يختلق الأزمة النفسية ، كي يتحرر من السجن. ولكنه لا يمتلك الدليل المؤكد ، وهكذايصبح ماكميرفي نزيلا جديدافي هذا العالم الغريب ، عالم العلل النفسية والجنون،لشريحة من البشر، فقدوا القدرة على التعايش مع المحيط الخارجي ،  فلاذوا في هذه المصحة التي لا تختلف عن السجن، كي يتخلصوا من عبئ ذواتهم المتآكلة.

وإذا كان الفيلسوف الفرنسي فوكو يرى أنّ مؤسسات الطب النفسي متواطئة مع مؤسسات القمع الأخرى في المجتمع الأوربي، من خلال عثوره على وثائق ، فالمسألة لديه ليست طبية صرفة، بل تتعدى ذلك الى الجانب الفكري والاقتصادي.

والرواية تتماهى مع هذه الفكرة ، بل تذهب أبعد من ذلك، حينما جعلت نزلاء المصحة النفسية رمزًا للمجتمع الأمريكي الذيسُلبت ارادته العقلية،فأصبحمبرمجًا وفق قوانين المصحة النفسية، التي قامت بعملية إفراغ العقول من عصارة الوعي ، وجعلها تقوم بدور آلي. وفق ما تخطط له إدارة المجتمع ، من خلال هيمنة الميدياومؤسسات المال والأعمال وسيطرة الشركات الكبرى التي روّجت للنزعة الاستهلاكية في المجتمع، وشعور الفرد بالوحدانية التي يغذيها هموم العمل ومشاغل الحياة.

ولكنّ بطل القصة ماكمرفي ، والذي يمتلك قوة الشباب المشبعة بالحيوية والرفض والتحدي ، والرغبة في ممارسة الحياة بدون قيود، يتعارضمعقوانين المصحة وشرائعها وأعرافها ، والتي تمثلها رئيسة الممرضات الصارمة راتشيد. تلك المرأة التي يصفها الكاتب بأنها ذات وجه شمعي ، لا ينبض بالملامحالإنسانية. ، فهي متجهمة ولا تعرف الابتسامة ، ومع ذلكتتأنق في اختيار المفردات الرسمية في مخاطباتها مع مرضاها ،التي تبدو لهم كملاك من الخارج ، ولكنّها أفعى من الداخل  ، فهي تستلّ من مرضاها قدرتهمالإنسانية ، بإغراقهم بالأدوية المسكّنة وبالروتين اليومي الذي يقتل فيهم الإرادة ، فيتصرفون كالدمى التي تتحرك وفق مشيئة الإدارة.

  في الرواية يقوم  برومدن بسرد الأحداث ، والذي يلقبونه بالزعيم ،وهو من السكان الأصليين ، أصمٌّ وأبكمٌ . ولكنه يعيش حرا في صياغة هذا العالم الزاخر بالمتناقضات ، ولأنً جميعالنزلاء والموظفين  لا يعرفون حقيقته ، لذا فلا يشعرون بوجوده. فهو كيان ضخم يتحرك بين الردهات. ومهمته التنظيف،فيتحوّل في زوايا المصحّة، ويعرف خباياها ، ولكنّه ينجذب نحو ماكمرفي ، ويعترف لأول مرة أمامه،أنّه يسمع ويتكلم  ، ولكنّه آثر الصمت والانكفاء على نفسه . الزعيم الصامت يعبّر عن السكان الأصليين الذين أصبحوا على الهامش ، غرباء في أرضهم التي استبيحت من قبل المهاجرين.

أمّا بقية أبطال الفيلم : فهم هاردنغ الذي يشكّ في زوجته ويعتقد أنّها تخونه، وتشوزويك الذي يلهو في لعب البوكر والتدخين، وبيلي الشاب الصغير الذي يُتأتئ ويتلعثم، ويخشى لوم أمّه التي تعتبر صديقة لكبيرة الممرضات.

وغيرهم من أسماء متعددة. بعضهم جاء إلى المصحة برغبته ، والبعض الآخر أُجبِرَ على العيش هنا.

اما إدارة السجن فتتكون من رئيسة الممرضات ومساعدتها وثلاثةزنوج يمتثلون لإرادة الإدارة في استخدام القوة ، لضبط سلوك المرضى وامتثالهم لأوامر مس راتشيلد.

ولا أعتقد بأنّ اختيار المساعدين من الزنوجكان بمحض الصدفة ،بل كان تعبيراً عن التهميش إزاء هذه الشريحة التي وجدت في العنف طريقا للعيش والبقاء.

   ولكنّ النزيل الجديد ماكمرفي يغيّر حياة هؤلاء المرضى، بمحاولة ضخّ الروح فيهم من خلال حيوية التعامل ، ومن خلال رفع حدّة التساؤل عن الإجراءات المتخذة. ومن خلال ممارسة الرياضة ولاسيما كرة السلّة. كما حاول أنْ يغيّر مفهوم تضييع الوقت بلعبة الورق ، فجعلها على هيئة مراهنات مالية ، كي يجعلها أكثر حرارة ، وأكثر التصاقا بمفهوم الربح. ولكنّ هذا الأمر لم يرق لمس راتشيلد.

