تفسير سورة يوسف.. القسم الأول
د. خضر محجز | فلسطين
بسم الله الرحمن الرحيم ألـــر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴿1﴾ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴿2﴾
قد كثرت الروايات المنقولة عن ابن عباس وبعض التابعين وناقلي الإسرائيليات، في أسباب نزول هذه السورة وتفسيرها، ولا يصح من ذلك عندي، إلا ما أخرجه الحاكم عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أنها نزلت بعد أن قال بعض الصحابة: “يا رسول الله، لو قصصت علينا”.
﴿ألـ~ــر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾: فأما الحروف ﴿ألـ~ــر﴾ فقد اخترنا من قبل أن نقول: إنها من المتشابه، الذي استأثر الله بعلمه، فلا نقول فيها حرفاً، وندع تأويلها لله، عالم السر وأخفى.
لكن من الواضح من تركيب الآية بعد ﴿ألـ~ــر﴾ أن لهذه الحروف علاقةً بالتنزيل العزيز، إذ يقول: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ كأنه يعني أنّ هذه الحروف آياتُ التنزيل، فالآيات منها. وهذا واضح من كونها حروفاً عربية، من مثلها يقولُ القرآنُ بلاغَهُ. ولكن كيف، وما حدود ذلك؟ لا أعلم، ولا أخوض.
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾: نحن الله العلي الأعلى، نقول ـ بضمير العظمة ـ ما على الكون المخلوق أن يعلم، من قضاء مشيئتنا، بإنزالِ كلامنا على محمد بلغة العرب، بما أزهاها وخلّدها. وأمّا حقيقةُ كلامنا فمنزّهةٌ عن كِسوة الحروف والأصوات واللغات.
وبما أننا جعلنا الناس شعوباً وقبائل، فقد آتينا كلَّ قومٍ لسانهم الذي به يتواصلون به فيما بينهم، ويفقهون به المعاني. ومن ذلك ما قضتْ به رحمتنا، من إنزال كتابنا على كل رسول بلسان قومه، ليبلغهم بما به يفقهون، كما قلنا ذلك واضحاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم/4).
فأنزلنا القرآن على رسولنا النبي الأُمِّيِّ من العرب، لينذر به أَوَّلَ العرب: ﴿أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ (الأنعام/92)، فتفقهَ مكةُ، ويفقهَ بفقهها العالمُ، الذي عليها أن تُبَلِّغهُ ما نزل بلغتها. فكانت أم القرى ـ بتنزيلنا العزيز ـ النواةَ الصلبة للدعوة إلينا، وكانت لغتها الوسيلةَ الأولى للانطلاق بكتابنا إلى العالم.
وقال عبد الله الخضر غفر الله له بهذا القيل: وهكذا لم يدعِ اللهُ لِمُتَأَوِّلٍ طريقاً يحرف به المعنى، فيقول: «إنّ الكتاب نزل لأمِّ القرى بلسانها، فهو لها ولمن فَقِهَ لغتها فحسب»؛ بل بَيَّنَ المُرادَ بأوضح الألفاظ، إذ قال لمن أنزل عليه الكتاب صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ (الأعراف/158).
ففرض نزولُ الكتاب بلغةٍ قوم عليهم، أن يُنذروا به الناس كافة. قال سيدي الشافعي ـ رضي الله عنه ـ موضحاً ما أخذه عنه كل من جاء بعده: “فعلى كل مسلمٍ أن يتعلّم، من لسانِ العرب، ما بَلَغَهُ جهدهُ؛ حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، ويتلوَ به كتابَ الله، وينطقَ بالذكر فيما افتُرضَ عليه من التكبير، وأُمِرَ به من التسبيح والتَّشهّد وغير ذلك”.
وقال عبد الله الخضر: ولئن قلنا بأنَّ قوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ نصّ على أن للإسلام نواةً صلبةً ـ قلعةً مكاناً ينطلق منه في وقت البلاغ، ويلوذ به في وقت الشدة ـ لقد كان ذلك مما فهمناه من القرآن والسّنة: ففي القرآن قد رأينا آيات سورة براءة، تأمر المسلمين بتخلية الجزيرة العربية من كل من هو غير مسلم: ففي الأطراف متسع، وعلى جزيرة العرب أن تبقى نواةَ الإسلام، تحذيراً من عاقبة يوم يضعف فيه الإسلام، فينقضّ عليه أهل المحيط. كما نفهم ذلك من قوله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (التوبة/8).
فإن أعجزك فهمُ هذا، فقد فهمه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ قال لأصحابه وهو على فراش الموت: “لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع إلا مسلماً”.
ثم أوصاهم فقال: “أخرجوا يهود الحجاز من جزيرة العرب”.
ثم نفذ عمر ـ رضي الله عنه ـ هذه الوصية، فور أن استقام الأمر للدولة، بانتهاء حروب الردة.
فإن أردتَ مزيدَ بيانٍ يُعلّلُ هذا الأمر، دعوناك لتسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ إلى المَدِينَةِ كما تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحْرِهَا”.
فإن لم تفهم بعد كل هذا، فلا فهمت، ولا أفهمك الله.
فالقرآن عربيٌّ، والقلعة عربيةٌ، والحصن عربيٌّ. وفيما سوى ذلك متسع.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴿3﴾
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ ﴿نَحْنُ نَقُصُّ﴾: جملة إسمية مكونة من المبتدأ ﴿نَحْنُ﴾ وخبره ﴿نَقُصُّ﴾. و﴿عَلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ﴿نَقُصُّ﴾. و﴿أَحْسَنَ﴾ مفعول به وهو مضاف. و﴿الْقَصَصِ﴾ مضاف إليه. والخطاب من الله لرسوله بضمير العظمة ﴿نَحْنُ﴾.
فإن ألقىٰ الله من نوره في قلبك، رأيتَ بعضاً من معنى أن يكلم اللهُ رسوله لتسمع معه. فلا إله إلا الله محمد رسول الله. واللهم اجعلنا سمّاعين قولك واقفين عنده، وافتح قلوبنا لكلامك، واكتبنا في الصالحين.
و﴿الْقَصَص﴾ بفتح القاف، هو غير «القِصص» بكسرها، وإن كانت المادة واحدة: فـ«القِصص»: جمع «قصة» وهي الحكاية. أما ﴿الْقَصَص﴾: فمصدر بمعنى: «الاقتصاص» الذي هو الإخبار بما جرى من الأمور. و﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾: أحسن الاقتصاص. فكأن قد قال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الاقتصاص بأفضل البيان.
قد أتعب الناسُ أنفسهم في معنى: ﴿أَحْسَن الْقَصَصِ﴾، لِما رأوا من أنّ هذا الوصف مختص بسورة يوسف. ولا والله إنْ أراه كذلك، بل كلُّ قصص في التنزيل هو ﴿أَحْسَن الْقَصَصِ﴾:
فلو قرأت ـ على سبيل المثال ـ قصة ميلاد مريم، واقتراع الأنبياء على كفالتها، وحبلها المقدس وميلادها إلى النخلة، وشدة أساها وقد ﴿أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ (مريم/27)، ثم صوت المولود يكلمهم مدافعاً عن أمه الطاهرة البتول؛ لقلت: إنَّ هذا أحسن القصص.
ولو قرأتَ قصة بني إسرائيل، وثباتهم على دينهم بذبح الأبناء، وصعودهم إلى الله مع نبيهم، ثم تعثرهم مراراً، وكفاحهم الأعظم لنيل رضا ربهم، بعد حَوْبَتِهم الكبرى، حتى طأطأوا أعناقهم للسيوف تجزّها، عن تمام الرضا؛ لظننتَ أنّ ذلك أحسن القصص.
ولو تَسَلَّلْتَ إلى بيت أمِّ موسى، بعد أن ألقته في اليَمِّ وَأَصْبَحَ فُؤَادُها ﴿فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ (القصص/10)، ثم انتقلت إلى بيت السيدة آسيا، وهي تناجي ربها فتقول: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (التحريم/11)؛ لقلت: هذا أحسن القصص.
ولو تَتَبَّعتَ قصة هروب موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مدين، ورأيتَ الفتاتين تمشيان على استحياء، ثم التقاء موسى بصوت الرب في البريّة، لقلت: هذا أحسن القصص.
فـ﴿أَحْسَن الْقَصَصِ﴾ عندي هي التي في القرآن. فهو ﴿أَحْسَن الْقَصَصِ﴾ لأنه يجمع بين الجمال والصدق. فالأحسن هنا هو الذي حين تسمعه يمتعك، وحين يمتعك لا تخشى من مبالغاته.
ذلك أنّه ليس حسناً إلا ما جمع بين صفتي الجمال والصدق. وهذا لا يتوفر إلا في كلام الله ورسوله. وباقي كلام البشر قلما جمع بين الخصلتين إلا قليلاً، وفي شذرات متباعدة. والشعر العربي دليل ذلك: فكل ما بلغ الذروة في الجمال منه، كان غير صادق غالباً. وكل ما كان منه صادقاً، انحدر مستوى جماله غالباً. أبى الله إلا أن يكون كلام البشر هكذا.
ومن هذا القليل مما يجمع بين الجمال والصدق من كلام البشر، أنعت لك كلام الشافعي في «الرسالة»، وقول أمير الشعراء في مديح سيد الخلق:
مدحتُ المالكينَ فزدتُ قدراً
فحينَ مدحتُكَ اقتدتُ السَّحابا
﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ﴾:
فكأن لما قال تعالى: ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ قيل: ماذا تقصُّ علينا يا رب؟ فقال عزّ وجلّ: ﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾. فكأن قد قيل: فبم كان هذا أحسن القصص؟ فقال الله: ﴿بِمَا﴾ أي: بالذي ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ أي: نقص عليك أحسن القصص بسبب أنه من وحينا، بأجمل الطرق وأحسن الأساليب. “ألا ترى أنّ هذا الحديثَ مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن”؟
﴿وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾: وما كنت من قبل هذا القرآن إلا غافلاً، لا يعلم شيئاً: فنحن اجتبيناك، فرفعناك من عربي أًمّيٍّ غافل، إلى حبيبٍ لنا يتلقى وحينا، فيحيا به قلبُهُ من موات، ويصحو به من غفلة، ويصعد به إلى سدرة المنتهى. ونحن الذين جعلناك للأنبياء إماماً، ورفعنا لك ذكرك في العالمين، فلا يُسمع اسمك في مكان، إلا وهملت له أعينُ العشاق، ووجفت له قلوب المؤمنين. ونحن الذين أغلقنا أبواب الجنة دون الأمم التي سبقتك، حتى تأتيها فتستفتحها فتفتح لك ليدخلوا.
فقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ هو من الله امتنانٌ على عبده، الذي ظل دوماً يفخر بأنّه عبده. صلى الله عليه وسلم.
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴿4﴾ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴿5﴾ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴿6﴾
من المعلوم ضرورةً أنّ أكرم الناس وأرفعهم ـ في الدنيا والآخرة وفي العالمين ـ محمدُ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، رسولُ الله وخاتم النَّبيين. لكنّ الحمقى لا يعلمون. فاللهم إليك المشتكى، من منافق لا يُحِبُّ، ومن أحمقَ يهرف بما لا يعرف:
إليك المُشْتَكىٰ ـ يا مولاي ـ ممن لا يُحسنون أن يقرأوا حتى يستنتجوا، ولا يُحسنون أن يستنتجوا حتى يقولوا، ولا يُحسنون أن يقولوا حتى يستكبروا فيُصِرّوا: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ (البقرة/17 ــ 18).
إليك المُشْتَكىٰ من حمقى سراعٍ، هم أوَّلُ من يتكلم فيما لا يعلم، وأوَّلُ من يخرج من المسجد بعد التسليم للغيبة، وأوَّلُ من يُدخِل فمَهُ ما لا يحلّ له من المأكل، فلا يخرج منه إلا ما يَحرُم؛ غلاظِ أكبادٍ، طويلي ألسنةٍ، فورَ ما قرأوا ما لا يفقهون قالوا؛ فلم يقولوا إلا هُجراً. فكان مما قالوا: إن أكرم الناس يوسف صلى الله عليه وسلم.
فلا إله إلا الله محمد رسول الله! أيكون شيءٌ أكرم على الله من رسوله الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحب الشفاعة الكبرى، الذي تجاوز الأنبياءَ قدرُه، فصعد ـ ليلة المعراج ـ إلى ما بعد السماوات السبع وسدرة المنتهى، وترك الأنبياء وراءه متدرجةً مقاماتُهم على درجات السماوات، منهم يوسف في السماء الثالثة وإبراهيم في السابعة”؟
أيكون أحدٌ أكرم من رسول يقول: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَومٍ يَرْغَبُ إلَيَّ الخَلْقُ كُلُّهُمْ، حتَّى إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ”؟
ولكن يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكرمُ الناس سلالةً من قريب: إذ أنسله الله نَبِيَّاً، من نَبِيٍّ، من نَبِيٍّ، من نَبِيٍّ: فهو رابعُ أربعةِ رُسُلٍ من نسل أبينا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وعليهم وسلم. وهذا هو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ”. وقوله: “الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ”.
فلا حول ولا قوة إلا بالله!
﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾: في علاقة هذا بما قبله، يمكن ملاحظة أنْ قد كانت الآيةُ التي سبقت هذه قالت: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾. ومعلوم أن ﴿إِذْ﴾: ظرف زمان بمعنى «حين». بما يُجيز أن يُتَأَوَّل النظم الإلٰهيُّ هنا بواحد من تأويلين، أو كليهما:
1: فإمّا جاءت ﴿إِذْ﴾ وما بعدها بدل اشتمال من قوله تعالى: ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ فأتَمّتْ ما بدأه الخبر الإلٰهيُّ، فقَصّت بعض هذا الذي هو ﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ على تقدير: «نحن نقص عليك أحسن القصص، منها قول يوسف لأبيه كذا وكذا».
2: وإمّا تَعَلَّقت ﴿إِذْ﴾ بفعل مضمر تقديره: «اذكر» فتكون في محل نصب مفعول به للفعل المحذوف، على تقدير: «اذكر حين قال يوسف لأبيه كذا وكذا».
﴿يَا أَبَتِ﴾: مناجاةُ ابنٍ لأبيه بالترخيم، تحبباً وطواعيةً وبِرّاً. وتلك سُنَّةٌ سَنَّها أبواه إبراهيم وإسماعيل من قبل: حين دعا إبراهيم أباه الكافر آزرَ فقال: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً﴾ (مريم/42)؛ وكذلك حين قال ـ على البديهةِ ـ إسماعيلُ لأبيه إبراهيم، حين دعاه إلى أمر الله بالذبح: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات/102).
﴿إِنِّي رَأَيْتُ﴾: قال جار الله: “الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مُختَصَّةٌ بما كان منها في المنام دون اليقظة”. قلت: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوْسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ﴾ (الفتح/27): فما رآه يوسف كان حُلُماً. كما تَبَيَّنَ ذلك قاطعاً، في الآية التي بعدها، من قوله تعالى: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾، وقوله من ثم: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ (يوسف/100). قال جار الله: “ولأنَّ ما ذكره معلوم أنه منام.
﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾: هذا هو ما رآه يوسف في منامه. وقد وضع الوعاظ الحمقى على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديثاً في أسماء هذه الكواكب، ولا والله إنْ قال من ذلك رسول الله حرفاً، لكنهم قوم فُتنوا باستصدار آهات الإعجاب من حلوق المساكين؛ فاختلقوا لهم الحكايات، يهزأ بها واعظٌ متسوّلٌ من آيات الله، وقد علم ما تواتر واشتهر وعُلِمَ يقيناً، من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ كَذِباً عَلَيَّ، ليسَ كَكَذِبٍ علَى أَحَدٍ: مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ”.
ولا يزال هؤلاء ينشرون الأكاذيب في مساجدنا، دون واعظ من دين أو زاجر من سلطة. ولقد ابْتُليتُ بأحدهم ذات جمعة مريرة يقول فوق المنبر: «إن الله أوحى إلى موسى، أن لو قال فرعون قبل الغرق: يا الله، لأنجيته، لكنه قال: أدركني يا موسى».
فلما راجعت الأحمق بمعزل عن السامعين فقلت له: لكن فرعون قد قال: ﴿آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (يونس/90)؛ أجابني بصوت جهوري يليق بخطيب كذاب: «دعنا من القرآن».
ووالله ما أنكر عليه أحد ممن رفعوه على المنبر ما قال.
فليت لهم جهنم، التي أوعدهم إيّاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، جزاء كذبهم ووقاحتهم، إذ يرون كذبهم على الرسول وعظاً لوجه الله. بل إن منهم من يجعل ذلك وسيلةً للتسول. فلا إله إلا الله.
قال الوضاعون قاتلهم الله: “أتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلٌ من يهود، يُقال له «بستانة اليهودي»، فقال له: يا محمد، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدةً له، ما أسماؤها؟ قال: فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يجبه بشيء. ونزل عليه جبرئيل وأخبره بأسمائها. قال: فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه، فقال: هل أنت مؤمنٌ إن أخبرتُك بأسمائها؟ قال: نعم. فقال: جربان، والطارق، والذيال، وذو الكنفات، وقابس، ووثاب وعمودان، والفليق، والمصبح، والضَّروح، وذو الفرغ، والضياء، والنور. فقال اليهودي: والله إنها لأسماؤها”.
وقد نص كثيرٌ من حُفّاظ السُّنَّة ـ رحمهم الله ـ على وضعه، منهم: أبو حاتم بن حِبَّان البُستي، وأبو جعفر العُقيلي، وأبو إسحق الجوزجاني. وأثبته العلّامة أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات. وقد جمع كثيراً مما قيل في هذا الحديث، شيخنا العلّامة أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ فأجادَ وأوعىٰ.
﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾: فإن عجبتَ لِما ترى في هذه الجملة من تكرير يوسفَ لفعل الرؤية، وقد سبق أن قال لأبيه في الأول: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾، فتذكّر أنه حين قال ذلك في الأول، لم يكن قاصداً إخبار أبيه برؤيته الكواكب ـ في المنام ـ ولا الشمس ولا القمر؛ بل أراد إخباره بحال هذه الكواكب وما صنعت معه. فلما أن حدث الفصلُ بين القول والقصد، أعاد ذكر فعل الرؤية، ربطاً وتوكيداً ومنعاً لوهم الانقطاع، فقال: ﴿رَأَيْتُهُمْ﴾. وهو واحد من أساليب العربية معلوم معروف من كلامهم، كما تراه في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النحل/110)، حيث أعاد ذكر كلمة ﴿رَبَّكَ﴾ مرتين لطول الفصل.
وكما ترى من قول سحبان وائل:
لَقَدْ عَلِمَ الحَي اليَمَانُونَ أَنَّنِي
إِذَا قُلْتُ أَما بَعْدُ أَنّي خَطِيبُهَا
حيث قال في الصدر: «أَنَّنِي»، ثم قال في العجز «أَنّي».
فإن أمعنت التأمل في قوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ رأيتَ أنه تكلم عن الكواكب بصيغة العاقل. ونحن نعلم أنه لا يسجد إلا عاقل. والكواكب ليست عاقلة. لكن بما أنها سجدت لنبيٍّ، لقد استحقت أن توصف بما يوصف به العقلاء الطائعون. ليس ذلك فحسب، بل إنهم ليوسف سجدوا، ولم يسجدوا ليوسف، فقدم البيانُ الإلهيُّ الجار والمجرور ﴿لِي﴾ إشعاراً بكرامة المسجود له.
بقي شيء رأيت أن قد أتعب المفسرون أنفسهم في تبريره: إلا هو سجود الكواكب ليوسف ـ وما أتعبهم إلا ما تقرر في شريعتنا من منع السجود لغير الله ـ فذهبوا في كل طريق، وتَأَوَّلوا كل تَأَوُّلٍ، ثم أوّلوا كل تأويل، لينفوا ظاهر النص الناطق بسجود مخلوق لمخلوق. قد فعلوا ذلك هنا، وفعلوه عند كلامهم على سجود الملائكة لآدم، وفعلوه ـ من ثم ـ في سجود يعقوب وزوجه وأبنائه ليوسف في آخر السورة؛ فكان أظهر ما قالوه في تأويل ذلك: إنّه كان سجودَ تحية. فليت شعري وهل كان سجود التحية للخلق مباحاً في شريعتنا؟
والحق ـ عندي ـ أن منع كل سجود، لكل مخلوقٍ، هو معصية من الكبائر، لكنه ليس الكفر المخرج من الملة، ولهذا قد أرى أنه كان مباحاً في شرائع السابقين، قبل أن تنسخه شريعتنا.
﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً﴾. هكذا أجاب نبيُّ الله يعقوب ابنه.
فإذن، قد علم يعقوب ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأويل رؤيا ابنه: علم أن الله سيرفعه فوق إخوته درجات. ولطالما حسد مفضولٌ فاضلاً ما نال من فضل صاحب الفضل، منذ ابن آدم الأول الذي لم ينقم من أخيه إلا أن تقبل الله قربانه من دونه: فـ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ (المائدة/27).
ولو كان عاقلاً لَتَجَنَّب ما جعل قربانه غير مقبول، فلصارَ مثل أخيه. لكنه رغب أن يرى أخاه تحته، بدل أن يرتفع إلى مكانه معه. ولمثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استعينوا على إنجاحِ الحوائجِ بالكتمان، فإنَّ كلَّ ذي نعمةٍ محسود”. وقاله يعقوب لابنه الآن.
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾: وهذا القول من سيدنا يعقوب لابنه، يجري مجرى تعليل أمره له بكتمان رؤياه عن إخوته. فكأن قد ظن نبيُّ الله أنّ ابنه يتساءل في داخله عن سبب ذلك، فأجابه أبوه، دفعاً لوسوسة الشيطان أن يرى أباه يكره إخوته، كما رأينا رسول الله ـ الله عليه وسلم ـ يفعل مع صاحبين من أصحابه رأياه صحبةَ امرأةٍ في الليل، كما روت لنا ذلك أُمُّنا صَفِيَّةُ بِنْتِ حُيَيٍّ عليها السلام ـ قَالَتْ:
“كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُعْتَكِفاً، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً. فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ، فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي ـ وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ـ فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ. فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ. وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءاً”.
فالحاسد حين يحسد يكون الشيطان قد أغواه، وقد مشى في دمه دون أن يعلم. ولو أنه استعاذ بالله، لَنَجّاه اللهُ من شر أن يصيب الناس بالسوء، لكنها إرادةُ الله في الخير وغير ذلك.
فكأنْ قد قال يعقوبُ لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ﴾ الذي ألقى الله حبه في قلبي أكثر من إخوته: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ فهم نجباء غيورون يتوقدون حسداً لك، فيعلموا تأويل رؤياك، ويفقهوا أنك ستسودهم بما اجتباك الله، ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ﴾ فتمتلئ قلوبهم لك كيداً فيكيدوا لك ﴿كَيْداً﴾ عظيما يسوؤك.
ثم علل يعقوب كيد أخوةٍ لأخيهم بوسوسة الشيطان فقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ فتلك طبيعته، وهوذا قراره منذ أُمر بالسجود لأبيك آدم فحسده واستكبر وأبى فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (ص/76).
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾: ﴿وَكَذَلِكَ﴾: مثل ذلك، فالكاف للتشبيه. وذلك اسم إشارة. والاجتباء: الاصطفاء، وهو الاختيار من بين الآخرين للتميز بالخير.
﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾: معطوف على جملة: ﴿يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ فكأن قد قال: فكما اصطفاك يعلمك.
والمعنى ببياننا البشري الحسير: ومثل ذلك الاصطفاء، الذي اصطفاكَهُ ربك، حين أراك النجومَ والكواكب في منامك تسجد لك ـ من دون إخوتك ـ يصطفيك ربك في الواقع من بين الخلق، فيقربك إليه في الآخرة، ويعلمك في الدنيا تعبير كل رؤيا يحدثك الناس أنهم رأوها في منامهم.
﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ﴾: تمام النعمة على يوسف وآل يعقوب هنا، هو مثل تمام النعمة على أمَّةِ النبيِّ الأُمِّيِّ الخاتم محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخر ما نزل من القرآن، في آخر سنة قبل ارتفاع الرسول إلى الملأ الأعلى، حين قال الله في أظهر بقعة في أكرم يوم: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ (المائدة/3).
فتمام النعمة على آل يعقوب هنا، هو تحقق الوعد تاماً غير منقوص: فكما وعد الله نبيه محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتمام النعمة، منذ أول أيام الرسالة بمكة، حين قال له: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ـ الذي هو خيرا الدنيا والآخرة ـ ها هو يعد يوسف بالنبوّة، كما يرى ذلك النبي الكريم يعقوب.
أما المُلْكُ ـ الذي يلهج بذكره المفسرون ـ فلا أُراه في نظر يعقوب يستحق الذكر. فنحن في حضرة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وجَمَعَنا بهم يومَ الجمعِ لا ريب فيه.
﴿كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ﴾: تذكير بالنعم السابقة على آل إبراهيم وإسحق، وتأكيد على أن المقصود بتمام النعمة النبوة. فكأن قد قال: اذكر أبويك الأكرمين إبراهيم وإسحق، واحذُ حذوهما، والزمْ غرزهما، فقد أرادك الله أن تكون على طريقتهما.
واعلم أن الأب والجد والعم، كلهم يسمون آباءً، كما يقول قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة/133).
﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾: تمجيدٌ وتسبيحٌ وإعلانُ شكر، بما عَلِمَ النبيّان الكريمان مما سيحصل لهما وآلهما، من النعم والكرامة والنبوّة. فالجملة تذييليختتم ما سبق، بما يستحق من الذكر المكثف وما تبعه من الشكر. وفيه من كرامة يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ إضافته إلى الله، في قوله ﴿رَبَّكَ﴾. كما فيه من أسماء الله الحسنى ثلاثة، تقول ما لا يقوله كلام.
وهذا القول من يعقوب دليل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد علم بثاقب ما رزقه الله من الفهم، أن سيرزق اللهُ ولده يوسف النبوّة. فلا ريب أنه يعلم ما يعلمه أخوه محمد صلى الله عليه وسلم وقاله: من أن “الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنْ النُّبُوَّةِ”.
ولما كان زمن الوحي المحمدي ثلاثة وعشرين عاماً، فقد اقترح بعضهم على نفسه أن زمن الرؤيا المحمدية الصادقة، قبل نزول الوحي، كانت ستة أشهر، لينضبط معه حساب الجزء من ستة وأربعين.
لكن هذا الحساب لم يصح، لما قال نقله ابن حجر العسقلاني، عن مولاي النووي ـ قدس الله سره ـ أنه قال: “لَمْ يَثْبُت أَنَّ زَمَن الرُّؤْيَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سِتَّة أَشْهُر”.
وهكذا ابتدأت المبشرات ليوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرؤيا الصادقة، حذوَ سيِّدِ الخلق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قالت فيه أُمُّنا عَائِشَةَ عليها السلام: “كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ: فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ”.
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴿7﴾ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴿8﴾
﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾: ﴿لَقَدْ﴾ اللام للابتداء. وقال الأكثرون: جواب قسم محذوف. ويبدو لي أن السياق لا يقبله إلا بتأويل. و«قَدْ» حرف تحقيق.
قال الزّجّاج رحمه الله: “ويُروى أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سَلوا محمداً: لِمَ انتقل آلُ يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن قصة يوسف. فال الله عز وجلّ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً﴾. ودليل هذ القول قولُهُ: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾، وقوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾”.
قلت: وهذا الكلام من الزَّجّاج لا يستقيم شكلاً ولا محتوىً: فمن حيث الشكل رأينا الزَّجّاج يروي خبره بصيغة التمريض «يُروى». ومن حيث المحتوى، رأينا القرآن يُبهم السائلين، فلا يُعَيِّنهم إلا نصٌ صريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وقد قالت الرواية المقبولة عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن من سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لم يسألوه عن يوسف وإخوته، بل سألوه أن يقص عليهم قصصاً دون تحديد موضوعه. وها هي الرواية في ذلك:
قال سعد: “نزل القرآن على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتلا عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله، لو قَصَصتَ علينا. فأنزل الله عز وجل: ﴿ألـ~ــر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾. تلا إلى قوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾. فتلا عليهم زماناً، فقالوا: يا رسولَ الله، لو حدثتنا. فأنزل الله ّ وجلّ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً﴾ (الزمر/23). كل ذلك يؤمر بالقرآن”.
ولئن لم يصحّ عندنا خبر، عن قصة يوسف وإخوته، للقد كفانا أنّ ظاهر الآية يقول: إن رسول الله قد سُئل عنها، كما يقول قول التنزيل العزيز هنا: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾. فالله أعلم من سأله.
﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾
﴿إِذْ﴾: ظرف زمان بمعنى «حين» في محل نصب مفعول به، لفعل محذوف تقديره ««اذكر». وقيل: بل هو متعلق بما سبق من قوله: ﴿كَانَ فِي يُوسُفَ﴾ كأنه جواب له. وهذا قوي عندي، خصوصاً وقد رأيت تأويل شيخ المفسرين يميل إليه.
والضمير في ﴿قَالُوا﴾ يعود على ﴿إِخْوَتِهِ﴾، أي: إخوة يوسف، فهم الذين قالوا: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
واللام في ﴿لَيُوسُفُ﴾ للابتداء. و«يوسف» مبتدأ مرفوع بالضمة. ﴿وَأَخُوهُ﴾: عاطف ومعطوف هو شبه جملة مكونة من مضاف ومضاف إليه، فالواو للعطف، وـ«أَخُو» معطوف على يوسف مرفوع مثله، لكن بالواو لأنه من الأسماء الخمسة. و«الهاء» مضاف إليه.
و﴿أَحَبُّ﴾: خبر مرفوع لم يُنَوَّن آخره، لأنه ممنوع من الصرف، على وزن «أفعل» التفضيل. والواو في ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ هي الحالية.
فكأن قد قالوا: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ يعلن ذلك أبونا ويفعله تحت أبصارنا، رغم أنه يعلم أننا عصبة متجمعة كثيرة، فيما يوسف وأخوه مجرد طفلين.
وعلى ذلك:
1: فإما أن يُقَال: إن تقدير الجملة: «اذكر حين تناجى إخوة يوسف فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾. قلت: وهذا التقدير يجعل قوله: ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ بداية القص.
2: وإما أن يُقال بأن تقديرها: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ﴾ لمن سأل عن شأنهم، حين قال إخوة يوسف: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ ذوو عدد كبير وهما اثنان. وهذا التقدير يربط هذه بتلك. فتكون بداية القص من قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ للسائلين﴾.
﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾: فلا يفعل ذلك إلا خاطئ ضل عن طريق الصواب. وأبونا ـ لا شك ـ أعماه حُبُّه، فهو مفتون بولديه الصغيرين، لا يرى نفعنا إياه وكثرتنا وقوتنا.
هذا قولهم حين كانوا يتناجون، وهو كقول نسوة المدينة، عن عشق امرأة العزيز ليوسف، فيما بعد: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (يوسف/30).
فالأخوة يرون أن أباهم قد أعمى بصيرته حبٌّ قاده إلى تفضيل ابنين على جمع كبير. ولا يمكن أن يُقال بأنهم قصدوا أن أباهم ـ النبيَّ ـ ضالٌ في دينه، بتفضيله بعض الأبناء على بعض. إذ لو قصدوا ذلك لكفروا كفراً أخرجهم من دين الله. وكل السياق يدل على أنهم كانوا مؤمنين عصاة فحسب.
وأما القول بأنهم أنبياء استناداً إلى قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ﴾ (البقرة/136)، فهيهات: فكلمة ﴿الأسباط﴾ عند بني إسرائيل، تقابل القبائل عند العرب: فمعنى آية البقرة، أن الله أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، أي: من قبائلهم؛ لا أن أسباط بني إسرائيل كلهم أنبياء، ولا أن أسباط بني إسرائيل هم أبناء يعقوب. بل هذا يشبه أن يُقال بأن أمة العرب أوتيت القرآن، فلا دليل فيه على أن كل أمة العرب أنبياء.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أُوحيَ إليهم”.
ثم إن أفعال إخوة يوسف ليست أفعال أنبياءـ فما علمنا في الأنبياء من يمكر بأخيه ليقتله، عالماً بفداحة جرمه، وقد نوى أن يتوب بعد القتل! كلا وحاشا، فإن هذا لا يشبه إلا أفعال أناس ينهبون أموال شعب غزة اليوم، وقد نووا أن يتوبوا ويحجوا قبل موتهم.
ولا ريب أن هؤلاء المتآمرين، من أبناء يعقوب، كانوا إخوة أشقاء من أم واحدة، فيما يوسف وأخوه من أمٍّ غيرها، دليل ذلك قولهم: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾. دع عنك ما تقوله الإسرائيليات، ففي النص القرآني عنها غنى. والحمد لله رب العالمين.
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴿9﴾
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾: أمر وجوابه، فيه كل ما في الشرط من تَرَتُّبِ الجواب على الطلب: فالأمر هو: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً﴾. والجواب هو: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾. وهو من المجاز المرسل علاقته جزئية: إذ ذكر الوجه ـ وهو جزء ـ وأراد الكل وهو الأب. فكأن أرادوا القول: إن أبانا مشغول بيوسف عنا، فاجعلوه يصير خالياً لنا، بقتل ابنه الذي يحب.
فأيّ تزيينٍ من الشيطان!
فقولهم: ﴿اطْرَحُوهُ﴾، أي: ألقوه طريحاً منبوذاً بعيداً. و﴿أَرْضاً﴾، أي: في أرض، فأسقط الخافض، كما فعل جرير حين قال:
تمرّونَ الديارَ ولمْ تَعُوجوا
كلامُكُمُ عليَّ إذنْ حرامُ
أي: تمرّونَ بالديار.
فكانت ﴿أَرْضاً﴾ نكرة غير معرفة، فهي مجهولة بعيدة من العمران. فكأنهم قتلوه إن فعلوا. ولقد فعلوا أشْيَن من ذلك: ألقوه في البئر.
وفي نصب ﴿أَرْضاً﴾ قال جار الله: لأنها منكورة نُصبت نصب الظرف المبهم. وأنكر عليه ذلك المغاربة. ولا عبرة بإنكارهم، فإذا حضر الماء بطل التيمم.
﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾: معطوف على ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾. وفيه أحد تأويلين، أو كليهما:
1: الأول: أنهم يرون أنهم بعد أن يقتلوا أخاهم، سيصيرون صالحين محبوبين في نظر أبيهم، بعد إذ لم يعد ثمة يوسف الذي يمنع ذلك. ويشهد لهذا التأويل ظاهر قوله: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ كأنهم كانوا يرون أباهم مشغولا عنهم بيوسف، فهم يريدون تخليته منه بالقضاء عليه. وهذا التأويل زعم ابن عطية أنه منقول عن السُّديّ ومقاتل، ثم لم يَسُقْ في ذلك رواية. ورغم أن السُّديَّ غير متهم عندنا بالأمانة، إلا أن المروي عنه خلاف ذلك كما سترى.
2: والثاني: أنّ من تزيين الشيطان لهم جريمتهم المضاعفة، أن منّاهم بالتوبة بعد ذلك، فيكونوا صالحين. ونقل ذلك ابن أبي حاتم وشيخ المفسرين، عن السُّدِيِّ بطريق مقبول. واختاره الشيخ رحمه الله، وأخذه عنه جمهورهم.
وإذن فقد اجتمع الأشقاء، فأسرّ بعضهم إلى بعض، بما يعتمل في صدورهم، من حسدٍ لأخيهم الصغير ـ ربما لأنه الأجمل ـ ونقمة على أبيهم النبيّ الموصول، الذي اعتبروه ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ إذ أحب أخاهم أكثر منهم مجتمعين.
وعلى عادة الحاسد فكر كل واحد منهم، بأن سبب هذا الإيثار من الأب لابنه كامن في الأب والابن، كأن الشيطان يوسوس للحاسد أن جمال المحسود قبح، ما دام لا يستطيع الحاسد أن ينال مثله.
فليت شعري ما يفعل أبناءٌ يعتبرون أباهم خاطئاً؟
إن شئت أن ترى ذلك بياناً، فانظر إلى أبٍ أنجب أبناءً سلكوا مسالك الضلالة، فأطاعوا من أمرهم بطاعة من لم يؤمروا بطاعته، ومعصية من أمروا بطاعته، وسمّى لهم ذلك ديناً، فرأوه الدين.
لكن السؤال الذي لم يطرحه سياق الآي، ولم أرَ أحداً من المفسرين طرحه: هل كان يعقوب يحب يوسف أكثر من إخوته فعلاً، أم هيأ لهم ذلك الشيطان؟
التنزيل العزيز سكت عن هذا، وما أظنه فعل إلا ليفتح مجالاً لنا لنتأمل ونستنتج ونحكم، كلٌّ وفق ما وَقَرَ في قلبه مما كتب الله له: فمن الناس من رآه بما أراه الشيطان، ومن الناس من رآه بما أراه الله: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ﴾ (الحج/53، 54)
لكن الشيطان وسوس للإخوة، فحمّلوا أباهم من أوزارِ قلوبهم، ولم يعلموا أنهم استسلموا في ذلك للشيطان، إلا حين ظهرت خطايا قلوبهم أمامهم واضحةً، ورأوا أن أباهم لم يكن ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وأن الذين كانوا كذلك هم الذين رأوا أنفسهم ﴿عُصْبَة﴾، فأغواهم ما ظنّوه لديهم، عما لدى أبٍ يعلمون أنّه نبي، وأخٍ قدروا أنه سيكون نبياً.
فلما رأى الشيطان ما في قلوبهم، من الشرِّ، استعان عليهم بهم، فأغواهم، فألقوا أخاهم في البئر، وأحزنوا أباهم حتى ذهب بصره.
فلما أن قضى الله أمره وأنفذ قضاءه، تخلى عنهم الشيطان، فاستبان الحق لأعينهم؛ فاعترفوا لأخيهم باستحقاقه الفضل، فـ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ (يوسف/91)، وقالوا لأبيهم: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ (يوسف/97).
فمتى كان يعقوب ـ صلى الله عليه وسلم ـ منحازاً غير عادل في حبه لأولاده، حتى يُحاكمه عشاق الإسرائيليات محاكمة قاسية مغلفة بغلاف الحب الكاذب؟ ومن من أين علم عشاق الأكاذيب اليهودية، هذا القصص المنحول الذي يُزري بالأنبياء؟
فاللهم إني أعتذر إليك مما فعل مؤمنون جاهلون، وأبرأ إليك مما فعل مرتدون كافرون. سبحانك الله: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ (النور/12).
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴿10﴾
أولاً: في المفردات:
في﴿غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾: قال الزَّجّاج: “والغيابة: كل ما غاب أو غَيَّب عنك شيئاً. قال المنخل:
وإنْ أنا يوماً غَيَّبَتنِي مَنِيَّتِي
فَسِيْري بِسَيْرِي في العشيرةِ والأصلِ
وأما ﴿الْجُبِّ﴾: فأصلها البئر غير المطوِيّة. والجمع: «أجْبَابُ»، و«جِبابٌ» و«جِبَبَةٌ». فالجُبُّ هي البئر التي حُفرت ولم تُحَط جدرانها بالبناء. ثم صارت تُطلق على كل بئر واسعة، مبنية وغير مبينة. وأظنهم توسعوا في «الطيِّ» فصار: حجارة البئر التي بُنيت بها جدرانه من الداخل؛ فقد رأيتُ في السيرة من كلام ابن إسحق، في إعادة حفر عبد المطلب لزمزم :” فلما بدا لعبد المطلب الطَّيَّ كَبَّر”. قلت: فلا جرم أول ما يبدو من بئرٍ يُعاد احتفارها حجارةُ الجدران.
وأَمّا ﴿السَّيَّارَةِ﴾: فصيغةُ مبالغة من اسم الفاعل «سارٍ» فهو «سَيَّار»، أي: كثير السير. وأضيفت التاء إلى آخره، إمّا لزيادة المبالغة، كما قيل لـ«الداعي»: «داعية»، وإمّا للجمع كما جمعوا «البحار» على «بَحّارة». فإن قلت: إنّ المقصود الأمرين معاً، كان ذلك عندي حسناً إن شاء الله. والمقصود هنا: قافلة السفر للتجارة وغيرها، كما في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ (المائدة/96): أي: متاعا بكم مقيمين ومسافرين.
ثانياً: في التأويل:
وفي قوله تعالى: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾ لا علاقة لنا بمن قال هذا من الخاطئين، ولا يهمنا أن نعلم اسمه من التوراة، كما يفعل القصاصون، فليس لنا ثقة في كاتبيها ودوافعهم.
فإن قيل: وأيُّ دافعٍ لكاتب التوراة لتغيير اسمٍ وُجد فيما نزل على موسى؟
قلتُ: كانوا من أسباط عديدة، ومن الممكن أن يُزَيِّنً انتماءُ الكاتب له أن يفضل سلالته.
وعلى العموم فلم تكن طِيبةُ هذا القائل إلا شكليةً. ولو كانت حقيقيةً، لرجع إلى أبيه فلأخبره، أو لانفتلَ في غيابة إخوته، فلفعلَ ما يستطيع لاستخراج أخيه من قاع البئر.
لكنه يذكرني بشرطي من أعوان الطغاة وغدٍ، أبدى امتنانه لما عَلَّمتُه سنواتٍ، قبل أن يطلب مني أن أمدّ يديَّ ليضع فيهما القيد. فلم يمنع العبدَ ما قال، أن يعتذر بأنه «عبد السيد». لكن العجب كل العجب، من عبيد يغضبون إن وصفتهم بما وصفوا به أنفسهم!
وعلينا أن نتذكر أن لو كان هذا القائل يستحق الذكر، لذكر اسمه اللهُ في الآيات. لكنه أبهمه كما أبهم مصير الذين سكتوا عن إنكار المنكر في ﴿الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ (الأعراف/163).
ثم إن سياق الخطاب في الآية يشي بأنه أضمر بعض الكلام: فلا يُعقل أن يوافق من تآمروا على إحزان أبيهم، وقتل أخيهم أو طرحه في الأرض، أن يستجيبوا لاقتراحه المفضي إلى أن: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾.
بل يبدو لي أنه اقتصر على إعلان اقتراحه دون تعقيبه التعليلي، فقال: ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾، دون أن يعلن ما أَسَرَّ من باقي الكلام.
وأيُّ خيرٍ في اقتراح يُسقط خيار طرح طفل في الأرض، إلى إلقائه في بئر!
وأين كان كل هذا الخير المزعوم في قلب هذا الأخ، وهو يرى أباه طوال سنوات عديدة، يتعذب حتى يفقد بصره، فلا يكاشفه بأن ابنه لم يمت، بل أُلقي في بئرٍ، ربما التقطه منها بعض السيارة؟
وأما قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ فلا يقدم ولا يؤخر، فكثير من الأشرار تبدو منهم بوادرُ خيرٍ ثم لا يمنع ذلك من نهايتهم البائسة. فإن شئت أن ترى بعض ذلك، فاذكر أن عتبة بن ربيعة دعا قريشاً إلى خيرها مرتين، ثم مات كافراً، دون أن ينفعه ما قال، إذ لم يفعل بمقتضى ما قال.
1: ففي الأولى: استمع من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آيات من سورة فصلت، ثم قام إلى قومه: “فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: نَحْلِفُ باللَّه لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. فَلَمَّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلاً وَاَللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ: وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فاعتزلوه ـ فو الله لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ ـ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ ـ فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ. قَالُوا: سَحَرَكَ وَاَللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ. قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ”.
2: وفي الثانية: قام يوم بدر قبل القتال في قريش خطيباً، فقال: “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلَقَّوْا مُحَمَّداً وَأَصْحَابَهُ شَيْئاً: وَاَللَّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَجُلٍ يَكْرَهُ النَّظَرَ إلَيْهِ، قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ أَوْ ابْنَ خَالِهِ، أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ. فَارْجِعُوا وَخَلُّوا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَصَابُوهُ فَذَاكَ الَّذِي أَرَدْتُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ أَلْفَاكُمْ وَلَمْ تَعَرَّضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ”.
فلما سمع أن أبا جهل عابَ كلامه، خرجَ إلى الحرب، فقُتل في أول مبارزة، فذهب إلى الجحيم. ولم ينفعه ما قال دون أن يفعل.
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴿11﴾ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴿12﴾ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴿13﴾ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ﴿14﴾
قد أكثر الناس من نقل الخزعبلات في تفسير هذه السورة، مما أغنانا الله عنه، ولو كان به فائدة لنا لأخبرنا التنزيل العزيز به، أو لأخبرنا به سيدنا المعصوم صلى الله عليه وسلم. ولقد عجبت من تسلل وعظ القصاص، إلى تفسير مفسري هذه السورة، حتى أهجروا. ولسنا بناقلين من هُجرهم شيئاً إن شاء الله مولانا، عليه توكلنا، وبه اكتفينا، ولا حول ولا قوة إلا به، لا إله إلا هو.
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾: هذا خطابُ استنكارٍ هدفه التحريض، من أبناءٍ يخاطبون أباهم بكلام من يرونه يُخَوِّنُهم، ليردّوا عن أنفسهم التهمة بضدها.
وقولهم: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾: طلب وجوابه. وقولهم: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ في محل نصب على الحال، يتعهد باستمرارية الحفظ، توكيداً وتطميناً.
ومعنى ﴿يَرْتَعْ﴾: يستكثر من الأكل دون جهد، من قولهم: «رتع فلانٌ في ماله»: إذا لَهَا فيه ونَعِم وأنفقه في شهواته. ومن ذلك قول «عمرو بن الصعق» لقومه حين عاد إليهم بعد غيابٍ، فرأوه وقد سمن: “القَيْدُ والرَّتَعَة”، أي: البطالة والخصب. فأرسلها مثلاً.
﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾: لما كانت المقادير تجري بأسبابها، حتى تعمى الأبصار عن اتخاذ الحيطة لها؛ لقد فعل نبيُّ الله يعقوب ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما توقّعه منه أبناؤه، فنفى أنه يخشاهم على أخيهم الصغير، بل الذئب. فأجرىٰ اللهُ على لسانه ما سيكون. فأكل ذئب الغياب حضور الصبي. فانظر كيف لقَّن والدٌ أبناءه ما يقولون مما يحذر: فنطق خائف بالذئب، فجاءه أبناؤه به. وقد قيل في الأمثال من قديم: “إنَّ الْبَلاَءَ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ”.
وخيرٌ من ذلك، ما جاء بهذا المعنى وأتمّ، مما قاله رَسُول اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حين “دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، طَهُورٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ: كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، كَيْمَا تُزِيرَهُ الْقُبُورَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَعَمْ إِذن”.
فطلب الرسولُ له العافيةَ، فنطق الرجلُ بالموت، فأمّنَ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما نطق. ولو كان أحد حمقى الوعاظ هنا، إذن لقال للرسول: «لقد أعجلتَ الرجل، وجزيته بما لم يقصد، ثم لوجد له مساغاً في أن يستشهد بقول الله للرسول: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران/159).
وهو ذات ما فعله من أعجل الله لسانه فعلّق على قول يعقوب صلى الله عليه وسلم: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ﴾ فقال: “وكان في حقه أن يقول: أخافُ الله لا الذئب”.
فسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، في تعليم الأنبياء ما يقولون!
وأما الحديث فلولا ثلاثٌ، لما أَمّن الرسولُ على دعاءِ داعٍ دعا على نفسه بالموت:
1: الأولى: يأسٌ نزع الرجاء من قلب الرجل.
2: والثانية: سجعٌ ليس كسجع الكهان بل هو هو.
3: والثالثة: تقديمه بين يدي الله ورسوله، إذ رَدّ ما قال الله ورسوله، إلى قوله.
ولا يَرُدُّ أحدٌ على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الطريقة، إلا استحقّ ما نزل به، مما أنطق الله به رسوله. مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ (الحجرات/1 ــ 2).
﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ﴾ أقسموا أن يتوكلوا على قوتهم، فقالوا: ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ فجمعوا بين الغرور والكذب، فأنطق الله ألسنتهم بعقوبتهم: ﴿إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ﴾؛ فخسروا قلب أبيهم، ورضا ربّهم، وانقلبوا صاغرين يسجدون بين يدي أخيهم، ليتحقق المكتوب. وهذا كذلك مما يُقال له: «إن البلاء مُوَكَّلٌ بالمنطق».
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴿15﴾
الضمائر في: ﴿بِهِ﴾ و﴿يَجْعَلُوهُ﴾ و﴿إِلَيْهِ﴾ تعود كلها إلى يوسف: فهو المذهوب به، وهو المجعول في غيابة الجب، ثم هو الموحى إليه، في قاع البئر ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بما جاءك من الله، فكان وحينا إليك: أن لا تخف، فستكون بخير، وسيخضعون لسلطانك، وستعاتبهم بما قالوا وفعلوا.
قلت: ولا دليل على أنه كان وحي النبوة، فالطفل لا يكون نبياً، بل الوحي هنا ـ عندي ـ إلهامٌ يشبه ما كان في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ (القصص/7). والمعنى: ألقينا في قلبه طمأنينة وشعوراً بأنه ناج وأن العاقبة ستكون له على إخوته.
وهكذا يحفظ الله عبده في كل حين، بما يُمضي به قدره. فلا إله إلا هو، لا يكون إلا ما شاء.
ولما كان قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا﴾ يقتضي جواباً، لقد حذفه الآي لتذهب الأذهان في معناه كل مذهب. والتقدير: “فلما ذهبوا به واجمعوا، أجمعوا”. قال العلّامة ابن عطية: «هذا مذهب الخليل وسيبويه». واحتج لذلك بقول الملك الضِّلّيل:
فلَمّا أجزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحىٰ
بنا بطنُ خَبْتٍ ذي حِقافٍ عَقَنْقَلِ
قال الزوزني في الشرح: “والجواب يكون محذوفا في مثل هذا الموضع، تقديره في هذا البيت: «فلما كان كذا وكذا، تَنَعَّمْتُ وتَمَتَّعْتُ بها»”.
فخصل لنا من كل هذا أن تأويل الآية، يقتضي أن يكون الخطاب على تقدير: «فلما ذهبوا به وأجمعوا ـ أي: واتفقوا ـ أجمعوا أن يفعلوا به من الأذى ما فعلوه».
قلت: والحذف وفق تأويل ابن عطية هنا، يشبه تأويل من تأول المحذوف في قوله تعالى: )قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ( (النور/30) بجملة: «غضوا من أبصاركم». فكأن قد قال معنى الآية: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ: غضوا من أبصاركم؛ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ».
قلت: ومن هذا الحذف في التنزيل العزيز وكلام العرب كثير.
ففي التنزيل منه قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ (الزمر/73) فحذف جواب ﴿حَتَّى﴾.
ومنه في كلامهم ما قال الملك الضِّلّيل”
فَلَوْ أَنّها نَفسٌ تًمُوتُ جَمِيْعَةً
ولكنّها نَفسٌ تَساقَطُ أَنفُسَا
فحذف جواب «لو». وتقديره: «لكان أقل عذاباً».
وحاصل تأويل الآية بكلامنا البشري الحسير: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ واختلوا به بعيداً عن عيني والدهم، وقد ﴿أَجْمَعُوا﴾ أمرهم على أَنْ ﴿يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾؛ ولما أن ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ ـ في تلك اللحظة وقد صار وحيداً في قاع البئر ـ وأقسمنا له، قسماً يعيد إليه ما ذهب عنه من رباطة جأشه: ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، فكان أن عذبوه فلم يضرّوه، وأخافوه فلم يخشهم، لما هو عليه من اتصال مع مولاه.
فانظر كيف يرعى الله عبده المؤمن، والناس لا يعلمون.
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴿16﴾ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴿17﴾ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴿18﴾
قد رُويت، في تفسير هذه الآيات أحاديثُ مسليةٌ، مما تلقى مفسرون أوائل عن أهل الكتاب، تُضحك الثكلى؛ لو أنها كانت صادقة. لكنها مكذوبة تعجب الحمقى بقدر ما تغيظ الأولياء، فلا نستحلُّ أن نروي منها حرفاً. بل يكفينا ظاهر النص لا نتعداه، فنقول إذن: «جاؤوا أباهم وقد لطّخوا قميص أخيهم بدمِ شيءٍ ذبحوه، أو جُرحٍ في أبدانهم خفيٍّ اجترحوه».
وفي الأحاديث الموضوعة اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف. قال الجاحظ: “قال أبو علقمة: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف «رجحون». فقيل له: فإنّ يوسف لم يأكله الذّئب، وإنما كذبوا على الذّئب؛ ولذلك قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾. قال: فهذا اسم للذئب الذي لم يأكل يوسف.”.
﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾: نحن الآن أشبه ما نكون أمام مشهد مسرحي ممثلوه كاذبون ـ باستثناء الأب ـ بالإضافة إلى أنهم رديئون، لا يستطيعون إقناع المشاهد بصدق الأداء. أو اشتدّ بهم الكذب فخرج بهم عن السيطرة، فبدوا على حقيقتهم كاذبين ـ وكل ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضده ـ والأب يعلم أن أبناءه خدعوه، ولكن يعلم كذلك أن ابنه لم يمت ولم يُقتَل ولم يأكله الذئب، لكنّ للنبيّ مع الله شأناً لا نعلمه.
ولو كان لي من الأمر شيءٌ، لَسَمَّيْتُ هذه السورة «سورة يعقوب». فهي سورة الأب المكلوم، وسورة الصبر غير المسبوق، وسورة الحب الحقيقي، وسورة العاقبة، وسورة ابتداء تاريخ بني إسرائيل.
والآية من الله دليلٌ وتحذير: دليل على أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ ـ مهما اشتدّ ـ فلَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ وتحذيرٌ للمؤمنين كي لا يسارعوا إلى تصديق كلِّ من يبكي. فلطالما قيل بأنّ ثمة من يملكون أعينهم، يبكون بها متى شاؤوا. وقد قال أحد المشهورين بالكذب: «إذا كمل فجور الإنسان، ملك عينيه؛ فمتى شاء أن يبكي بكى». فهو بنفسه ومن يشبهه أخبر. وقيل: “دمع الفاجر حاضر”. وقال الصلاح الصفدي: «رأيت من يبكي بإحدى عينيه، ثم يقول لها: قفي، فيقف دمعها، ويقول للأخرى: ابكي أنت، فيجري دمعها». أما أنا، فقد شهدت من يبكي موت ولده بين الناس، فلا يكاد ينفتل حتى يُغَنِّي ويُنَقِّرَ بيديه على صفيح السيارة.
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾: ﴿أَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾: من المجاز المرسل علاقته كليّة، فأطلق الأكل على الكل، وأريد به الجزء، أي: «أَكَلَ بعضه الذِّئْبُ» فالذئب لا يأكل الإنسان كله، فلا بد من بقايا كالعظام على الأقل. وفي صحيح البخاري أن عمر ـ رضي الله عنه وأرضاه ، قال حين طعنه المجوسي: “أَكَلَنِي الْكَلْبُ”. لكنه زعمهم. ولم يأتوا ببقايا الولد. وحتى لو كانت ذئاباً وكان قولهم ﴿الذِّئْبُ﴾ من أسماء الجنس، لأبقت الذئاب على شيء من عظام الطفل، فما عهدنا ذئاباً تأكل بشراً وعظامه.
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾: شِنشِنَة الكاذبين، إذ يشعرون في أعماقهم أنهم يقولون كلاماً غير قابل للتصديق، فيحاولون تجميله بأدلة لا تفيد. فإن شئتَ أن ترى ذلك يحدث كثيراً، فاستمع إلى وعظ المتدينين الجدد على المنابر، تَرَ كم هم يقسمون على صحة ما يقولون، مهما كان صغيراً أو تافهاً. وهؤلاء يعلمون كم هو أبوهم ذكي وموصول، فيريدون أن يخدعوه عن عقله وعن اتصاله. فانظر أي شر ارتكبوا!
﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾: أي: بدم مكذوب. فقوله: ﴿بِدَمٍ كَذِبٍ﴾: وصفٌ بالمصدر لإرادة المبالغة. ومثل ذلك في التنزيل العزيز من قوله تعالى: ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً﴾ (الكهف/41). “فوضع «الغور» ـ وهو مصدر ـ مكان «الغائر».
قال عمرو بن كلثوم:
تَظَلُّ جِيَادُهُ نَوْحاً عَلَيْهِ
مُقَلَّدَةً أعِنَّتَها صُفُونا
فقال: «نَوْحاً» بمعنى نائحاتٍ.
وقال عبد الله بن ثور العامري:
هَرِيقي مِنْ دُمُوعِهِما سَجَاما
ضُباعَ وجَاوِبي نَوْحا قِيامَا
فقال: « وجَاوِبي نَوْحاً» بمعنى: أجيبي نائحاتٍ.
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً﴾:
أكْذَبَهُم أبوهم فور أن قالوا، ونسب كيدهم إلى أنفسهم الأمارة بالسوء، ولم ينسبه إلى الشيطان ـ وإن كان كل ذلك من إغواء الشيطان ـ لشدة غضبه منهم.
وفي الآية ما يشي بأنه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كبر سِنُّه ورقّ عظمُهُ، فلم يقدر على لجم هؤلاء الأشقياء. وفي ذلك تهوينٌ على وليٍّ أن كان له ابن متمرد. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾
هذا رد سيدنا يعقوب ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أولاده.
وفي إعراب جملة: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾: الفاء استئنافية. و﴿صَبْرٌ﴾ قال فيه السمين الحلبي: “يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبره محذوفٌ، أي: صبر جميل أَمْثَلُ بي. ويجوز أن يكون خبراً محذوفَ المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميل”.
فإن سألت: وكيف جاز الابتداء بالنكرة؟ قلت لك: لأنه جاء موصوفاً بـ﴿جَمِيل﴾ فأشبه المعرفة.
﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾: وإذن فقد ظن نبيٌّ بِرَبِّه جميلاً، فصبرَ جميلاً، وقد علم أنه جديرٌ بالمُحِبّ أن يتخلّق بما يُحِبُّه محبوبه. ولا حبَّ لله كحبِّ الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم. ولعمر الحق قد كلفه حبه وصبره كثيراً، لكنه كان نعم العبد، ونعم النبيّ، ونعم الصابر. فاللهم إن كنت تعلم حُبَّنا لهم، فاجمعنا بهم. وإن كنت تعلم غير ذلك، فاجعله كما نقول، فقد علمتَ بأننا نرجو ما نقول.
﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾: جعلها جملة إسمية، ليدلّ على الاستمرارية أبد الآبدين، منه ومن غيره. فلا صبرَ لعبدٍ على قضاء مولاه، إلا بالله. فاستعان نبيٌّ بمولاه أن يُصَبِّره فصبر، ولولا أن صبَّره ربّه لما صبر. لكن الله لا يُسلم أولياءه، فكيف بأنبيائه! وفي الصحيحين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ”.
لكنه قال: ﴿عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾، أي: أستعين بالله على ما تقولون، مما الله أعلم بحقيقته. قلتُ: وفي ذلك إشارة منه إلى تكذيبه إياهم. كيف، وهو النبي الموصول الذي علم تأويل الرؤيا من لحظة أن قصها الولد عليه! وفيها أنه سيسود إخوته. فكيف يصدق أبوه أنه مات؟ لكنه ألم الفراق: فراق أبٍّ ولَدَهُ الطفل.
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴿19﴾
﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾:
﴿وَارِدَهُمْ﴾: الوارد في الأصل هو الذي يأتي الماء بهدف السقيا، من الثلاثي «وَرَد». كما قالوا في المثل: “أنْ تَرِدِ المَاءَ بمَاءٍ أكْيَسُ”.
وقال عمرو بن كلثوم:
ونشربُ إنْ وَردنا الماءَ صَفواً
ويشربُ غيرُنا كَدِراً وطينا
ثم توسَّعت العربُ في «الورود» فاستعملته في كل قدوم، كما ترى ذلك في التعبير القرآني عن مجيء موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ماء مدين: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ﴾ (القصص/23) فأنت تعلم أن لم يكن لموسى ما يسقيه.
فقوله تعالى هنا: ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾ على أصله من ورود الماء. أي: أرسلوا من يسقي لهم. فهم قافلة مسافرة فيها الدواب والبشر.
﴿يَا بُشْرَى﴾: يا بشراي. “أضاف البشرى إلى نفسه، وحذف ياء الإضافة وهو يريدها، كما تقول العرب: «يا نفسُ اصبري»، و«يا غلام أقبل»، بحذف حرف الإضافة”.
قلت: فقوله: ﴿يَا بُشْرَى﴾ هو من باب نداء ما لا يعقل. فهو مجاز، لا تُقصَدَ به الحقيقة: إذ الـ﴿بُشْرَى﴾ لا تُنادى. قال الزَّجّاج: “ومعنى النداء، في هذه الأشياء التي لا تُجيب ولا تعقل، إنما هو على تنبيه المُخاطَبين، وتوكيد القصة. إذا قلت: يا عَجَبَاهُ، فكأنك قلتَ: «اعجبوا» و«يا أيها العَجَبُ هذا من حِيْنِكَ». وكذلك إذا قال: يا بشراي، فكأنه قال: «أبشروا». وكأنه قال: «يا أيتها البشرى هذا من إبَّاْنِكِ وأوانِكِ»”.
﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾: أي: جعلوا ذلك سراً بينهم. والضمير يعود على يوسف الطفل. فمن التقطوه اتفقوا فيما بينهم على أنه بضاعة، كأن يقولوا لمن أرسلوهم لإحضار الماء: اشتريناه من أهل الماء. وذلك صريح في أن الوارد هنا اسم جنس يحيل إلى أكثر من واحد.
كل ذلك والغلام صامت لا يُفصِحُ عن حقيقة ما صار. ويبدو لي أنه إمّا رأى ذلك نعمةً، بالقياس إلى ما كان فيه؛ أو أنّ الله أوحى إليه أن يقبل ويرضى، لِما في ذلك من الخير. وقد قلتُ من قبل: إنّ الوحي في هذه السن إلهام.
فلما ألقوا أخاهم الطفل في ﴿غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾، وكان الله حاضراً يرى؛ ولما كان سبحانه قد كتب أن يسجد إسرائيل وبنوه له، ولما كانوا قد أرادوا أمراً وأراد الله أمراً غيره، لما كان ذلك كذلك وزيادة؛ فلقد خلق الله الأسباب ليكون ما أراد. ولو شاء اللهُ لَفَعَلَ كلَّ ما أرادَ دون الأسباب، لكنه أراد هنا أن يفعل في الدنيا ما سبق أن كَتَبَه، بتفعيل سُنَّتِهِ في الأسباب. فَكَتَبَ ـ منذ الأزل ـ على الجُّبِّ أن يكون، في تلك اللحظة، قليلَ الماء. وجعله من ثمّ على طريق القوافل. وكَتَبَ على يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون فيه. وكَتَبَ على من التقطوه أن يلتقطوه. وألقى في قلوبهم، وعلى ألسنتهم، أن يفرحوا به، ويتخذوه بضاعةً يبيعونها لعزيز مصر، ليقضيَ الله أمره، في تَمَلُّكِ يوسفَ خزائن الأرض.
فانظر كيف يفعل الله ما يدهش الناس، إذ لا يرون اليد الفاعلة وراء كل ما يحدث!
فلما أن خلق اللهُ الأسباب، أمر واحداً من الإخوة المتآمرين أن يقول: ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾. ولأنها حكاية فلا بد من تسريع الزمن، فلا يُعقَل أن يقص القاصُّ حكايته، بتفاصيل تثقل الحكي وتذهب برونقه. فكان في الكلام محذوفٌ: إذ السياق يشير إلى أن الإخوة ألقوا أخاهم في غيابة الجب وذهبوا. فالله أعلم كم مكث من الزمن قبل أن تأتي السَيَّارَةُ فيرسلوا واردهم.
لكن ها هي الآن ﴿سَيَّارَةٌ﴾ تمر من المكان قريباً، ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾: فلا ريب أن البئر لا تقع في وسط الطريق، فهي بئر صُنعت خصيصاً، لتدّخر بعض ماء موسم المطر المنقضي، أو ما يجود به القاع من رشح الماء الجوفي مما نسميه في بلاد الشام بـ«النَّزَّاز».
وقد قلنا: إن الوارد هنا أكثر من واحد، لأن عليه أن يستخرج الماء من قاع البئر، ولا يكون ذلك إلا بدلو يملؤه آخر من تحت. وليس صحيحاً أنه واحد، كما قال بعض المفسرين بالإسرائيليات.
فأدلى الوارد دلوه: أي أدلى جنس الوارد دلوه. والمقصود أن الواردين أدلوا دلوهم، فواحد فوق وواحد تحت، وأيّاً من كان الذي فوق، أو الذي تحت، فقد أدلى دلوه، أي أنزله إلى قاع البئر ليملأه بالماء.
لا بد إذن أن أحد الوارد الذي نزل تحت، كان هو من صرخ: ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾، أي: يا بشراي، هذا فتى لي ملكي. فدون أن يراه مِلْكاً له لا معنى لاستبشاره.
وأما السخف الذي يلهج به القُصّاص والوعاظ الحمقى، ومنسوب إلى السُّدي، من أن ﴿بُشْرَى﴾ كان اسم الوارد الذي فوق، فناداه الذي تحت فقال: ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾؛ فلا يَحِلُّ أن يُقال: إنّه معنى كلام الله. ولا تَحِلُّ روايته، وإن صَحَّت عن السُّدي. خصوصاً وقد اختلف الناس في تجريح السُّديّ هذا وتعديله. ولا أشك ـ قيد أنملة ـ أنه إن صح عنه، فهو مما تلقّاه عن أهل الكتاب. وقد نقل عنهم من هم أجلّ من السُّدي، إذ كان ذلك مرضَ المفسرين الأوائل.
من هنا بدأت النِّيَّةُ لاسترقاق الغلام. ويجب هنا ملاحظة أنه طفل، وما قيل عنه: «غلامٌ» إلا على اعتبار ما سيكون. ولو كان غلاماً حقاً لدافع عن نفسه، فَلَاَعتَرَضَ على استرقاقه.
وأيّاً ما كان معنى الغلام هنا، فيوسف لم يعترض على استرقاق منقذيه له. فهل كان ذلك لأنه طفل لا يستطيع؟ أم لأن ذلك كان قانون تلك الأيام؟ أم لأن وحياً أمره بقبول ذلك؟ أم لأن فرحه بالنجاة جعله يستهين بالرِّق؟ من يدري؟. ولكن ما ندريه أنه لا يجوز أن نرجم بالغيب، في مسألةٍ سكت فيها التنزيل العزيز، ثم لم يُبَيِّنْها من نَزَل عليه التنزيل ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفتش في أقوال أهل الكتاب، فننقل عنهم، كما فعل قصاصون تقادم عليهم الزمنُ، فقيل: إنهم مفسرون.
هذا هو عندي تأويل الآية إن شاء الله. وأما القول بأن الذين ﴿أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ وباعوه كانوا إخوته، فلا يستقيم شكلاً ولا محتوى. ولولا أن القدماء أخذوه عن القُصّاص، لما انتشر في كتب التفسير، رغم سخفه: فالمتآمرون ذهبوا إلى أبيهم، وتركوا أخاهم في البئر.
وعلى العموم، فقد حفلت كتب التفسير بالقصص المسلية التي لا تصح. وكلما مضينا في السورة أكثر، سمعنا من أقاصيص الحمقى أكثر. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾: وحتى لو لم يقل رب العزة لرسوله قبل قليل: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ﴾ (يوسف/3)؛ فنحن نعلم أن كل هذا القرآن خطابٌ من الله لرسوله، عليه أن يبلغه للعالمين؛ وهذا بعضه في مكة قبل الهجرة، في المرحلة القاسية من حياة الدعوة، التي كان فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يواجه بهذا القرآن المشركين في نواديهم، بما كان من شأن يوسف وعاقبة صبره، وشأن إخوته وعاقبة خيانتهم.
ولو قُدّر لنا أن نتخيّل وجوه هؤلاء المستكبرين، وهم يستمعون إلى هذا الذي يكذبونه ويظلمونه، ويتهمونه بما ليس فيه، يتلو عليهم بصوته السماوي قولاً تعلم قلوبهم أنه ليس قول البشر، فيقول: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾؛ لرأينا إذن وجوهاً تشي بما وراءها مما يعتمل في قلوبها، بأنها تدرك تماماً أن هذا تهديد لها، وإنْ بطريق التعريض: فهم ظالمون، ويعلمون في أعماقهم أنهم ظالمون، وإن كانوا يكابرون. وأحرىٰ بمن يُكَذِّب بما يعلم أنه الحق، أن يكون ظالماً يعلمه الله. فيا للهول!
وأما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهذا دعم له، يُسَرّي عن قلبه بعضَ ألمِ ما يواجه، فكأن الله يقول له: إنني عالم بأذى قومك لك، وأنا قادر على أخذهم وهم يسمعون، ولكني سأملي لهم لأنك بينهم، كما قلت من قبل: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ (البلد/1 ــ 2). وما قسمي ببلد أنت فيه؟ فلأقسمنَّ بك يا حبيبي، ولأجعلنَّ العاقبة لك والحكم عليهم، كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته.
ولا ريب أن كل هذا الآي والصبر وشعور المستمعين بما يمكن أن يصيبهم، لا ريب أنه شكّل كوماً من التراكمات، انتظرت نتائجها أن تظهر عام الفتح. فما قول هؤلاء يوم أن قيل لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: “أخ كريم وابن أخ كريم” إلا بعض هذه التراكمات. فالناس لا يغيرون مواقفهم في لحظة، إلا وكان ذلك مجرد إعلان بما كان يتردد في الأعماق من قبل.
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴿20﴾
الضمير في ﴿شَرَوْهُ﴾ يرجع إلى من التقطوه وقالوا: ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾. وقوله: ﴿شَرَوْهُ﴾ هو نفس قولهم: «اشتروه»، بمعنى: «باعوه». فالبيع والشراء من الأضداد، يُقال للبائع: اشترى، ويُقال له: باع. والعكس صحيح، أي: يُقال للمشتري: باع، ويُقال له: اشترى. والحكم للسياق. قال في اللسان: “شَرى الشيءَ يَشْريه شِرىً وشِراءً واشْتَراه سَواءٌ، وشَراهُ واشْتَراهُ: باعَه. قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ (البقرة/207). وقال تعالى: ﴿وشَرَوْهُ بثمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدودةٍ﴾، أَي: باعوه… والعرب تقول لكل من تَرك شيئاً، وتمسَّكَ بغيره: قد اشْتراهُ”.
وقال ابن مفرّغ الحميري:
وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي
مِنْ قَبْلِ بُرْدٍ كنْتُ هَامَهْ
والْهَامَةُ: روح القتيل تقول العرب: إنّه طائرٌ يخرج من جسمه، فلا يزال يقول: اسقُوني اسقُوني، حتَّى يُؤخذَ بثأْره. قال ذو الأصبع العَدواني:
يا عَمْروُ إِلَّاْ تَدَعْ شَتْمِي ومَنْقِصَتي
أَضْرِبْكَ حَيْثُ تَقُولُ الهامَةُ اسْقُونِي
وربما استعارت العربُ «الهامةَ» للموت، كما هو في قول ابن مفرّغ الحميري، فهو يقول: «ليتني ِمِتُّ قبل أن أبيع عبدي برداً».
فظاهر قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ أنهم باعوه بثمن قليل. ولكن الظاهر هنا متأخر عن الدلالة، إذ هو لا يُحَتّم أنهم باعوه بالقليل حقاً، لأن كل السياق يقول غير ذلك. فربما أراد التنزيل العزيز أن يقول: باعوه بثمن قليل بالنسبة إلى ما يستحق. ولو علموا ما يستحق هذا الفتى، لطلبوا فيه الكثير. وكذلك تأويل قوله: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾.
فرغم أنهم التقطوا فتى “اُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ”، إلا أنهم باعوه بثمن مهما غلا، فهو بخس؛ ومهما كانت الدراهم، فهي قليلة معدودة، لا تقارب ثمنه الحقيقي: فكان ثمناً قليلاً ثمنُ فتىً هو أجمل مما تكلمت الأساطير. وكان ثمناً قليلاً ثمنُ فتىً طهورٍ ستغرم به نساء مصر، فيستعصم بربه. وكان ثمناً قليلاً ثمنُ فتىً سيغدو وزير الخزانة في مصر، فيطعم الجوعى في الإقليم. فأي ثمن له لم يكن بخساً؟
وقد تنبه بعض أهل الإشارة إلى هذا فقال: “لم يعرفوا خسرانهم في الحال، ولكنهم وقفوا عليه في المآل. ويقال قد يُبَاعُ مثل يوسف ـ عليه السلام ـ بثمن بخس، ولكن إذا وقعت الحاجةُ إليه فعند ذلك يعلم ما يلحق من الغَبْن”.
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴿21﴾
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾: قد قيل بأن في القرآن بعض الكلمات أو الحروف الزائدة في مواضع، وأنّ فيه إطناباً لازماً في مواضع أخرى. والحق سوى ذلك تأكيداً؛ فلا زيادة في القرآن ولا نقص. بل كل ما فيه إيجاز، يؤدي المعنى بأبلغ عبارة وأوجزها وأجملها، حتى لا ترى دون ذلك اقتراحاً لمقترحٍ، إلا كان أدنى منه من ناحية من النواحي؛ إن لم يكن منها جميعاً.
فلو قيل ـ على سبيل المثال ـ إن هذه الجملة فيها زيادة من الحروف عن المعنى، فلذلك غرض، إما أن يكون احتراساً من وهم يتوهمه سامع، أو زيادة بيان للتوكيد، أو إضافة جمالية، أو غير ذلك، فالتعبير القرآني يهتم بتمام المعنى مع تمام الجمال.
ويحضرني قول ناقصةِ عقلٍ لأستاذ التفسير، حين وقفت معترضة فقالت: أنت تقول بأن كلام الله شديد الإيجاز، يؤدي المعنى بأقل الألفاظ، فلم قال إذن: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ (النساء/11) وكان بمقدوره أن يقول: «للأنثى نصف الذكر»؟
فيها الأستاذ مغيظاً وقال: «فإن لم يَكْفِها نِصفُهُ»؟ فاستخجلتْ فتاةٌ تغالب الله، وانسحبت حسيرة.
وفي مثل ذلك يقول أبو الحسن الرماني رحمه الله: “وإذا كان الإطناب لا منزلةَ إلا ويَحسنُ أكثرُ منها؛ فالإطناب حينئذ إيجاز”.
فلو نظرنا في قوله تعالى هنا: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ﴾ لرأينا التنزيل العزيز مال عن الإيجاز إلى قليل الإطناب، ولولا ذلك لقال: «وقال مشتريه المصري»؛ لكنه أراد أن يشير إلى أن من اشتراه ليس مشترياً حقيقياً، بل لا يحق له، فهو فقط ﴿الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ﴾ وكأن لم تكن ثمة عمليةُ بيعٍ حقيقة، فكأن أشارت الجملة إلى أن يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يدخل في مِلْكِ أحدٍ أصلاً.
وكان الذي اشتراه هو عزيز مصر، الذي سوف يَتَبَيّن لنا، عن قريب، أنّه وزيرها الأول، أي: رئيس وزرائها بلغة العصر. علمنا ذلك من وجود ملكٍ لمصر في ذات الوقت، مما قاله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾ (يوسف/54).
فأمّا اسم العزيز واسم امرأته واسم الملك، فلم يرد في أي منها نص صحيح عن المعصوم أو أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ـ بل إسرائيلياتٌ سخيفة تذهب بالعقل، وتثير السخرية، ينقلها ابن إسحق وأضرابُه عن أهل الكتاب، تثير المقت والشفقة في آن.
وأما العصر على وجه اليقين، فالله أعلم به. ولكن يُرَجّح ـ من إشارات تاريخيةٍ من خارج السياق ـ أنه عصر الهكسوس. فلن نسمع في القرآن باسم الفرعون حاكماً لمصر؛ إلا بعد ذلك بدهر بعيد، حين يصبح نسل يوسف وأخوته شعباً عظيماً، بما يشي بأن ذلك سيكون بعد تحرير أحمس لمصر بقرون.
إذن فقد قال عزيز مصر لزوجه: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ ولا علاقة لقوله بالفراسة، كما نقلوا من قول ابن مسعود، إذ لو كان عزيز مصر صاحب فراسة، إذن لَتَفَرَّس في وجه زوجه، فعلم أنها ستراود هذا الفتى ـ بعد سنوات ـ عن نفسه. لكن السياق يشي بأن العزيز لم يكن قد أنجب، فأحبّ أن يتبنى ولداً، رآه غلاماً طفلاً جميلاً، رقيق الحاشية، مؤدباً كأبناء الملوك. ولو كان ذا فراسةٍ حقاً، لعلم أنه ابن رجلٍ هو خيرٌ من كل ملوك الأرض. لكن الله غالب على أمره.
وقوله ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾: المثوى في الحقيقة هو موضع المقام. وهو هنا كناية عن الأمر بالاهتمام به، مبالغة في إكرامه، كأن قد قال: أكرميه إكراماً عظيماً، يتأتى عنه أن يُكرَم كل ما لامسه واقترب منه لأجله.
﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾: تعليل لأمر العزيز زوجه بإكرام مثوى الغلام. فكأن قد قال لها: «لعله ينفعنا في الخدمة قريباً، ويكرمنا حال كبرنا وعجزنا، وما أدراكِ، فقد يصلح لأن نتبناه فيغدوا لنا ابناً»؟.
﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾: الواو استئنافية. و﴿كَذَلِكَ﴾: نعت لمصدر محذوف تقديره: «الإنجاء». وتقدير الكلام: ومثل ذلك الإِنجاء والعطف، الذي أكرمناه به حين أنقذناه من تدبير إخوته، وحين أخرجناه من الجب؛ مَكَّنَّا له في أرض مصر.
﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ﴾: الواو عاطفة. واللام للتعليل. و«نُعَلِّمَهُ»: فعل مضارع منصوب، إن شئت قلتَ: إنه منصوب بلام التعليل، وإن شئت قلت: إنّه منصوب بأن مضمره بعدها. والتقدير: «لنمكنه في الأرض علمناه ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾».
و﴿تَأْوِيل الْأَحَادِيثِ﴾: التي أراد الله أن يُعَلِّمَهَا الغلامَ هي تعبير الرؤيا. وهي مُقَدِّمات النبوّة قبل الوحي. وقد علمنا ما قالته أُمُّنا عَائِشَةُ عليها السلام: “كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ: فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ”.
دع عنك كفر كويفرين صغاراً، يهربون من كل قول لله، إلى أيّ قول من أقوال كافرين صغارٍ، ينفون كلَّ رؤيا، لصالح ما يرونه أضغاث أحلامٍ، تُعَبِّر عن الكبت. ولو أنصفوا لقالوا: إن الرؤى المنامية قسمان: أحدهما مثل فلق الصبح، يتنبأ بما سيكون. وكثير منها أضغاث أحلام، إمّا هي إعادة عرض لما جرى في اليقظة، وإمّا تنفيسٌ عن كبت في اللاشعور، هبط إلى القاع، ولا بد له من التنفيس، كي لا ينفجر مرجل الوعي، ويتحول صاحبه إلى العصاب والجنون.
لكنهم لا يحبون الله ورسوله، ولا ما يقوله الله ورسوله.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾:
ختام بمثابة التذييل، يعلل ما سبق، ويعرض للحكمة منه، فكأنه قال: «وَمَكَر إخوة يوسف مَكْراً، وَمَكَرْنَا ـ نحن الله العليّ الأعلى ـ مَكْراً، دمّر مكرهم وأبطله، من حيث رغبوا عن الرضا بسيادة أخيهم النبيّ، فأنفذنا في الواقع، ما قدّرناه في الأزل، من سجودهم له، ونُبُوَّتِهِ من دونهم. ولكن أكثر الناس لا يصدقون بما قدّرنا، فيحاولون تغيير المقدور من فعلنا لأنه لم يعجبهم».
فإن سأل سائل: وهل على الناس أن يقبلوا بكل شيء، فلا يكافحوه، لأنهم يرونه المقدور؟
لأقولن: كلا، فعليهم أن يكافحوا، لأنهم لا يعلمون المقدور، فقد يكون كفاحهم من المقدور ذاته، خصوصاً وهم لا يعلمون الغيب. أما إخوة يوسف، فقد علموا الغيب قبل وقوعه، من دعم أبيهم النبيّ لما رآه الغلامُ الأصغر. وذلك ـ عندي ـ هو ما جعل الإخوة خاطئين بتحديهم ما يقوله نبيُّ الله، وسلوك السُّبُلِ الممنوعة لدفعه.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴿22﴾
لقد جاءت لفظة «أَشُدّ» في خمسة مواضع، من التنزيل العزيز، كلها أضيف إليه ضمير الهاء:
1: الأول في الوصية باليتيم، من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ (الأنعام/152).
2: والثاني ما جاء في هذه السورة، عن سيدنا يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
3: والثالث في الوصيّة باليتيم ـ مرة أخرى ـ من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ (الإسراء/34).
4: والرابع عن سيدنا موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ (القصص/14).
5: والخامس عَمّا هو عليه عبدٌ شاكرٌ، وما ينبغي على كل عبدٍ شاكر أن يكون عليه، لكي يكون عبداً شاكراً؛ من قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾ (الأحقاف/15).
ولا أرى جدوى من نقل ما قالته في معنى ﴿أَشُدَّه﴾ المعاجمُ، بعد أن جمع ما فيها ـ وزادَ وأوعىٰ ـ قاضي الأندلس الفقيه الأديب المالكي: أبو بكر بن العربي ـ رحمه الله ـ فقال:
“قَوْلُهُ: ﴿أَشُدَّهُ﴾ فِي لُغَتِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ، كـ«الْإِصْرِ» و«الْأَشَرِّ». الثَّانِي: أَنَّ وَاحِدَهُ «شِدَّةٌ»، كـ«نِعْمَةٍ» و«أَنْعُمٍ»؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ. الثَّالِثُ: وَاحِدُهُ «شَدَّ»، كَقَوْلِك: «قَدَّ» و«أَقَدَّ». الرَّابِعُ: قَالَ يُونُسُ: وَاحِدُهُ «شَدَّ»، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. الْخَامِسُ: «أَشُدُّ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالشِّينِ… وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ: ﴿أَشُدَّهُ﴾: مِنْ الْحُلُمِ إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً: أُمَّهَاتُهَا خَمْسٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ الْحُلُمُ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَالِكٌ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ عَاماً إلَى أَرْبَعِينَ؛ وَهُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ، إلَّا أَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحُلُمَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ عَاماً. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عِشْرُونَ سَنَةً؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الرَّابِعُ: إنَّهُ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ أَرْبَعُونَ؛ يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُلُمَ إلَى خَمْسِينَ سَنَةً: فَإِنَّ مِنْ الْحُلُمِ يَشْتَدُّ الْآدَمِيُّ إلَى خَمْسِينَ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الْقَهْقَرَىٰ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي وَتَجْرِيبِي مُدَارَاةُ الشُّؤُونِ
قلت: والبيت للشاعر المخضرم: «سُحَيْم بْنُ وَثِيلٍ الرِّيَاحِيّ». وقد تعوّدنا على الاحتجاج بالشعر القديم على صحة اللغة، لأنّه من كلامهم الذي نزل به القرآن. وإما احتجاج القاضي ـ رحمه الله ـ بالشعر، على معنى حكم شرعي هو مدار الخلاف؛ فغريبٌ، ولا أظنه يصيب الأجرين.
ويبدو لي أنه مهما كان معنى «الأشُدِّ»، فمرجعه سياقُ ما قيل فيه.
وقد رأينا ـ«الأشد» في التنزيل العزيز، يُحيل في كل سياق إلى وصفٍ مختلف: فمرة يُحيل إلى سنّ البلوغ أو الاحتلام، كما هو في اليتيم، في المثالين الأول والثالث. وهو ـ في أخرى ـ يُحيل إلى بلوغ سنّ الرشد، بمعنى سنّ القوة والحكمة والعلم والتمييز، كما هو في المثالين الثاني والرابع. وهو ـ في ثالثة ـ مُحددٌّ بسنّ معلومة منصوصٍ عليها، موصوف من بلغها بالكمال، وهو سن الأربعين، كما هو في المثال الخامس.
فإن عرضنا آيتنا على هذه الأمثلة جيداً، تحتّم علينا أن نستبعد أن المقصود بـ«الأشُدِّ» فيها، مجرد بلوغ الحلم.
وإذن فلم يتبقَّ لدينا إلا قولان: أحدهما: سنّ القوة والحكمة والعلم والتمييز، والثاني: هو السنُّ المحددة بأربعين سنة. فجمعنا بينهما ـ من ثَمَّ ـ وقلنا: معنى ﴿بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾: بلغ تمامَ العقل والحكمة من حيث الخَلْقِ والخُلُقِ، وتمامَ بلوغ ذلك من حيث السنّ.
والحاصل أننا نُرَجِّحُ أنّ هذا كان سنَّ الأربعين، وهي نفس السنّ التي أُوحي فيها إلى سيد الأنبياء، نموذج المُشارِ إليه في كل فضل: محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الفرقان/5):
“فإنه عُلم بالتواتر وبالضرورة، أن محمداً رسول الله، لم يكن يعاني شيئاً من الكتابةَ، لا في أوّلِ عمرِهِ ولا في آخِرِهِ. وقد نشأ بين أظْهُرهِمْ ـ من أوّل مولِدِهِ، إلى أن بعثهُ اللهُ ـ نحواً من أربعين سنة؛ وهم يعرفون مُدخَلَهُ، ومُخرَجَهُ، وصدقَهُ، وأمانَتَهُ، ونزاهتَهُ، وبِرَّهُ، وبُعدَهُ عن الكذب والفجور، وسائِرِ الأخلاق الرذيلة؛ حتى إنّهم لم يكونوا يسمّونه ـ في صغره إلى أن بُعث ـ إلا «الأمين»، لما يعلمونه من صِدقِهِ وبِرِّهِ”.
﴿آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ قالوا: قال مجاهد: “أعطيناه العقل والعلم قبل النُّبُوَّة”.
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾: قال شيخ المفسرين يرحمه الله: “وكما جزيتُ يوسفَ فآتيته بطاعته إيّاي الحكمَ والعلمَ، ومَكَّنْتُه في الأرض، واستَنْقَذَتُهُ من أيدي إخوته، الذين أرادوا قتله؛ كذلك نجزي من أحسن في عمله، فأطاعني في أمري، وانتهى عما نهيته عنه من معاصيّ”.
قلت: وهذا حكم عام يُراد به كلُّ محسنٍ. ولكن في تنزيله على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرؤه على كفار قريش، تسريةً له عما أتعب قلبه من أهله المشركين، وتسليةً له بتذكيره بما كان من سُنَّةِ الله في المحسنين، كما أنه تعريضٌ بمشركي مكة من حوله، وبكلِّ مشركٍ في العالم، يتلو عليه داعيةُ خيرٍ هذه الآيات، وتهديدٌ للمشركين في كل مكان وزمانٍ، في مكرهم بما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فـ«العلم» في الآية: تأويل الأحاديث. وقد يكون هذا بعد، النبوّةِ وقد يكون قبله. ولا نصَّ يمكن أن نتحاكم إليه في هذا. وأما «الحكم»، فهو الوزارة على الأرجح، من حيث أَلْهَمَ الله ملك مصر أن يحكّمه في خزائن مصر، بما حمى به الإقليم من المجاعة، فنعم الحكم. فإن كان هذا بعد النبوّة فظاهر. وإن كان قبلها، ففيه إشارة إلى اقترابها، لأن تأويل الأحاديث كان من علم الله، الذي علمه ليوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نصَّ عليه منطوقُ التنزيل في قوله: ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ (يوسف/37).
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴿23﴾ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴿24﴾
لا ريب في أنك ترى في كلمة ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾ البناء لما لم يُسَمَ فاعله. وفاعله نعلم أنه الله، فهو الذي جعله مُخْلَصاً. فحين قال تعالى: ﴿إنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾، صار معنى ذلك في كلامنا البشري: «إنَّهُ من عبادنا الذين خلصناهم من شوائب التعلق بغيرنا».
وكم يعجب المرء وهو يقرأ هذه الآيات الممتدة المتطاولة، تعرض قصة الغواية والاستعصام، بمشهديّةٍ فذّة تستحضر الحدث كأنه أمامنا الساعة.
يعجب وهو يفكر فيم كان هذا، وما الهدف؟
هل هو لبيان عصمة نبيٍّ؟
قد كان يمكن عرضُ ذلك في آيةٍ أو آيتين، دون هذا الامتداد الذي استمر على طول ثلاث وثلاثين آية متواصلة، من بداية الآية الثالثة والعشرين إلى نهاية الخامسة والثلاثين!
لا بدّ إذن من حكمة وراء ذلك خفيّة، نحاول تَلَمُّس بعض آثارها في هذه السطور.
إنّ عرضَ مشهد نشوء شابٍّ في بيتِ سيدته الجميلة الغنية، وهي تراوده عن نفسه، طوال سنوات مراهقته وطرفٍ من شبابه ـ لحظة بلحظة ـ دون أن تحدثه نفسه بأدنى بادرةِ استجابة، لجدير به أن يثير واحداً من تساؤلين:
1: هل كانت دوافع الذكورة، لدى الشاب، معدومة إلى حد أنه لم يكن يشتهي النساء؟ فإن كان ذلك كذلك فلا فضيلة في عِفّةٍ مصطنعة، وإنما الفضيلةُ لفحلٍ مُتَوَثِّبٍ يُقَيِّدُهُ دينه عن مواقعة المحرم.
2: أم أن ربّه عصمَهُ فصرفه عن اشتهاء سيدته؟ فإن كان هذا هو الحال، فلا فضيلة لشاب معصوم، بكبح إرادة غير متوفرة. فالملائكة لا يصلحون أن يقتدي بهم البشر.
لكن أن يكون يوسف شاباً جميلاً كامل الرجولة، تتوثب به شهوته، فتكبح جماحها مخافةُ الله وشرفُ الوفاء؛ فذلكم لعمر الله هو السؤدد، وتلكم هي العصمة التي خلقتها إرادة الفعل الحر، لا المنع الطبيعي.
هذا ما يبدو لي أن الآيات تريد قول بعضه، وهو كثير. فلنبدأ بالمحاولة على بركة الله:
﴿رَاوَدَتْهُ﴾: تَغنَّجت له، وتَدَلَّلت عليه، بلطيف القول ووحي الحركات، مما تعرفه النساء وخُلق معهن فطرةً. من «المراودة» التي هي الملاطفة في الدفع إلى الهدف. قال العلّامة ابن عطية رحمه الله: “وأكثر استعمال هذه اللفظة إنما هو في هذا المعنى الذي هو بين الرجال والنساء. ويشبه أن يكون من «رادَ، يَرُودُ»: إذا تقدّم لاختبار الأرض والمراعي. فكان «المُراوِدُ» يختبر ـ أبداً بأقواله وتَلَطُّفِهِ ـ حالَ «المُراوَدِ»، من الإجابة أو الامتناع”.
قلت: ومن ذلك قولهم في المثل: «إن الرائد لا يكذب أهله».
﴿الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾: عبر عن امرأة العزيز بالاسم الموصول ﴿الَّتِي﴾: المقترن بما تملك من سلطة ﴿هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾، بل كأنه لم يعد تحت سلطتها في تلك اللحظة سواه، كما يشي بذلك وجود الضمير﴿هُوَ﴾، المفيد للتأكيد وربما القصر. فكأن لم تعد متسلطة إلا على بيتها، ولم يعد في البيت إلا هو.
لم يقل التنزيل «امرأة العزيز» فهو ليس مجرد أمر معلوم، بل إن في ذكره استحضاراً لما فعل الزوج مع يوسف من الإكرام. لكن عدولَهُ عن التصريح إلى الكناية في الجملة الموصولية ﴿الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾، هو نوع من المجاز المرسل، الذي يذكر الجزء ويريد الكل، ليركز على قوة سلطة المرأة، وهي تدعو فتاها إلى فراشها.
إنها ليست سيدة البيت، بل هي المرأة ﴿الَّتِي﴾ اشتعلت فيها النار. وهو ليس مجرد في بيتها، بل ﴿هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾، ولا شيء في بيتها سواه، وهو تحت سلطتها، ويأتمر بأمر سيدة اشترته سيدته من السوق. وكل هذا يُحيل إليه مفهوم الإشارة، في الجملة الموصولية. فكونه ﴿هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ من شأنه أن يطوّعه لمرادها. وهل يستطيع خادمُ بيتٍ ليس في البيت من الأشياء سواه، أن يرفض تلبية طلب سيدته التي تهيأت وتجمّلت وغلّقت الأبواب؟
ولهذا كان هذا النموذج من الشباب المتعفف، واحداً من السَبْعَة الذين “يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ”.
﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾: هي تلاطفه عن نفسه، كأنها تُغيّبُ عقله ـ بالتّغَنُّجِ ـ عن التفكير، ليُلَبّي رغبتها ويمنحها غرضها، الذي يمتنع عن إجابته في حالة امتلاكه وعيه. والتعبير هنا كناية عن المواقعة الجنسية. وفيه إشارة إلى طهارة يوسف صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن بوادر الزنا هي ـ في الغالب ـ صادرةٌ عن المرأة، كما يشي تقديم المحدودة في حد الزنا على المحدود، في قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ (النور/2).
ولعل كلَّ هذا التَّكَشُّف المعلن في الشوارع، نوعٌ من مراودة الشباب عن نفسه. ولو حكمتُ، لما حكمتُ على مغتصبٍ، حتى أَمنع هذا السفور، الذي هو ـ عندي ـ مراودةُ غانياتٍ لشبان عن أنفسهم.
﴿غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾: التغليق: تضعيف من الإغلاق. وفيه مبالغة في الإغلاق واهتمام بتأمين المكان من قادم مفاجئ.
﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾: قال بعضهم: هي عربية أصلها: «هِئْتُ لَكَ»، بكسر الهاء، وضم التاء والهمزة، بمعنى: «تهيَّأتُ لك»، من قول القائل: «هِئْتُ للأمر أهِيءُ هَيْئَةً»، أي: «وادنُ وتقرَّبْ». ونقلوا ذلك عن مجاهد. وأنشدوا في ذلك قول الشاعر لعلي بن أبي طالب عليه السلام:
أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمنِيـن أَخَا العِرَاقِ إذَا أَتَيْنَا
أَنَّ العِرَاقَ وَأَهْلَهُ عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا
يعني: «تعالَ واقرُبْ». وزعم بعضهم أنها من لغة أهل حوران. وقال آخرون: إنها من لغة الأقباط.
قلت: ولا أرى في هذا البيت، الذي أوردوه، حجةً على عربية اللفظة: فالشاعر مسلم يقرأ القرآن ويتأثر به ويستظهره في شعره، ولا دليل على أنه سار فيه على نهج عرب الجزيرة قبل الإسلام.
والمقصود أنها لما رأت أن لطيف الكلام والغنج لم يغوياه، عمدت إلى إعلان غرضها بغلق الأبواب والمصارحة.
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ﴾: أوشكت بأن تفعل به، وأوشك بأن يردّ عليها. وفي التأويل بعد قليل مزيد بيان إن شاء الله.
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾: قيل: قصد بالربِّ سيده الذي هو زوجها، فأبى خيانته. ويٌحتَج لهذا بقوله قبل قليل: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ (يوسف/21). وقيل: قصد الله ربه ورب العالمين.
قال القشيري: “لما غَلَّقَتْ عليه أبوابَ المسكنِ، فَتَحَ الله عليه باب العصمة، فلم يُضِرْه ما أُغْلِقَ بعد إكرامه بما فُتِحَ. وفي التفسير: أنه حفظ حُرْمةَ الرجل الذي اشتراه، وهو العزيز. وفي الحقيقة أشار بقوله: ﴿إِنَّهُ رَبِى﴾ إلى ربِّه الحقِّ تعالى: هو مولاي الحق تعالى، وهو الذي خلَّصني من الجُبِّ، وهو الذي جعل في قلب العزيز لي محلاً كبيراً، فأكرم مثواي، فلا ينبغي أَنْ أُقْدِمَ على عصيانه ـ سبحانه ـ وقد غمرني بجميل إحسانه”.
﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾: لا يعلم تأويل ذلك إلا الله. وقد رُويت فيه إسرائيليات كثر لا يقبل بها العقل.
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾
ها هنا قفزةٌ في الزمن، تختصر تاريخاً طويلاً، من الإعجاب المكتوم من سيدة القصر بالفتى الآسيوي الجميل، الذي جيء به ليخدمها، فإذا هي به موَلَّهةٌ تتلظّى.
غلامٌ صار شاباً تحت عينيها، وهي ترقب نموّه يوماً وراء آخر، فلا تلاحظ في قلبها نحوه عاطفةَ الأم، بل صَبوةَ شابةٍ محرومةٍ، تملك مالاً وجمالاً وسلطةً وفراغاً وترفاً، وزوجاً تنقصه الفحولة، نعرف ذلك من رَدّه الباهت حين اكتشف ما فعلت امرأتُه بالفتى، فلم يكن منه سوى أن أمره بتناسي ما حدث، ودعاها إلى الاستغفار.
امرأةٌ مكتملة جريئة، مالكةٌ لكيدها، متهالكةٌ كذلك على الفتى. والفتى يَخْطُرُ بين يديها وينمو يوماً وراء آخر، لاهياً عن نظرات امرأةٍ ملتهبةٍ، يراودها جسدٌ عطشان، وشبابٌ ملتهبٌ، وزوجٌ غائب.
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾: هَمَّتْ به هَمَّ الفعل، فما فعلت كلَّ ذلك إلا لتنال منه إطفاء لهيب الجسد بالزنا المحرم. وهَمَّ بها هَمَّ خاطرة النفس، فبعد طول المحاولة منها، والمراودة والاستعصام الطويل من الفتى؛ مالت نفسُهُ فحدثته: أن هيا.
إن الفتى إنسانٌ، وهو ـ إلى ذلك ـ مراهقٌ صَبَرَ سنواتٍ أمام كل محاولات الإغواء. ولا قيمةَ لكل قول يُخرج الفتى من سلك البشرية فيجعله ملاكاً. فالأنبياء يتزوجون كما يشتهون، وكل ذلك بشرع الله.
ودعونا نتذكر أنّ الفتى ليس نَبِيَّاً بعدُ، لأننا نعلم أن النُّبُوَّةَ ستكون بعد الأربعين. ولا يُعصم الأنبياء إلا بالنُّبُوَّة، ولا يُعصم الأنبياء إلا في التبليغ، مع حمايتهم من الوقوع في سائر الكبائر. وها هنا فتىً مكافحٌ كتب الله له أن يكون نَبِيَّاً بعد قليل، فهو يُنَشِّئُهُ تنشئة حسنة، ويُربّيه على فضائل الأخلاق، وهو ـ إضافة إلى ذلك ـ محكومٌ بشريعة يعقوب وإسحق وإبراهيم ـ صبى الله عليهم وسلم ـ التي تُحرّم الزنا والغدر ونكران الجميل. وفي مواقعة الفتى الإسرائيلي أيّاً من ذلك إثمٌ كبير عند الله وفي شريعة آبائه.
لكنه بشر. والبشر يخطئون، خصوصاً إذا لم يكونوا أنبياء. من هنا فالرأي عندي أنّهُ همَّ بأن يستجيب لطلبها، لكنه رأى برهان ربه، فولى الأدبار نحو الباب.
ولقد رأيتُ أن أجمل ما قيل في ذلك، قاله المرحوم سيد قطب، وها هو:
“إن التجربة التي مر بها يوسف ـ أو المحنة ـ لم تكن فقط في مواجهة المراودة، في هذا المشهد الذي يصوّره السياق؛ إنما كانت في حياة يوسف فترةَ مراهقته كلها، في جوِّ هذا القصر، مع هذه المرأة، بين سن الثلاثين وسن الأربعين، مع جوّ القصور، وجوّ البيئة التي يصوّرها قولُ الزوج، أمام الحالة التي وجد فيها امرأته مع يوسف: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ (يوسف/29)، والتي يتحدث فيها النِّسوة عن امرأة العزيز، فيكون جوابها عليهن، مأدبة يخرج عليهن يوسف فيها، فَيُفتَنَّ به، ويُصرّحن، فتصرح المرأة: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (يوسف/32).
فهذه البيئة التي تسمح بهذا وذلك، بيئةٌ خاصةٌ، هي بيئةُ الطبقة المترفة دائماً. ويوسف كان فيها مولىًٰ، وتربى فيها في سن الفتنة. فهذه هي المحنة الطويلة التي مرّ بها يوسف، وصمد لها، ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها وميوعتها ووسائلها الخبيثة.
ولِسِنِّهِ وسنِّ المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد، كلَّ هذه المدة، قيمةٌ في تقدير مدى الفتنة، وخطورةِ المحنة، والصمودِ لها هذا الأمد الطويل. أما هذه المرة، فلو كانت وحدها، وكانت مفاجئةً بلا تمهيد من إغراء طويل، لما كان عسيراً أن يصمد لها يوسف، وبخاصة أنه هو مطلوبٌ فيها لا طالب. وتهالكُ المرأة قد يَصُدُّ من نفس الرجل. وهي كانت متهالكة.
وإذن، فقد كانت المراودةُ في هذه المرة مكشوفةً، وكانت الدعوة فيها سافرةً إلى الفعل الأخير. وحركةُ تغليق الأبواب، لا تكون إلا في اللحظة الأخيرة، وقد وصلت المرأةُ إلى اللحظة الحاسمة، التي تهتاج فيها دفعةُ الجسد الغليظة، ونداءُ الجسد الأخير: ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾.
هذه الدعوة السافرة الجاهرة الغليظة، لا تكون أولّ دعوةٍ من المرأة. إنما تكون هي الدعوة الأخيرة. وقد لا تكون أبداً إذا لم تضطر إليها المرأةُ اضطرارا. والفتى يعيش معها، وقوته وفتوته تتكامل، وأنوثتها هي كذلك تكمل وتنضج. فلا بد كانت هناك إغراءاتٌ شتى خفيفة لطيفة، قبل هذه المفاجأة الغليظة العنيفة.
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾: أعيذ نفسي باللّه أن أفعل: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾، وأكرمني بأن نجّاني من الجُبِّ، وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ الذين يتجاوزون حدود اللّه، فيرتكبون ما تدعينني اللحظةَ إليه.
والنصُّ هنا صريحٌ وقاطع، في أن ردّ يوسف المباشر على المراودة السافرة، كان هو التأبّي المصحوب بتذكّر نعمة اللّه عليه، وبتذكّر حدودِهِ وجزاءِ من يتجاوزون هذه الحدود. فلم تكن هناك استجابةٌ، في أوّلِ الموقفِ لِما دعته إليه، دعوةً غليظة جاهرةً بعد تغليق الأبواب، وبعد الهتاف باللفظ الصريح، الذي يتجمّل القرآنُ في حكايته وروايته: ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾.
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾: لقد حصرَ جميع المفسرين ـ القُدامى والمُحدَثين ـ نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة: فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات، فقد رَوَوا أساطير كثيرة، يصوّرون فيها يوسف هائجَ الغريزة، مندفعاً شبقاً، واللّه يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع: صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضّاً على أصبعه بفمه. وصوّرت له لوحاتٍ كُتبت عليها آياتٌ من القرآن ـ أي نعم: من القرآن ـ تنهى عن مثل هذا المنكر، وهو لا يَرعَوِي، حتى أرسل اللّه جبريل يقول له: أدرك عبدي. فجاء فضربه في صدره. إلى آخر هذه التصوّرات الأسطورية التي سار وراءها بعضُ الرواة، وهي واضحةُ التلفيق والاختراع.
وأما جمهور المفسرين، فسار على أنها هَمَّتْ به هَمَّ الفعل، وهَمَّ بها هَمَّ النفس، ثم تجلّى له برهانُ ربه، فترك.
وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا ـ في تفسير المنار ـ على الجمهور هذا الرأي. وقال: إنها إنما هَمَّت بضربِهِ نتيجة إبائِهِ وإهانتِهِ لها ـ وهي السيدةُ الآمرة ـ وهمَّ هو بردّ الاعتداء، ولكنه آثر الهرب؛ فلحقت به، وقدّتْ قميصه من دُبُرَ.
وتفسيرُ الهَمِّ بأنّهُ هَمًّ الضرب وردّ الضرب، مسألةٌ لا دليل عليها في العبارة، فهي مجرد رأيٍ لمحاولة البعد بيوسف عن هَمِّ الفعل، أو هَمِّ الميل إليه في تلك الواقعة. وفيه تَكَلُّفٌ وإبعادٌ عن مدلول النص.
أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم، وبعد ما أوتيهما؛ الذي خطر لي أن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، هو نهاية موقف طويلٍ من الإغراء، بعد ما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة، في المقاومة والضعف، ثم الاعتصام باللّه في النهاية والنجاة.
ولكن السياق القرآني لم يفصّل، في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة، لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضاً، يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة، كذلك: فذَكَرَ طرفي الموقف بين الاعتصام في أَوّلِه، والاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتملَ الصدق والواقعية والجو النظيف جميعاً.
هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص ، ونتصور الظروف. وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية. وما كان يوسف سوى بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز هَمُّهُ الميلَ النفسي في لحظةٍ من اللحظات. فلما أن رأى برهان ربه، الذي نبض في ضميره وقلبه، بعد لحظةِ الضعف الطارئة، عاد إلى الاعتصام والتأبي”.
انتهى كلام سيد قطب. وفيه بلاغ أيّ بلاغ.
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴿25﴾ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴿26﴾ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴿27﴾ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴿28﴾ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴿29﴾
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾
لقد رأت منه الاستجابة آخرَ الأمر، ربما رأتها في عينيه، ربما رأتها في مَيْلَةٍ مالها نحوها، ربما سمعت منه كلمةَ الاستجابة المنتَظرة، ربما ما لا نعلم. لكن يبدو أنها عرفت أن كيدها أفلح أخيراً. ولكن، يا للصدمة! ها هو الطيرُ، بعد أن أوشك على الوقوع في الشبكة، يطير بعيداً، وقد بدت على ملامحه عزائم لا تنثني.
مرة واحدة انهارت أحلامُ امرأةٍ مشتعلة، حتى جُنَّ جنونُ شهوتها، فانقضّت على الفتى.
هي ذي عملية اغتصابٍ ليست وحيدة من نوعها، فلطالما سمِعنا باغتصابِ بنات الملوك والأمراء، وطبقة الحكم أبناءَ الرعيّة، اعتماداً على السلطة، وأَمْنَاً من العقوبة.
لكنه هرب، فلحقه جنونها، فانفتح الباب! فتحته رحمةُ الله. وكيف كان لبابٍ موصدٍ أن يُفتح دون من تملك المفاتيح!
فإمّا أن يكون قد انفتح بمعجزة، وإمّا أن يكون الله قد خلق الأسباب لفتحه، بالقدوم المفاجئ من العزيز. فهو الذي يبدو أن لديه نسخةً من المفاتيح غير التي مع امرأته.
المهم أن التنزيل لم يذكر كيف فُتح الباب. لكنه انفتح، وبدا الفتى ممزَّق القميص، واستعادت سيدةُ القصر هدوءها، بقوة ما تستعيده سيدات القصور، عند انكشاف فضائحهن.
لم يبدُ العزيز غاضباً إلى درجة البطش بها، ولا حتى البطش به. إذ يبدو أن الزنا في القصور يظل من الصغائر، حتى يخرج إلى العلن! لهذا كان الأمر يحتاج إلى معالجةٍ شكلية، تُزَيِّن الصمت أمام الحاضرين، الذي لا شك سيخرجون ليتكلموا. فتلك طبيعة أهل القصور.
نعم يبدو أنّ بعض أهل القصر كانوا حاضرين، وشهدوا انفتاحَ الباب، وتقديرَ ما كان وراءه قبل قليل. وكل هذا يمكن علاجه، في منطق أهل القصور. ولطالما شهدتُ ما يصدّق هذا، من أفعال من يشبهونهم ممن جاؤوا إلى غزة، فهتكوا ستر الله، ثم بدوا أمامنا مُتَجَمِّلين.
﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
يا لَجبروت امرأة، ويا لَاستخذاء زوجٍ، كلُّ الشواهد تقول إنه عِنّين! إنها تقول وهو صامت، وقد كان حريّاً بامرأة غيرها ـ في مثل موقفها ـ أن تصمت خزياً! لكنها لا تخزى، بل تكذب كذباً يمكن كشفه لأدنى فحص، وهي لا تهتم. وخلال ذلك لا تنسى عشقها، ولا تضحي بالمعشوق، إذ لا تقترح قتله، بل سجناً يمكنها أن تستصدر له العفو، أو عذاباً تُشرف عليه فيكون يسيراً. أما الموت للمعشوق ـ ولو على سبيل ترضية الزوج ـ فلا.
لكن الفتى الموصول لا يهمه من كل هذا الذي يجري، سوى أن يعلن براءته. لقد خلا قلب الفتى من كل خوف من سجن أو عذاب، وبقي في قلبه خاطرٌ واحد: أن يعلم الجميع طهارته، مما يُنسب إليه:
﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾
ومن كان من هؤلاء سيقبل بشهادة الفتى ضد سيدته؟
لكن يد الله تدخلت من وراء ستار:
﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾
لقد كانت هيئة الفتى واضحة تفضح ما نعرض له، لكن الله شاء أن يعطف قلب رجل من أهلها فينطق بالحق. ولا ريب عندي أنه كان يعلم الحقيقة قبل أن ينطق. فغالب فضائح نساء القصور معروفة للأهل.
﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
واتضحت الحقيقة، وأقرّ الحضور ببراءة الفتى. وسكتت سيدة القصر اعترافاً ضمنياً. ولو كنتُ ثَمَّ، لحدقتُ في عينيها، فلما رأيتُ انكسارا.ً ولم يكن مطروحاً ـ بل ولا حتى في التَّصَوُّر ـ عقابُ سيدة القصر، فلم يكن من حكم سوى هذا: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾
عتاب لطيف من زوج تافه، حتى إنه يبدو كما لو كان تشجيعاً على الاستمرار. ثم التفاتٌ إلى الفتى يأمره بكتمان ما حدث، حتى لا تكون فضيحة: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾
ودعوة كذوب من زوج كذوب لامرأة مشتعلة لا يجدي في إطفاء النار: ﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾
إلى هنا وكان من الممكن أن يكون قد أُسدل الستار على المشهد. لكننا سنرى بعد قليل أن المشهد ما يزال مستمرا وأن الستار لم يُسدل، وأن الفتى ما يزال يخطر في بيت السيدة، تحت عينيها، بما يقمع كلَّ قولٍ يدافع عن زوجٍ لا يسوى بصلة. وعندي أنه لا يفعل هذا من الأزواج إلا عاجزٌ خَلْقيّا ومادياً، عِنّينٌ إجرائياً، يغيد وضعَ النار بالقرب من البنزين.
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴿30﴾ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴿31﴾
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾: في تذكير الـ«نسوة» أقوال، أقواها ـ عندي ـ ما ذهب إليها جار الله قال: “اسم مفرد لجمع المرأة. وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللُّمَّة. ولذلك لم تلحق فعلَهُ تاءُ التأنيث”. فلم يقل: و«قَالَت نِسْوَةٌ».
﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾: صفة للنسوة. وفيه إشارة إلى أنهن منتشرات في الديار. وإذن فقد شاع الخبر في أوساط الطبقة الراقية، إذِ المعهودُ أن طبقات المجتمع الأخرى، مشغولة عن كل هذا ـ أو بعضه ـ بالعمل والكدح، بل الغالب أنهم لا يتوقعونه.
﴿امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾: ﴿امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾: يَسْتَحْضِرن مكانة المرأة بينهن، فهي ليست أي امرأة، بل ﴿امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾. يقلن هذا تمهيداً لتشديد اللوم عليها، مثلما يلمز من قناتك الشانئ حين يقول: «أتفعل هذا وأنت الكبير بين الناس»؟
﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾: يَسْتَحْضِرن صفة الفتى، للمقارنة بينه وبينها: فهي ﴿امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ وهو ﴿فَتَاهَا﴾، هي ليست السيدةُ فحسب، بل سيدة السيدات، وهو مجرد عبدها. فكأنهن قلن: وأي إسفافٍ تهبط إليه هذه المرأة، إذ تنزل بنفسها وطبقتها إلى مخادعة عبدٍ على مواقعتها؟ أيجدر بمثلها ومثلنا النزول إلى هذا المستوى!
يقلن: وَهَبْكِ اشتهيتِ عبدك ـ وهذا يحدث أحياناً حين يشتهي الشخص مطعوماً منحطاً فيتناوله بعيداً عن أعين أمثاله ـ أَفَيَجْدُرُ بكِ أن تجعليه يرفضك فيفضحك؟ إنَّ العبد يؤمر فيطيع، فإذ أُمر فلم يُطع، فقد كانت سيادتك عليه منقوصة، وتستحقين المؤاخذة لأمرين: لأنك تشتهين العبد، ولأنك لم تستطيعي قهره على ما تريدين.
وحاصل كلامهن أنّهُ لو واقَعَهَا لما استحقَّتِ اللوم.
﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً﴾: يقلن: ولا تُصاب امرأة منا بهذا الهوان، إلا من جهة قلبها: فلا ريب أنه استعبدها بدل أن تستعبده. فـ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً﴾.
قال شيخ المفسرين يرحمه الله: “وصل حبُّ يوسف إلى شَغَاف قلبها، فدخل تحته، حتى غلب على قلبها. و«شَغَاف القلب»: حجابه وغلافه الذي هو فيه، وإياه عنىٰ النابغة الذبياني بقوله:
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ دَاخِلٌ
دُخُولَ شَغَافٍ تَبْتَغِيهِ الأصَابِعُ
قلت: يقصد النابغةُ أن الهمَّ دخل القلب، واخترق الغشاء الرقيق الذي يغطيه، فصار في عمقه، بحيث لم تعد أصابع الأطباء تستطيع الوصول إليه بالعلاج.
وإذ شاع الخبر، فلم يكن لامرأة العزيز أن تُصاب بالحرج، من محاولة الزنا أو وقوعه، بل قد أصابها الحرجُ من سخرية أمثالها من نسوة الطبقة المترفة، إذ لم تحسن اختيار العشيق، فأحبت أن تثبت لهنّ أنها قد أحسنت الاختيار.
قلت: وهذا يدل على أن هذا الصنف من النسوة، هو ذاته ما تعوّدنا على رؤيته، فيما يسمى بالطبقة المخملية، اللاتي لا يتحرجن عن استعراض مغامراتهن مع العشاق، في مجتمعاتهن الخاصة. من حيث يرين ذلك من حقهن، بصفتهن من طبقةٍ يُتاح فيها ما لا يُتاح في باقي طبقات المجتمع.
﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾: الرؤية هنا هي رؤية القلب، أي: الرأي، أو الاعتقاد الراسخ. وهو إشارة إلى أنّ هذا خاص بهن وأمثالهن: فلا يُتاح لمن لم تكن منهنّ، أن ترى ما يرين. وهو نوع من العنصرية الطبقية، يُعَبِّرُ عن نفسه في استخدام المترفين للألفاظ.
ثم إنهن عبّرن عن اعتصامهن بـ«رأيهنّ» هذا، بتوكيدين: بإنّ المشددة في قولهن المحكي: ﴿إِنَّا﴾، واللام المزحلقة في قولهن: ﴿لَنَرَاهَا﴾: فهنّ مجتمعات على هذا الاعتقاد، يسخرن به من امرأة العزيز، أنْ عشقت غلامها، الذي هو فتاها العبد البضاعة المُشتراة. فلم يكنَّ يسخرن من كونها حاولت الزنا، إذ يبدو أن من «رأيهن» أن ذلك من حقها، كما هو من حقهنّ. ولكن كان عليها أن تختار من طبقتها من يليق، بمعنى: أنّه كان عليها أن «تستنظف» في الاختيار ـ كما يُقال اليوم ـ وإذ لم تستنظف، فهي في نظرهن: ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾: ولقد رأت امرأةُ العزيز في هذه الشائعة مكراً. ويبدو بالفعل أنّه مكرٌ منهن بها، دفعتْ إليه الغَيرة والحسد: فلا شك أنهنّ حين سمعن بجمال يوسف اشْتَهَيْنَه، ورَغِبْنَ في تقاسمه مع امرأة العزيز.
أقول هذا، لِما هو معلوم من أن شيوع خبر كهذا، وسط نسوة فاسقات مترفات فارغات، إنما يحمل في طريقة عرضه ـ المَسْرُوْرَةِ بينهنّ ـ الكثيرََ من التشويق والوصف والمبالغات. ويمكن لنا تصوّر هاته الفاسقات الفارغات، يجتمعن فيتضاحكن بالمرأة، وأَلْسِنَتُهُنَّ تتلمَّظ شهوةً لنوال الطعام الذي كان عليهن أن يَطْعَمْنَه.
فلما أن وُصف لهنَّ جمالُهُ، حسدنها عليه، وكأنّهن توقعن أنّها قد نالت منه وتنال ـ فليس من الوارد، لدى هاته النسوة، أن يستعصم عبدٌ عن مواقعة سيدته.
وهي، من ناحيتها، كانت تعلم هذا حق العلم، ولهذا عبر عنه التنزيل العزيز: ﴿بِمَكْرِهِنَّ﴾ فهو من اعتقادها. فلهذا ﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾.
ولقد ظننتُ أنّهن لَبَّيْنَ الدعوة مشوقات، فهن شديدات التوق لرؤية الفتى.
فأرادت أمراً، وأراد الله أمراً. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف/21).
﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾: فجهزت لهنّ الأَسِرَّةَ والفُرُشَ اللاتي يتكئن عليهن، شأنَ هذا الصنف من المخلوقات، في مثل هذه البيئة من البيئات.
﴿وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً﴾: وها هنا قفزة في الزمن، واختصار لكثير من مشاهد العرض، فهي أرسلت إليهنّ، فصرنَ الآن على المتكآت، أمامهن أصناف الطعام والفواكه، وبيدِ كل واحدة منهن سكيناً، تقطع بها الفواكه والأطعمة المنوعة.
ويمكننا الآن تصور وقوفها على رأسهن ترحب، فما إنْ بدأنَ في الأكل، حتى قالت بصوتها الملكي، وهي تحق في وجوههن واحدة واحدة، بكثير من التشفّي:
﴿اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾. فخرج فتى أوتي شطر الحسن، جماله يكسف جمال القمر.
يمكننا الآن تَخَيُّلَ الوجوه المشدوهة، لكنها الآن لم تعد تلك الوجوه المتشهّية. ولقد أغرق مفسرون في وصف شهوتهن وما فعلت، ولا أرى المشهد هكذا، بدليل قوله تعالى:
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ أي: صار في أعينهن كبيراً متعالياً عن الخَنَا. ويبدو لي أن هذه الدهشة، وهذا التأمّل السماويَّ، في فتى سماويٍّ، هو ما غَيَّبَ عنهن الوعي حتى
﴿قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾: بدل الفواكه، أي: أصبن أيديهن بالجروح.
وقد أعرضنا هنا عن سخف القول، مما نقله مفسرون بأسانيد غير صحيحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قوله: ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾، نرى أنه لا يليق، لِفُحشه، وتعارضِه البَيِّنِ مع ظاهر قوله تعالى: ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾.
وما ذهبت إلى أنه كان تأملاً سماوياً، إلا لما أنطق الله ألسنتهن من قولهن:
﴿حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾: أي: حاشا لله أن يصدر عن مثل هذا الخنا أو ما يقاربه، فمثله ليس بشراً، بل أجدر به أن يكون ملاكاً كريماً، لا يصيب ما يصيبه البشر.
ومنذ الآن سنرى أن نسوة المدينة ينحزن إلى جانب يوسف في طهارته. ويبدو أننا سوف نرى أثر ذلك في قادم الأيام.
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴿32﴾
﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾:
الفاء في ﴿فَذَلِكُنَّ﴾ هي الفصيحة. واسم الإشارة يحيل إلى الفتى تخاطب عنه النساء. وقد قالت: ﴿فَذَلِكُنَّ﴾ بنون النسوة. ولو قالت: «فذلك» لجاز من حيث اللغة. وقد رأينا الآيات ـ في مواضع أخرى ـ تقابل هذا حين تشير إلى رجل فتقول: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ (البقرة/232) ولو قالت: «ذلك أزكى» لجاز كذلك من حيث اللغة.
لكن إضافة النون إلى خطاب النسوة، مقابل إضافة الميم إلى خطاب الرجال، هو أزكى وأحلى، من حيث الجمال. فإن أحببتَ أن ترى مزيداً من ذلك، فتأمل في تتابع النون في قولها: ﴿فَذَلِكُنَّ﴾ و﴿لُمْتُنَّني﴾، تَرَ بلاغاً من نوع آخر: بلاغاً من لهجةٍ لها تاريخ، ومُنَبَّرَةٍ بنوايا ورطانةٍ موسيقيةٍ من أطراف أفواه نسوةٍ مترفات، لا شغل لهنّ غير تنميق الكلام. كل ذلك تعرضه الآيةُ دون المعاظلةِ المعهودة في توالي الحروف من المخرج الواحد.
فلما ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ لقد تباهت عليهن ـ إذ رأتهنّ وقد قَطّعن أيديهن لجماله ـ بأنها كانت معذورةً في مراودته عن نفسه، فلم تقل: «فهذا الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ» بل قالت: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾: من حيث أشارت إليه باسم الإشارة للبعيد: «ذَلِكُنَّ» ـ مع قرب المشار إليه وحضوره ـ تعظيماً له، فكأن قد قالت: «أرأيتكُنَّ هذا النجم المتعالي، فهو الذي ﴿لُمْتُنَّنِي﴾ أنْ راودتُهُ عن نفسه، فانظرنَ الآن أيُّكُنّ تستطيع رؤيته ثم لا تشتهيه»؟
ولا تقول امرأةٌ مثلها هذا، إلا وقد رأت اعتراف أعينهنّ بجماله. فكأنّها تشجعت فاعترفت بما فعلت، دون أن تعلم أن الله عزّ وجلّ، هو الذي أنطقها ببراءة يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون وعي منها، لينتفع يوسف بما نطقت بعد سنوات، حين يفتح الملكُ ملف القضية من جديد، ويستدعي النسوة للشهادة، فيشهدن بما سمعن من امرأة العزيز.
ثم قالت: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾:
الفاء في ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾ عاطفة. وقال بعضهم استئنافية. والسياق يأباه. و«اسْتَعْصَمَ»﴾ فعلٌ ماضٍ زيدت فيه حروفٌ ليزيد في المعنى، حسب القاعدة التي تقول: «إن زيادة المبنى تفيد زيادة المعنى»؛ كما في قولهم: «استمسك بالشيء»، و«استجمع أمره». فصار «اسْتَعْصَمَ» بناءَ مبالغة، يدلُّ على الامتناع البليغ، والتَّحَفُّظِ الشديد.
فكأن قد قالت الآيةُ: «فاستمسك بالعصمة»، إن كان قد أوتيها من قبل، أو: «فطلب العصمة» إن لم يكن قد مُنحها بعدُ. ثم قالت وهو يسمع: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾:
ولا ريب أنّها كانت، بهذا التصريح، ترغب في تليين عريكة فتىً، استعصم منها بالله، رغم كل كيدها، وذلك لِما ترجوه من أنّ استماعه لتصميمها، يوشك أن يُلَيِّنَ من عريكته.
لكنّ لغتها ـ التي صاغها التنزيل العزيز ـ تفضح لوعتها أكثر مما تشير إلى تصميمها، فهي إذ تقول: ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ تشي بأنّ عزمها على سجنه، أقوى من رغبتها في إيقاع الصَّغار به: فأنت ترى أنها استعملت نون التوكيد الثقيلة في قسمها حين قالت: ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾ لكنها حين توعدته بالصَّغار أقسمت بنون التوكيد الخفيفة فقالت: ﴿وَلَيَكُونَنْ﴾ فكأن خُيِّرَتْ بين إبعاده وإهانته، فلم يهن عليها إهانته، فاختارت إبعاده مؤقتاً.
فما أعظم هذا الحب، لو أنّه كان في غير معصية! ويبدو لي أن هذا الشعور منها، هو ما أغوى الشعراء باختلاق القصص في عرض محبتها، ونوالها يوسف بالحلال، آخر الأمر. ولمن أراد استماع قصص القُصّاصِ، فالوعّاظ الحمقى متوفرون بكثرة.
وليت الأمر توقف عند أكاذيب القُصّاص، وما تعدّاه إلى أقوالٍ قبيحة، في حق نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم، نسبوها إلى بعض آل البيت ـ حاشاهم عليهم السلام أن يقولوها ـ بل ألقاها على ألسنتهم محترقو التشيع، قاتلهم الله، كالسُّديُ وأضرابه، مما نقله عنهم المفسرون غفر الله لهم، ويخشون أن ينسبوا أقل منه إلى صاحب السرداب. حتى قال صاحب روح المعاني رحمه الله: “وليت السُّديَّ لو كان قد سَدَّ فاه عن قوله: ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾ فاستعصم بعد حل سراويله”.
كيف، ويوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عباد الله المُخْلَصين؟ أليس قد قال الله فيه: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف/24). فكيف أمكن لكذوبٍ، أن يزعم أن الله تخلى عن عباده المُخْلَصين، فألقاهم طُعمةً لإبليس، وإبليس ـ نفسه ـ يعترف بأنه لا يستطيع الاقتراب منهم، كما أعلن ذلك من قبل حين قال: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴿40﴾ (الحجر/39 ــ 40)؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴿33﴾ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴿34﴾ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴿35﴾
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾: هكذا العبد المؤمن: لا يُخَيَّرُ بين أمرين إلا اختار أرضاهما لله. فلما أن سمع بتصميمها على إخضاعه لشهوتها الخؤون، استعصم بربِّه. فكأن قد قال: «يا مولاي، إن كان لا بد لي من حبِّ واحدٍ من أمرين، فإني أحبُّ ما يرضيك ولو كان السجن».
ولا يقول وليٌّ: «يا مولاي» إلا استجاب، فكيف بنبيّ!
وفي صحيح البخاري، عن عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ قال: “لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ ـ يَوْمَ الْجَمَلِ ـ دَعَانِي. فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ. فَقَالَ: يَا بُنَيِّ، إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ. وَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُوماً، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي. أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئاً؟ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا، فَاقْضِ دَيْنِي… فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ، بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ… فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ، وَيَقُولُ: يَا بُنَيِّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ، فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ، حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ، مَنْ مَوْلَاكَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلَّا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ، اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ. فَيَقْضِيهِ”.
فانظر كيف يغيث الله مواليه!
وقد كان يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ طوال ذلك يستعصم بكل ما أوتي من قوة، فينجده الله صريحاً، كما رأينا ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف/24).
لكنه الآن يبدو شاعراً بأن كل ما يملك من قوة، لا يكفي لصدّ هذا الطوفان من العهر المسلح. فكأنْ قيل له: «لا بد من اختيار النار أو العار»، فقال: «النار»!
فيا لفتى يواجه نار شبابه، ونارَ امرأة جميلة تملك المال والجمال والسلطة وقوة الرغبة والتصميم!
فلم يكن ليوسف اليوم إلا مولاه. ولقد كان له دوماً منذ «الجُبِّ» إلى «هَيْتَ لك». لكنه الآن يقول ما ألهمه الله أن يقول، تعليماً لأجيال قادمة لا تملك قداسة الأنبياء. ولقد أفِكَ خَرّاصون قالوا إن يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَطِئَ طريقَ القول، إذ اختار السجن على الفتنة، ولم يطلب العفو والعافية.
فلا حول ولا قوة إلا بالله. وبراءة إلى الله من قولٍ يقول إنّه يعلم أكثر من الأنبياء.. فإن كان دعاء يوسف هذا طلباً للعصمة، فواضح أنه لم يكن قد صار نبيّاً بعدُ. وإن كان معصوماً من قبل ـ كما يرى بعضهم ـ فهذا منه استمساكٌ بالعصمة التي لديه، أنْ تَتَفَلَّت منه. وفي كل ذلك تبرؤُ من الحول والقوة، ونسبةُ ذلك إلى مولاه، فكأنه يقول: «كما عصمتني من قبل، فاعصمني اليوم؛ وإلا أصابني كيدهنّ».
﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾: في ذلك شرط وجوابه. فالشرط: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ والجواب: ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾. والفعل: ﴿أَصْبُ﴾ مضارع مجزوم، لوقوعه في جواب الشرط. وهو مأخوذٌ من «الصَّبْوة» التي هي أفعال الصِّبا. ذلك أنّ الصِّبا مظَنَّةُ التسرّع والجهل والوقوع في المعصية، كما في قوله: ﴿وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، ألم تَرَ ما في قول دريد بن الصِّمّة، من الإشارة إلى هذا المعنى، في رثائه لأخيه عبد الله:
صَبا ما صَبا، حتى علا الشيبُ رأسَهُ
فلما عَلاه، قال للباطلِ: ابْعدِ
فكان في عطف الجهل على الصبوة استعاذةٌ من كليهما، بقوة ما هو ارتباطُ الجواب بالشرط. وفيه إشارةٌ إلى أنّ العبد مُعَرَّضٌ للمعصية تُصيبه، إن لم يصرفها ربُّه عنه. وفيه كذلك بيانٌ بضرورة عظيم المجاهدة، في مواجهة عظيم الكيد.
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾: الفاء في قوله: ﴿فَاسْتَجَابَ﴾ للتفريع: إذ الاستجابة محتاجة إلى الدعاء، وتأتي بعده. وكذلك الفاء في قوله: ﴿فَصَرَفَ﴾ إذ الصرف محتاج إلى الاستجابة: فلولا أنه دعا ربه لما استجاب، ولولا أنه استجاب ـ سبحانه ـ لما صرف عنه كيدهنّ.
ثم إنه ـ سبحانه ـ قرن استجابته دعاء عبده، بتشريفٍ دونه كلُّ تشريف، إذ نَسَبَهُ إلى نفسه فقال: ﴿رَبُّهُ﴾ فركّز على حضور الربوبية، عند دعاء العبد مولاه. فالربّ راعٍ وحامٍ كما هو خالقٌ وطاعمٌ. فكما دعا العبدُ اللهَ، أجابه اللهُ، بأني: أنا ربك أسمعك، وأَكُنْ إلى جانبك.
فسبحان الله وتقدست أسماؤه!
فإن عجبتَ من تفريع الاستجابة على الدعاء، فاعجبْ أكثر حين تَذكُر اشتراط أحدهما للآخر، في قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر/60). ثم ازددْ عجباً وأنت ترى في تمام الآية قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ الذي يقول: إنّ عدم الدعاء عند اقتراب البلاء معصية، فإن كان الإعراضُ عن الدعاء استكباراً، فهو كفرٌ أكبر يُخرج من المِلّة. استَعَنَّا بمولانا أن يصرف عنا السوء.
﴿فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾: ولقد صرف عنه كيدهن قبل أن يدعوه ـ لما كان في علمه سبحانه أنه سيدعوه ـ من لحظة أن نطقت قلوبهن قبل ألسنتهنّ: ﴿حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾. فأنت ترى الفاء تفيد سرعة الصرف فور الدعاء.
قلت: وإذ ﴿صَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾ كان هذا ـ عندي ـ بداية انصراف النسوة عن الكيد ليوسف صلى الله عليه وسلم: فما بقي منهن من تكيد له سوى امرأة العزيز، لِما في قلبها من التصميم على نوال الوصال. ثم صرف عنه كيدها، بأن وَجَّهها إلى طلب سجنه، لما في تقدير الله من فوائد هذا السجن، لكلٍّ من يوسف، ودعوة الله، وبني إسرائيل، والشعب المصري.
فسبحان من جعل في باطن عسرِ يسراً!
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾: تعليل للاستجابة. وكيف لا يستجيب من كانت أسماؤه تدلُّ عليه، أليس ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ اسمين من أسمائه سبحانه، يليقان بقوله: ﴿فَاسْتَجَابَ﴾: فالله إذ سمع دعاء نَبِيِّهِ، وعلم صدق شكواه، استجاب له ﴿فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾.
بقي توجيه ضمير الجمع في قوله: ﴿يَدْعُونَنِي﴾ وقوله: ﴿كَيْدَهُنَّ﴾ وقوله: ﴿إِلَيْهِنَّ﴾؛ وقد مِلْنا من قبلُ إلى أن النسوة ـ باستثناء امرأة العزيز ـ لم يَعُدنَ يشتهين يوسف، من بعد ما ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾ وقلن: ﴿حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ فما هذا قول نسوةٍ مُتَشَهِّيات.
وعندي أنّ المقصود بضمير الجمع هنا، كيد النساء عموماً: إذ عًلم نبيُّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبلُ، حقيقةَ ما قاله القائلُ الذي شهد الوقيعة أوّل مرة: ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ (يوسف/28). ولم تكن من ثَمَّ جمعيات نسوان يعترضن على قول الله.
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾.
وذلك هو دَيْدَنُ الحاكمين في كل زمنٍ، إلا من عصم الله! وما عصم الله من الحاكمين إلا القليل: يفسقون ويفسدون، ثم لا يكون لهم من هَمٍّ سوى الشكل الخارجي. ولم أقرأ في التاريخ حكاماً فاسدين ـ حاشا نيرون ـ لم يهمّهم الشكلُ الخارجيُّ إلا في الشرق، وفي العصر الحديث. ولم أعلم حكاماً استهانوا بالشكل، استهانةَ السلطتين في الوطنين الفلسطينيين: ابتدأ ذلك من يوم أن رأينا القادمين بعد أوسلو، أشكالَ مخلوقاتٍ لا تشبهنا. ثم ها نحن نرى السلطتين حكمين قاصرين، لا يهمهما القصور ولا فضيحة القصور، مهما قيل.
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فأما الكافرون من حكام مصر، في ذلك العصر، فقد اهتموا للشكل، ولم يقبلوا بأن يُقال: إنهم يشجعون العهر، فقرروا كتم ما قيل بسجن البريء.
لقد سامحوا العاهر، وطلبوا من البريء المعهور به أن يصمت، رجاء الحفاظ على الشكل. فلما ظهر قبحُ الشكل ـ بكثرة الحديث في صالونات «الطبقة المخملية» ـ كان لا بد من عقوبةٍ، تصرف الناس عن تذكّر ما فعل العاهر، بالتأمل في مصير المعهور به، لعل الناس يرتدعون.
أما الزوجُ فلا أظنّ أن شرفه آلمه، من بعد هذا الـ﴿حِين﴾ الذي فصل بين سجن يوسف وظهور براءته. فإن كان كبيرُ الوزراء عِنّيناً، فقد كان قميناً به أن يدحض شائعات الطبقة بسجن يوسف، أنْ يُقال بأن بيت عزيز مصر تحول إلى ماخور.
نعم هكذا هو الأمر عند هذه المخلوقات: فليكن ماخورٌ، ولكن يجب أن لا يعلم الناسُ أن بيت كبير الوزراء ماخور!
نعم قد سجنوه ﴿مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ﴾ الدامغة على براءته. سجنوه بعد مدة من ظهور براءته. ألم نقل: إنه لا قيمة للبراءة في حكم الفاسدين، إلا إذا ساعدت الفاسد على التَّزيُّد من فساده؟ فإن شككتَ في صدق ما نقول، فانظرْ حولك تعلمْ حقيقة ما نقول.
و﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر/14). فانظر ما كانت النتيجة؟ خرج يوسف من السجن، وورث منصب العزيز، وربما امرأته إن صحت الأقاصيص.
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴿36﴾
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ﴾: هكذا هو الأمر في التعبير، كما هو الحال في الواقع: فالمسيطرون يحكمون، فيصير أمرهم واقعاً بمجرد النطق به. وتلكم بلاغة الحذف في الحكاية: حيث نرى الإجراءات المتبعة تتم فور تهديد السيدة، حتى إننا لا نسمع الأمر الصادر بالسجن، بل نرى الخاضع في السجن. وذلك فساد منظومة حكم، يستدعي من الله عقوبةً سريعة، على نفس الوتيرة، في كل من الواقع والسرد؛ فنرى السنوات تمرُّ كالكلمات، ونرى السيدة تتحول إلى خاضعةٍ، تقول أمام الملك: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ (يوسف/52)، ونرى الفتى يتحول إلى سيّدٍ عند ملكٍ يقول له: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ (يوسف/51).
إنها بلاغة السرد والمعنى والعاقبة!
﴿قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ﴾: في جملة: ﴿أَعْصِرُ خَمْراً﴾ مجاز مرسل علاقته ما سيكون، وإلا فالخمر لا تُعصر، بل تتحول من عصير العنب. فالرجل كان في الرؤيا يعصر العنب المعدّ ليتحول إلى خمر. وقد صار يوسف الآن في السجن، مدة كافية لأن يرى فيه زملاءُ السجن مخايلَ الصِّدّيقين، فيسألوه تعبير رؤاهمٍ.
ولسنا مضطرين إلى الظنِّ بأن هذين الفتيين هما كلُّ من عَبَّرَ له يوسفُ رؤياه، وإنما نراهما مثالاً يُعرض هنا، لما له من علاقة بما سيحدث من بعد. وإلا فكم من رؤية عبّرها يوسف لمن حوله، دون أن يحتاج منطقُ الحكاية إلى عرضه!
فأما الأول فقد رأى نفسه يعصر العنب للخمر، وأما الثاني فرأى الخبز فوق رأسه تنقر منه الطير. ثم اختصرت الحكاية طلب كل منهما فدمجته في طلب أخيه، فقالت معنى الطلبين: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
والتَأْويل: كلمة تجمع بين أوّل الشيء وآخره. فكأنْ قد قضتْ طبيعةُ الأشياء رجوع كلٍّ إلى مُبْتَدَئِه، كما يشي بذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾ (الفجر/28). وقال الراغب: “التأويل من الأَوّل، أي: الرجوع إلى الأصل. ومنه الموئل للموضع الذي يُرجَعُ إليه. وذلك هو ردُّ الشيء إلى الغاية المُرادة منه”.
قلت: هذا هو معنى الكلمة في أصل الوضع، وهو يضيء المعنى هنا، فالتأويل في الآية هو كما يقول الجوهري: “تفسير ما يَؤُولُ إليه الشيء”. وعلى أي الوجوه قلّبتَ الكلمة، كان معناها: الذهاب إلى غير الظاهر، أو محاولة الغوص فيما قيل، لمعرفة ما وراءه مما لم يُقل. فتفسير القرآن تأويل، ومغادرة المعنى الظاهري في نصٍّ، إلى ما وراءه من الاحتمالات، تأويلٌ. وتعبير الرؤيا تأويلٌ، إلخ.
وهذان الفتيان مؤمِنَيْن بأنَّ الأحلام إشاراتٌ لما سيكون. وقد صدقا، فقد علمنا أن “الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنْ النُّبُوَّةِ”، كما عرضنا ذلك في الحديث النبوي من قبل. ولا عبرة بما يحاول تكذيبه علمُ النفس من الحقائق. فَقَلَّ أنْ وُجد شخصٌ لم يَرَ في منامه ما تحقّقَ من بعدُ في الواقع.
لكن يجب الاعتراف بأنْ ليس كلُّ ما يُرى في النوم رؤيا، فكثيرٌ منه أضغاث أحلام لا معنى لها، وكثيرٌ منه تنفيسٌ عن بعض المكبوت في أعماق اللاشعور، يريح الشخص من ضغط نفسي، يمكنه أن يتسبب بحالات من العُصاب المنفلت. وليس كل ما يقوله علم النفس باطلاً، كما ليس كل ما يقوله حقاً.
وقد رأينا في بداية السورة رؤيا يوسف الصبي، التي أمره أبوه أن يكتمها عن إخوته، وذلك لِما علم يعقوبُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تأويلها، وما يمكن أن يثيره معناها من الحسد في قلوب إخوته.
فيوسف ـ الذي علّمه الله من تأويل الأحاديث ـ الآن في غرفة السجن، معروف لمن حوله بقدرته على تعبير الرؤيا، ولذلك فهم يسمونه الصّديق، كما سنرى في قابل الآيات. والفَتَيانِ يرغبان في تعبير ما رأيا في مناميهما. ويوسف يستغلّ هذا الشوق منهما، ليبثَّ دعوته ويبلّغ رسالته، فيقول:
لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴿37﴾ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴿38﴾ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴿39﴾ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴿40﴾
فهو الآن يعلن البلاغ بأنه يعلم هذا من الله، وأن الله الذي يؤمن به هذا الفتى الآسيوي؛ هو الواحد الأحد لا شريك له، الذي أرسل الأنبياء برسالة التوحيد، وأن بعض هؤلاء الرسل هم آباء هذا الفتى.
هكذا يبدأ الفتى ببيان معنى الإله والتوحيد والاتباع، قبل أن ينطق بحرف في تفسير الرؤيا (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴿41﴾ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴿42﴾
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾: مناجاة رقيقة من نبيٍّ رقيق لصاحبيه، بالصفة الجامعة بينهم: صحبةِ السجن. ولا يعرف قوة صحبة السجن إلا من سُجن. ولقد سُجنتُ مع غيري في سجون الصهاينة، فلا والله إنْ رأيتُ أقوى صحبةً ولا أخلص، على اختلافنا في السياسية؛ لم يشذَّ من ذلك إلا صحبةُ متدينين غادرتُ تنظيمهم، لكنْ لا يُقاس على هؤلاء بشر.
وبعد أن دعا يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحبيه إلى الله، شرع في تعبير ما رأيا، وبدأ بصاحب الرؤيا الصالحة ـ استبشاراً ـ فقال: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً﴾: وهو الذي رأى في منامه أنه يعصر ﴿خَمْراً﴾. و﴿رَبّهُ﴾ هنا هو سيده. والمقصود الملك. فقال له بأنه سيخرج ويصير ساقي الملك. ثم قال: ﴿وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾، وهو الثاني الذي رأى نفسه يحمل فوق رأسه ﴿خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ﴾. ثم قال: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾: أي: وقع الحكم من الله، والقضاء بما أوَّلتُ به ما رأيتما. ولعل ذلك يقضي ـ وفق مفهوم المخالفة ـ بأنه لو لم يُؤَوِّلِ الرؤيا، لما ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾.
وفي الآية حذف، مقتضاه أنه حاول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إقناع «حامل الخبز» بألّا يُصِرَّ على تعبير رؤياه، فأبى إلا تعبيرها ـ والأحمق عدو نفسه ـ فعبّرها له نبيُّ الله، فوقعت. وقد علمنا من رسولنا الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّ الرؤيا لا تقع، إن لم يتم تفسيرها. والمظنون بنبيّ الله يوسف، أنّه حاول الامتناع عن تفسير رؤيا «حامل الخبز» لكنّه استعصم بما طلب.
ولطالما رأيتُ حمقى وحمقاوات، يصرّ واحدهم على حكاية ما رأى ـ مما يكره سامعٌ ـ وتعبيره. فيقع. وهؤلاء من أشأم ما رأيت، مخلوقات مقبوحة في هيئات عابدين، مهما أمرتهم بالصمت أصروا على الكلام: فهم يقترحون على أنفسهم أنهم ذوو علم وكرامات. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ. فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئاً يَكْرَهُهُ، فَلْيَنْفِثْ ـ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا. فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ”.
فلو لم يُحَدِّثْ «حاملُ الخبز» أحداً بما رأى، لما وقعت رؤياه. ولكنَّ قضاءَ الله يجد لنفسه أسباب الوقوع. وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “رؤيا المسلمِ جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النُّبُوَّةِ، وهي عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ، مَا لَمْ تُعَبَّرْ. فَإِذَا عُبِّرَتْ”. وفي بعض الروايات: “على رِجْلِ طائرٍ ما لم يُحَدّثْ بها، فإذا حَدّثَ بها وقعت”.
فقوله: “على رِجْلِ طائرٍ” هو من بلاغة الذي أُوْتِيَ جوامعَ الكَلِمِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جَرَتْ مجرى الأمثال. فهو كنايةٌ حملت في ثناياها أحسن التشبيه: فالرسول في هذا الحديث، يُشبّهُ الرؤيا بشيء محمولٍ في مخلب طائر؛ فلا يفلت منه، إلا وقع واستقرّ.
قلت: ويُحمل «التحديث» في الرواية الثانية على «التعبير» في الأولى، جرياً على ما تعوّد عليه الناس، من أنّه لا يُحَدِّثُ أحدٌ بما رأى، إلا انبرى له من يُفسّر له ما رأى. ولهذا نهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرائي أن يُحَدِّث من يكره بما رأى، فقال ما رُوِّيناه في صحيح مسلم قبل قليل: “ولا يُحَدِّث بها الناس”. بل “لينفُثْ عن يساره ثلاث مرات، ولْيَسْتَعذْ بالله من شرّها، فإنّها لا تضره”.
وفي صحيح الجامع من قوله صلى الله عليه وسلم: “ولا تُحَدِّثْ بها إلَّا لبيباً أوْ حبيباً”. قلت: ذلك أنّك إن حَدَّثت بها أحمقَ أو عدواً، يوشك أن يُعَبِّرها لك فتقع.
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾:
﴿ظَنَّ﴾: الظن من الأضداد، يفسره سياق ما يُقال فيه:
1: فهو غالباً: توقع مشوب بانعدام اليقين. كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴿78﴾ (البقرة/78).
2: وهو أخرى: اعتقادٌ يقيني، كما هو هنا. فقوله هنا ﴿ظَنَّ﴾ أي: اعتقد يقيناً، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة/45 ــ 46).
فالظن هنا يرادف العلم في قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (محمد/19).
ولما كان الأنبياء بشراً يُلقون في الجُبِّ، وتراودهم النساءُ فيهمّون بهنّ، لم نستغرب أن يقول يوسف لصاحبه: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾. ومعناه: ستخرج وتصبح ساقي الملك، فلا تنسَ أن تخبره بما تعرضتُ له من ظلم.
﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾: قال بعضهم: إن الضمير ها هنا عائد على يوسف، إذ هو الذي أنساه الله ذكره، عقوبةً وتأديباً، وزعموا أنه لو استغاث بالله ـ بدل الملك ـ لأسرع له ربه بالغوث. ورووا في ذلك حديثاً لا يصح عن رسول الله. والحمد لله. وهذا القول مروي ـ كذلك ـ عن قتادة، ومجاهد، ومالك بن دينار. واختاره شيخ المفسرين.
وقال ابن إسحق صاحب السيرة: إن الضمير يعود على الْفَتَى: “نَسِيَ تَذْكِرَةَ الْمَلِكِ، فَدَامَ طُولُ مُكْثِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ (يوسف/45)”.
قلت: والقلب يرتاح لما قاله ابن إسحق، لأنه أليقُ بمقام النبوّة، والدليلُ من القرآن معه، كما بَيَّنا إن شاء الله.
﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾: هذه الجملة في مقام تعليلِ بقاءِ يوسفَ في السجن، إذ هو نسيانُ الساقي ذكر أمره للملك؛ لا نسيان النبيِّ ذكرَ الله. كلا وحاشا وأستغفر الله.. المرويُّ عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن البضع دون العشر. والعرب تقول ذلك.
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴿43﴾ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴿44﴾ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴿45﴾
السرد هو المعنى في الحركة. ونحن نشهد هنا حركةَ انتقال من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى آخر. وفي هذا الانتقال صورٌ يضمرها الخطاب، بما يؤدي إلى كثافة المعنى. فقبل قليل كنا في السجن مع يوسف وصاحبيه. والآن نحن في قصر الملك. وذلك جزء مما تفرضه اللغة على كل كلام، مما يتجاوز الافتراضات المنطقية في ضرورة المساواة بين الكلام والعالم، إذ يقفز الحطاب هنا في المكان والزمان، ويعيد صياغة الكلمات بما يقتضيه أسلوب العرض.
والحقيقة أن كل قصٍّ هو أسلوب. ونحن هنا بين يدي أسلوب لا يضاهيه خلق، مما صار يُسَمَّى ما يحتذي حذوه من كلام الناس: بـ«تقنيات العرض».
لقد أسدل العرضُ، في الكلمات التي سبقت هذه، الستارَ على يوسف وصاحبيه في السجن. ثم ها هو ينتقل بنا الآن إلى قصر الملك، في زمن يتلو ذلك بمدة، هي التي استغرقها خروج الساقي من سجنه، إلى توظيفه ساقياً في قصر الملك، إلى زمن الرؤيا.
يفترض العرض اللغوي فينا، الآن، القبول بمقتضيات هذا الإيهام الخطابي؛ بما يقضي بانتقالنا بمشاعرنا من الإعجاب بيوسف، الذي تركناه في السجن قبل لحظة؛ إلى الرهبة من الملك، الذي نحن الآن في قصره.
بمعنى آخر: إن علينا أن نجلس في مجلس الملك، مع حاشيته، لنسمع ما يقول، مع أننا نمتلك معرفة أكبر من التي تمتلكها الشخصيات، الملك وحاشيته؛ بل والساقي الذي لا يعلم ما نعلمه نحن من الأسباب الحقيقة وراء سجن يوسف.
يقول الملك: ﴿إِنِّي أَرَى﴾: فهو ليس مجرد «رأى» من أفعال الماضي، بل هو «يرى» من أفعال المضارع، بما بشير إلى استمرارية ما «يرى»، مما يُغَلِّب على ظَنِّنا أنه الآن يكرر ما قاله للحاشية من قبل، في رؤيا لا يزال يراها تُلحُّ عليه فتتكرر أكثر من مرة. من الواضح أنها يراها نبوءة تحذيرية، لا تَتَنَبَّهُ لخطورتها الحاشية: لا لأنهم لا يفقهون، بل لأنهم لا يعلمون الإجابة. وكثيراً ما استغلق المعنى على من لا يعرف الرد.
فماذا يرى؟ يحكي ذلك التنزيل العزيز، فيقول على لسانه مما كان بلغته، فصار الآن من لغتنا، للبيان: ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾:
وإن العالم الواقعي لا يشهد بقرات عجاف يأكلن السمان، فإن كان لا بد من تَخَيُّلٍ فالعكس هو الصحيح: سبع بقرات سمان يأكلن سبعاً عجافاً. لكن ذلك في الرؤيا لا يحدث، مما يجعل الحاشية الحمقاء لا تصدق أن هذه رؤيا. ولكي يدحض التنزيل ما بمكن أن يقوله حمقهم ـ وقالوه ـ فهو يعيد الكرة بعرض صورة أشد غرابة، لسبع سنبلات يابسة يأكلن أمثالهن من السنابل الخضر.
فماذا يجري هنا؟ يبدو لي ـ ولست أعلم في تعبير الأحلام حرفاً ـ أن الرؤيا المنصوصة في اللغة هنا، تريد أن تقول: لا تتسرعوا فتقفوا عند الظاهر، فلئن أمكن لحيوان أن يأكل حيواناً، فلا يمكن أن يأكل نباتٌ نباتاً، فإن كان يمكن تَخَيُّلُ ذلك كذلك؛ فلا يمكن أن يكون النباتُ الآكلُ يابساً، والمأكول أخضرَ.
الآن نعود إلى تأمل البقرات العجاف يأكلن السمان. لقد قضى مشهد السنابل ذلك ولا بدّ.
الملك يسأل قلقاً. والحاشية لا تجد ما تقول. ونحن هنا ـ على غير العادة ـ نرى ملكاً أفقه من حاشيته، ويسألهم: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾:
فهو لم يطلب رأيهم فيما لا يعلمون، بل يطلب رأيَ من يعلم. لكنهم لا يعلمون، فيهربون ـ شأن كل ضابط تحقيقٍ مُرتشٍ في سلطتينا ـ إلى محاولة تقييد القضية ضد مجهول، كما تعرضهم الآية في قوله تعالى:
﴿قالوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾:
والأضغاث جمع ضغث. قال الزّجّاج: “والضِّغثُ في اللغة: الحُزْمة والباقةُ من الشيء، كالبقل وما أشبَهَهُ. فقالوا له: رؤياك أضغاث أحلام، أي: حُزَمُ أخلاطٍ ليست برؤيا بَيِّنَة”.
فكأن ما رآه الملك ـ في نظر الحاشية ـ لا يعدو شيئاً مختلطاً لا قيمة له، ولا داعي لأن يقلق له «جلالته».
فانظر إلى ردٍّ يليق مستوى من يتّخذهم ولاةُ الأمر عندنا حاشيةً لهم: إذ يوشك جهلهم ونفاقهم، وحرصهم على التفرّد بصحبة الملك؛ أن يوقع المصائب بالبلاد. فهم لم يقولوا: «دعنا نأتِك بالمختصين»، بل صرفِوا نظره عن بحث السبب، فأوشكوا أن يوقعوا بالأمة والملك المصائب، لولا أن الله أراد بمصر والإقليم ويوسف خيراً.
فإن قارنتَ هذه الحاشية الفاسدةَ لملكٍ صالحٍ، بحاشية فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى؛ تبيّن لك أن حاشية ملك كافر، تستطيع أن تكون أدنى فساداً من حاشية ملك صالح، وأقلّ انحطاطاً: فحاشيةُ فرعون نصحوا له حين استشارهم في أمر موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: ﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ (الأعراف/111 ــ 112). وأما هؤلاء، فغشّوا الملك، خشيةَ مزاحمةِ مستشارٍ جديد. فانظرْ هذا، وقارنه بما ترى من ولاة أمورنا ـ في الوطنين الفلسطينيين ـ تعرفْ بعضاً من أسباب مصيبتنا.
لكن فتىً ليس منهم ـ مجرد خادم من أدنى درجات المجتمع في نظر الأوغاد ـ انبرى للتدخل على غير العادة، بما قاله التنزيل العزيز: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾
والضمير في ﴿مِنْهُمَا﴾ يعود على الفتيين. وفي معنى ﴿ادَّكَر﴾ قال العلّامة ابن عطية رحمه الله: “تَذَكَّرَ، أصله: «ادَّكَر»: افتعل من الذِّكْر، قُلِبَت التاءُ دالاً، وأُدغِمَ الأولُ في الثاني، ثم بُدِّلَتْ تاءً غير منقوطة، لقوّةِ الدال وجَلَدِها.
قلت: ومن ذلك ما تكرر ست مرات في سورة القمر من قوله تعالى: ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾؟ أي: فهل من «مُتَذَكِّرٍ»؟
و﴿أُمَّةٍ﴾: تُقال للجماعة من الصنف الواحد، من البشر وغيرهم. وهي مجاز من «الحين»، أي: بعد انقضاء صنف. والمقصود: المدة من الدهر.
وأما الواو في قوله: ﴿وَادَّكَرَ﴾، فقال الجمهور: عاطفة. ورجّح السمين الحلبي أنها للحال. وهو ما تطيب له النفس إن شاء الله، فكأن قد قال: «وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا، وقد تذكر بعد حين: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ» أي: فدعوني أذهب لأعلم لكم تفسيره.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴿46﴾ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ﴿47﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ﴿48﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴿49﴾
قبل قليل كنا في قصر الملك، والساقي يعرض خدماته عليه بتأويل رؤياه. ثم ها هو الآن يناجي يوسف في السجن. وقد سبق أن قلنا، بأن هذه إحدى تقنيات العرض اللغوي، التي تقتضيها السرود حين تقص حكاية. وكلنا يذكر قصص الجدات حين كنَّ يَقُلن في تبرير انقضاء الزمن: “وابن الخُرِّيْفِة بيكبر بالعجل”.
الساقي يناجي يوسف مُتَحَنِّناً مُترَقِّقاً، كأنّه يعتذر عن نسيان ذِكْرِهِ للملك ـ كما أوصاه ـ ويصفه بـ﴿الصِّدِّيق﴾، وكان في الأوّل يصفه بالمحسن، يوم قال: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف/36). ومقام ﴿الصِّدِّيق﴾ أعلى من مقام «المحسن». فمصاحبته إيّاه سنوات السجن، ثم ظهور صحة تأويله لرؤياه الأولى، أنبأته بأنه صِّدِّيقٌ.
و﴿الصِّدِّيقُ﴾ في اللغة: “بناءُ مبالغةٍ من «صَدَقَ». وسُمِّي أبو بكر «صِدِّيقاً» من: «صَدَّقَ غيره»: إذ مع كل تَصديقٍ صِدقٌ. فالمُصَدِّقُ بالحقائق صادقٌ أيضاً. وعلى هذا سُمِّي المؤمنون «صِدِّيقين» في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ (الحديد/19)”.
ولكي يُؤَوِّلَ ﴿الصِّدِّيقُ﴾ الرؤيا تأويلاً صحيحاً، فعلى الفتى أن ينقل كلمات الملك حرفياً، حرصاً على منطق الكلمات: فلكل حرف في الرؤى معناه. والساقي لا يرغب في الحصول على تعبير رؤيا لم يرها الملك، أو رأى معناها فحسب. فقال الساقي ما صاغه التنزيل العزيز بلغتنا:
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
أي: اذكر لنا الحكم في معنى الرؤيا التي رآها الملك.
فإن سألت: لِمَ قال الساقي ليوسف: ﴿أَفْتِنَا﴾ بصيغة الجمع، مع أنه واحد؟ قلتُ لك: إشعاراً له بأنه يتكلم باسم غيره، الذين هم الملك وحاشيته.
إذن فقد كبر الصغير، وصار يتكلم بما يوحي إليه ما يراهُ منصِبَهُ. وتلك عادةُ كلِّ صغير يخدم الحاكم عن قرب. وتالله إنْ شممتُ أنتنَ من ريحِ من يخدمون أحذية الحاكم.
ورغم ذلك، فقد شاء اللهُ أن يجعل في كل شرٍّ بعضَ الخير: فنحن الآن نشهد بدايات انكشاف الضُّر عن نبيِّ الله يوسف، صلى الله عليه وسلم: ابتلاءٌ ابتدأ برؤيا، وها هو يوشك أن ينقضي برؤيا. فأعجب ذلك القشيري فقال:
“كان ابتداءُ بلاءِ يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسبب رؤيا رآها، فَنَشَرَها، وأظهرها. وكان سببُ نجاتِه، أيضاً، رؤيا رآها المِلكُ، فأظهرها؛ ليُعْلَم أَنَّ اللَّهَ يفعل ما يريد: فكما جعل بَلاءَه في إظهار رؤيا، جعل نجاته في إظهار رؤيا؛ لِيَعْلَم الكافَّةُ أنّ الأمر بيدِ الله يفعل ما يشاء”.
ولا أعلم كيف أمكن للقشيري ـ غفر الله له ـ أن يرجم بالغيب، فيقول إن يوسف قد عصا وصيّة أبيه النبيّ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ (يوسف/5) فحدّث برؤياه إخوته! لكني نقلت كلامه، لأقبلَ بعضه وأعرضَ عن بعض: فأقبلُ بجمالِ ما قيل فيما يَؤُوْلُ به آخرُ أمرٍ إلى أوَّلِهِ، وأعرِضُ عن رؤية إبليس، وقد زَيَّن لصالحي الناس أن يقولوا ما لا يعلمون. فسبحان من لم يجعل عصمةً لغير الأنبياء.
وحاصل الأمر أن الساقي طلب من يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يفسر له رؤيا الملك، فقال:
﴿أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾
ثم عَلَّل طلبه فقال: ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
فقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: “يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: يَعْلَمُونَ بِمَكَانِك، فَيَظْهَرُ عِنْدَهُمْ فَضْلُك، حَتَّى يَكُونَ سَبَبَ خَلَاصِك… وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا”.
قلتُ: ويبدو لي أن الأمرين متحققان، فهم بهذا التأويل منه للرؤيا، سيعلمون ما يُصلحهم، ويعلمون قيمة من أوَّلَ لهم الرؤيا، وقد كانوا يرونه مجرد مسجون في تهمة مُخِلَّةٍ بالشرف؛ حاشاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يظنون.
فقال نبيُّ الله يوسف صلى الله عليه وسلم:
﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾
قال جار الله، رحمه الله كلما نقلنا عنه ما نفع به الكتاب واللغة:
“﴿تَزْرَعُونَ﴾: خبرٌ في معنى الأمر، كقوله: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ﴾ (الصف/11). وإنما يخرج الأمرُ في صورة الخبر، للمبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به، فيُجعل كأنّه يُوجد، فهو يُخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمر، قولُهُ: ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾”.
و«الدَّأب» بسكون الهمزة وتحريكها: كلمة تجمع بين متلازمي العادة المستمرة، والتعب الكادح:
1: فهو عادة مستمرة، كما يقوله قول الله تعالى: ﴿كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ﴾ (آل عمران/11).
وقد قال الملك الضِّلِّيل:
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَجَارَتِها أُمِّ الرَّبَابِ بِمأْسَلِ
2: وهو التعب الكادح، بدفع العادة نحو الأعلى: لأن من أصلِ الدأبِ التعبَ والجَدَّ. قال في اللسان: “دَأَبَ فلانٌ في عَمَلِه: أَي جَدَّ وتَعِبَ، يَدْأَبُ دَأْباً ودَأَباً ودُؤُوباً، فهو دَئِبٌ… وأَدْأَبَ الرجلُ الدَّابَّة إِدْآباً، إِذا أَتْعَبَها. والفِعلُ اللازم: «دَأَبَتِ» الناقَةُ تَدْأَبُ دُؤُوباً، ورجلٌ دَؤُوبٌ على الشيءِ”.
﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً﴾: أي: متوالية متتابعة، بجَهْدٍ أشدّ مما يكون منكم في السنوات العادية. وذلك إشارة إلى السنوات السبع المُخصِبة المرموز لها بالبقرات السمان. ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾: لأن هذا يحفظه من السوس والمؤثرات الجوية. ﴿إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾: فادرسوه واطحنوه وكلوه، واحتفظوا بالبقية للسنوات العجاف.
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ﴾: لا زرع فيهن. ﴿يَأْكُلْنَ﴾: من الإسناد المجازي، حيث جعل أكل أهلهنّ مسنداً إليهنّ. ﴿مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾: مثله من الإسناد المجازي: فجعل السنوات ـ لشدة جوع أهلها ـ تأكل ما يُقَدَّمُ لها. ﴿إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾ أي: إلا قليلاً مما تحفظونه من التهام السنوات العجاف.
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾
ثم تنقضي السنوات السبع العجاف، بعد أن أكلت ما ادّخرتم، ويعقب ذلك عودة الحياة الطبيعية إلى مصر المحروسة ـ حفظها الله ـ فيغيث اللهُ الناس بخصبٍ فوق العادة، يعوض ما سبق: فتمتلئ السنابل بالحياة، وتمتلئ حبوب السمسم والزيتون بالزيت، وتتدلى العناقيد في الكروم، فيُغاث الناس بالقمح والبقول والذرة والشعير، وتمتلئ ضروعُ المواشي باللبن، فيأكل الناس والأنعام، ويعصرون الزيت والخمر واللبن.
وقال بعضهم بأن «العصر» هنا بمعنى: هطول الغيث، أخذوا ذلك من قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً﴾ (النبأ/14). ثم أنشدوا لعدي بن زيد العبادي يعتذر للنعمان:
لَو بِغَيرِ الماءِ حَلقي شَرِقٌ كَنتُ كَالغَصّانِ بِالماءِ اِعتِصاري
قلت: ولا يستقيم هذا عندي، لأن مصر بلد النيل لا مطر فيها في الغالب. وإنما الخصب هناك يكون بفيضان النهر، والجدب بانخفاض منسوبه في سنوات التحاريق.
وَهَذَا العَام، الذي ﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ لَمْ تظهر صورته في رؤيا الملك، ولم يسأل عنه أحدٌ. لكن الله أوحى إلى نبيه يوسف إجابته، ليعلم الملكُ والحاشيةُ أن لدى يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ علماً يتجاوز المعرفة البشرية، هو الوحي الذي لا تَحُدُّه الرؤى، ولا تتوقعه عقول الكافرين.
قال ابن عاشور رحمه الله:
“عبّر الرؤيا بجميع ما دلّت عليه: فالبقراتُ لسنينِ الزراعة، لأن البقرة تُتَّخَذُ للإثمار. والسِمَن رمزٌ للخصب. والعجَف رمزٌ للقحط. والسنبلات رمزٌ للأقوات؛ فالسنبلات الخضر رمزٌ لطعام يُنْتَفَعُ به، وكونها سبعاً رمزٌ للانتفاع به في السبع السنين: فكل سنبلة رمزٌ لطعام سنة، فذلك يقتاتونه في تلك السنين جديداً. والسنبلات اليابسات رمزٌ لما يُدَّخَر. وكونُها سبعاً، رمزٌ لادّخارها في سبع سنين، لأنّ البقرات العجاف أكلتِ البقراتِ السمانَ. وتأويل ذلك: أن سِنِيَّ الجدب أَتَتْ على ما أثمرته سنُوُّ الخِصب”.
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴿50﴾ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴿51﴾ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴿52﴾ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴿53﴾
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾
قد فسر رسول الله يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرسول الملك رؤياه، وزاده على ذلك النصيحة بكيفية التصرف في الأزمة، دون أن يطلب التحقيق في قضيته. فالآن يطلبه الملك فيأبى الخروج من السجن: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾؛ قبل التحقيق فيما نُسب إليه من الزور، لمعرفة الحقيقة وإعلانها على الملأ، ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾؟
وهذا الذي حدث يمكنه أن يستدعي سؤالَ: فلماذا لم يشترط ذلك حين كان في موقف القوة، وكانوا محتاجين لتأويله رؤياهم؟
ويبدو لي أن الإجابة على هذا الخاطر، تحتمل أحد قولين، أو كليهما:
1: إمّا لأنه شعر بأن البلاد مهددة بالمجاعة، التي سيعاني منها الناس، لا أهل القصور الذين ألقوه في السجن. فبادر نبيُّ الله إلى إجابة الداعي، إنقاذاً للناس من المجاعة. وربما لو كان اشترط التحقيق في قضيته، على ملك لا يعلم قدره يومذاك، لأهمله الملك، ولعمّت المجاعةُ البلاد، ولَعانى من ذلك الفقراء لا الحاكمون.
2: وإمّا لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شعر بأن الملك لا يعلم قيمته، وإنما هي تجربة يجربها ملكٌ مترف، ليرى ما لدى سجين متهم في قضية شرف. فإن أجاب السجين، وإلا فلا حاجة لملك بسجين من هذا الصنف.
فإن قيل بأن الأمرين كانا في وعي يوسف، حين أجاب إلى تأويل الرؤيا، لم يكن ذلك بعيداً، فهو يومها إما وليٌّ مُخلَصٌ، وإمّا نبيٌّ أوحي إليه، فنحن لا نعلم تاريخ نزول الوحي على يوسف صلى الله عليه وسلم.
﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾
هكذا قال سجينٌ يستدعيه نداءُ الحرية، من ملكِ بلادٍ هو غريب بها، وسجين فيها بأمر من هو دون الملك!
فإن سألت: إذا علمنا أن رسول الله محمداً النبيَّ الأُمِّيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أعظم الأنبياء وأفضلهم، فكيف يقول: “لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ”؟
أجبتك:
قد قال ذلك ولا شك، كما قال كذلك ولا شك: “لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ. فَلَا أَدْرِي: أَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ”.
ومع ذلك فقد قال ولا شك: “أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. وفي رحلة المعراج رأى يوسف في السماء الثالثةولا شك؛ وموسى في السادسة ولا شك؛ وعُرِجَ به إلى سدرة المنتهى ـ بلا ريب ـ حتى وصل إلى مستوى “يسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ”؛ ثم أُدخِل الجنة ـ يقيناً ـ فرأى فيها من آيات ربِّهِ ما قصَّ علينا بعضه.
فكان حاصل الجمع بين هذه اليقينيات الكبرى، ألّا يدحضَ بعضُها بعضاً، كما يُحبُّ المنافقون أن يفعلوا؛ بل يُقالُ: إنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال ذلك، إنما قاله “تواضعاً، وايثاراً للإبلاغ في بيانِ كمال فضيلة يوسف صلى الله عليه وسلم” كما يقول مولاي النووي قدس الله سرّه. ومثل ذلك يُقال في قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تُخَيِّرُونِي علَى مُوسَى”.
فإن أراد اللهُ بك الخير، فهمت وسَلَّمتَ. وإن أراد بك غير ذلك، فلا والله تفهمُ ولو صَبَبْنا لك في قلبك القرآن متلوّاً بصوت الملائكة؛ بل ندعو لك بالهداية ثم ندعك لله، عسى أن تسأله يوم القيامة: لِمَ لمْ يُرِدْ بك الخير؟
لقد دخل سيدنا يوسفُ السجن عن مَحَبَّةٍ ـ كما يقول الشيخ الأكبر ـ ولا يخرج منه إلا عن مَحَبَّةٍ. ولا يكون ذلك إلا بإظهار براءته، وتمكين الله له في الأرض، كما وعده في الرؤيا أوّل الأمر.
واللهُ هو القادر على أن يملأ قلوبنا يقيناً بما قال ورسُلُهُ. فلا إله إلا هو. والحمد لله رب العالمين.
هذا ما تَحَصّل لي من فهم معنى قول يوسف للرسول: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾، أي: ارجع إلى مولاك! ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها. ووالله إنّه لردُّ ممن يعلم أن له رَبَّاً غير ربِّ هؤلاء، ومولى عليه يتوكل، غير مولى هؤلاء الذي عليه يتوكلون.
جملة حاسمة، من رجل واثقٍ، أحبَّ دخول السجن حمايةً لطهارته، حين قال قبل سنوات: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف/33)؛ فالآن لا يخرج منه دون أن تُعلن براءته مما لوثته به دعاياتُ القصور. وأما الخروج بعفوٍ، فلا يمحو تهمة ألصقت ببريء. لهذا قال سيدنا يوسف للرسول بعد أن أمره بالرجوع إلى ربّه:
ولا ريب أن الملك حين سمع بهذا الرد: ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾؟ علم أنه يتعامل مع شخص مختلف، خصوصاً حين بلغه تعليل النبي لكل هذه الثقة بقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾
والملحوظ أن هذه الدعوة المضمرة بالتوحيد لا تُقابَل بالسخط، من الملك أو الحاشية، بخلاف ما سيفعل فرعون مع دعوة موسى بعد قرون؛ مما يشي بأن لهؤلاء الملوك ـ الذين لا يَتَسَمَّون بأسماء الفراعنة ـ ديناً لا يُؤلّه الحاكم، وإن كنا لا نعلم إن كان دينهم سماوياً أو وثنياً.
ولقد يبدو لي أن سيدنا يوسف قد قدّرَ، أن الرسول حين يعود إلى الملك بهذا الرفض السريع الواثق، سيسأله: فيم رفض؟ فيعلل ذلك فيقول: «يقول إن له رَبَّاً عليماً بكيد النسوة اللاتي اتهمنه زوراً». وهذا أدعى لإثارة دهشة الملك، بما يدعوه إلى إعادة التحقيق.
وهكذا كان، مما يختصره الخطاب بسؤال الملك النسوة: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾؟
هكذا تقفز بنا اللغة من السجن إلى القصر، فتختصر الكثير من الأمكنة والأزمنة والكلام، فتعرض الملك يسأل النسوة! ولا ريب أنه قد حقق المسألة قبل أن يستدعيهنّ: فهو يسألهنّ لا سؤال من يستفسر عن الحدوث، بل سؤال من يحقق في الأسباب. فكأن تساءل قبل أن يسأل: أي شيء خطير فوق التوقع، هذا الذي دعا امرأة العزيز إلى مراودة عبد عن نفسه؟ ثم كيف أمكن له أن يتعفف؟ وكل هذا يحمله سؤاله: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾؟
﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾
هذه المرة الثانية التي تقول فيهن نسوة المدينة في يوسف: ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾. ومفردة ﴿حَاشَ﴾ هي «حاشا» حذفوا ألفها لأنها غير منطوقة. وهي تتردد عند النحويين بين الحرفية والفعلية: فإن جرَّت فهي حرفٌ، وإن نصبت فهي فعلٌ. كما لم يعرفوا أصلها. ويبدو أن هذا هو سبب اختلافهم في كتابتها بين بالألف المقصورة «حاشى» والألف الممدودة «حاشا».
وورد من عدة طرق عن مجاهد بأن معناها: “معاذ الله”.
وإلى هذا المعنى ذهب النحويون، حين قالوا بأن فيها معنى الاستثناء والتنزيه من الشر. قال أبو عبيدة: “ويقال: حاشيته أي استثنيته” وأنشد:
حاشى أبِى ثَوْبانَ إنّ به
ضَنّا عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ
ولا يبعد عن ذلك الراغب حين يقول بأن معناها: “بُعداَ منه”.
وقد اختلفنا من قبل مع المفسرين، حين قلنا بأن النسوة قَدَّسْنَه فور أن شاهدنه، ورَفَعنَه عن تصور ما لا يليق بالملائكة. واستدللنا على ذلك بقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ (يوسف/31). كل ذلك حدث لنا قبل أن نقع على تلميحٍ، يحوم حول ما قلناه، لابن الخطيب. فأحببنا أن نُنَوِّه إليه، للأمانة العلمية.
ففي المرة الأولى، استدعت امرأة العزيز «نساء الطبقة الراقية»، ليساعدنها في مراودة يوسف عن طهارته، ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ (يوسف/31) أي: وجدنه قديساً، وقلن: ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾.
والآن يستدعيهن الملك، فيسألهنَّ سؤالَ من لم يعلم بما نالت قلوبُهُنَّ من الخير، فيقول: «أي أمر خطير هذا الذي أصاب «سيدات المجتمع الراقي»، لِيُراوِدْن فتىً عن نفسه»!. فيُجِبْنَه نفس الجواب: ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾.
ولقد كان في قولهن هذا بلاغاً ـ رحمهنّ الله ـ لكنّهن أمام محكمة، ولا بد من بيانٍ لا يحتمل التأويل، لهذا لَزم أن يَزِدنَ فيوضحن أكثر فيقلن: ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾. لا إله إلا الله. والحمد لله. والله أكبر.