  كانت إدارة المصحة تراقب تصرفات ماكمرفي بقلق، لأن دخوله غيّر من سلوك المرضى ، وايقظ فيهم بعض النزعات الإنسانية. وفي أحد الأياميطلب من الرئيسة أن تجعلهم يشاهدون مباراة البيسبول الشعبية في أمريكا، ولكنها رفضت بحجة أن ذلك يتعارض مع الأنظمة واللوائح في المستشفى ، وحينما جادلها في أنّ مشاهدة المباريات يؤثر بشكل إيجابي على حياة المرضى ،طلبت منهم أن يصوًّتوا على هذا الأمر.  فربحت لعبة التصويت وخسرها ماكمرفي ،وذلك لأنّ أغلب نزلاء المصحة لا يدركون مصلحتهم. فقد تعوّدوا تنفيذ ما يُبرمج لهم.

وفي إحدى الليالي اتفق مع المرضى على سهرة ماجنة في المصحة، حتى يستطيع النزلاء تذوق مباهج الحرية، وحينما يختلي بلي الشاب الخجول الذي يتأتئ بالكلامبامرأة مومس ،يشعر لأول مرة بطعم إنسانيته ، ولكن السهرة السرية التي صممها ماكمرفي تنكشف بالنسبة لادارة المصحة، وتكتشف رئيسة الممرضات هذه الخطة، وتجدالشاب بيلي متلبسا مع المرأة في لحظة غرامية ، فتعاقبه وتلوّح له بإخبار أمه بفعلته.

 فما كان منه الا أن يذهب إلى غرفته، ويذبح نفسه بقنينة زجاجية ويموت انتحارا. وحينما يراه ماكميرفييفقد أعصابه ، وينشب قبضته بقوة في عنق رئيسة المرضات رتشيلد. ولكن اتباعها الثلاثة من السود خلصوها بصعوبة. وعنذاك يؤخذ مماكمرفي الى غرفة العمليات لإتلاف دماغه. وهكذا عاد ماكميرفي جسدا دون تلك الروح المتوثبة. لقد استأصلوا قدرته علىالمجابهة والتفكير والتحدي. استأصلوا تألقه وإنسانيته .

  كان برومدن يتأمل جسد صديقه ماكمرفي الوديع وعينيه التائهتين في الفراغ ، فشعر بالغضب يتفجّر من أعماقه، فعمد إلى خنق صديقه الأقرب إلى قلبه، بواسطة كتم أنفاسه بواسطة الوسادة ، كي يخلصه من العبودية المزمنة .وهكذا أطلق روح صاحبه لتطير فوق عش الوقواق.

ثم يعمد الهندي برومدن إلى تحطيم جدار المصحة ويمشي باتجاه الحرية.

لقد كان الفيلم متكاملا من حيث حبكته ورموزه ومشاهده وشخوصه. ورغم أنّ ج ماكمرفي قد قام بالبطولة الرئيسية. ولكننا إزاء عمل جماعي  يتقاسمه شخوص حقيقيون ، انتزعهم الكاتب من رحم المجتمع الأمريكي. فكما كانت راتشيلد رمزا لقسوة الإدارة، ولكنّها تمثل الكثير من المفاهيم الأمريكية القائمة على التقسيم الطبقي ، واحتكار المال والقرار ولكن بإسلوب رقيق وسلس ومقنع و الاضطهاد ولكن بوسائل طوعية وغير قمعية. وقد قام الكاتب كين كيسي بترميز الأحداث واسقاطها على ستينات القرن الماضي. وقد جاء المخرج بعد خمسة عشر عاما من كتابة الرواية ليؤكد نفس المفاهيم.

  كان اختيار طير الوقواقكعنوان للفيلم والروايةيعبر عن حالة التطفل الذي يعيشه النظام الأمريكي. فطيرُ الوقواق الذي تعود أصوله إلى داينصورات منقرضة،يعيش طفيليا على غيره ، مستغلا جهود المالكين الحقيقيين  الذين يشْقَوْنَ من أجل أن يعيش ويترفه.

يتخلص ماكمورفي من عبوديته بواسطة الموت. ليكون حرا من هذا المجتمع الذي كبّل كيانه. لقد طار ماكمرفي من عش الوقواق بواسطة المحاولة في التغيير.

لقد قال في أحد مشاغباته مع بقية زملائه في المصحّة ،بأنه يراهن على رفع الحوض الكونكريتي الثقيل ، وحينما يعجز عن رفعه ينسحب بصمت ولكن بروح التحدي ، فيتمتم قائلاً:

” على الأقل.إنّي حاولت”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى