الموحدين وحادثة التمييز “ولاء الأتباع وتصفية الأعداء”

د. آية محمد الجندي | أكاديمية مصرية
“إنني أتاني الليلة مَلَك من السماء، فغسل قلبي، وعلمني القرآن والموطأ وغيره من العلوم والأحاديث” ..
هكذا برر البشير مساعد مهدي الموحدين ابن تومرت التطور الجذري الذي طرأ على حاله فجأة بين ليلة وضحاها وتحوله من شخص أبله إلى شخص عاقل صاحب معجزة، بيده فقط تحديد من يُقتل ومن يظل على قيد الحياة، البشير الذي يُعد بطل الحادثة الأعنف في تاريخ الموحدين “حادثة التمييز”، تلك الحادثة التي سمحت لابن تومرت بالتخلص من معارضيه بالقتل.
فبانتقال أمر الدعوة الموحدية إلى مرحلة القتال مع المرابطين، كان من المهم التأكد أولاً من ولاء الأتباع، فكانت “حادثة التمييز”، التي تشير بوضوح إلى وجود معارضات كثيرة بين صفوف القبائل التي تبعت ابن تومرت، وربما كانت لتتسبب في القضاء على الدعوة إن تقابل الفريقان مع هذا الكم من المعارضات ضد مهدي الموحدين، وبالرغم من التعتيم الذي اتبعته المصادر الموحدية إلى حدٍ ما عن تلك الحادثة، وصبغ الأسباب المؤدية لها بصبغة دينية إلهية إعجازية، إلا أن الأمر على ما يبدو كان بسبب شكوك الأتباع في حقيقة مهدوية ابن تومرت وكذلك أفكاره، بالإضافة إلى ذلك فإن الروح الانفصالية ورفض الخضوع لأياً كان، كانت تدفع هؤلاء إلى التمرد، فإن كان من الصعب إخضاعهم لسلطة مركزية متمثلة في حكومة شرعية، فهل من السهل إخضاعهم لفكرة المهدوية ؟ هل من السهل جعلهم يخضعون خضوع كامل لفرد يدعي حرمانية معارضته؟ .. ويطعن في عقيدة منافسيه بشكل مطلق؟ .. بالطبع إن تلك المهمة تبدو صعبة الحدوث، لكن المهدي وبمساعدة البشير تمكن من إخضاع القبائل له والتخلص من معارضيه بشكل تام ونهائي، وأصبحت طاعته واجبة، وبلغ الأمر لدى المصامدة كما يقول المراكشي: أنه “لو أمر أحدهم بقتل أبيه أو أخيه أو ابنه لبادر إلى ذلك من غير إبطاء”.
وما يؤكد على طاعتهم العمياء له في شخصه المتمثل في ” الإمام المهدي ” أنه في بداية دعوته نهاهم عن سفك الدماء فوافقوه، لكن مع انتقاله إلى كونه المهدي المنتظر أحل لهم إراقة دماء مخالفيه، فتبعوه في ذلك أيضاً، ويعلل المراكشي ذلك في أن طباعهم كانت تميل إلى سفك الدماء، ويشير أمبروسيو هويثي ميراندا إلى أن معرفة ابن تومرت بطبائع القبائل المصمودية هو ما جعل هناك سلاسة في نجاح مشروعه السياسي الدعوي، فهيئهم لقبول دعوته أولاً ثم انتهى إلى إقناعهم بفساد المرابطين، ووجوب محاربتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.
وتذكر المصادر أنه في سنة 519ه/ 1125م خرج مهدي الموحدين ابن تومرت لصلاة الصبح، فوجد رجلاً حسن الثياب طيب الرائحة، فادعى ابن تومرت عدم معرفته به وسأله من يكون، فقال أنه عبد الله الونشريسي، فجمع ابن تومرت الناس وعرض عليهم أمره، فلما تأكدوا أنه البشير واختبروه فاجتاز كل الاختبارات، فاعتبر الناس ذلك من المعجزات، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فادعى البشير أن الله – سبحانه وتعالى – منحه نورا يميز به أهل الجنة من أهل النار، حيث قال: ” إن الله أعطاني نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار وتتركوا أهل الجنة، وادعى وجود ملائكة في أحد الآبار ليتثبتوا من ادعائه، فاتجه ابن تومرت ومعه الناس إلى الموضع الذي أشار له البشير، ووقف وصلى بجوار البئر، ثم نادى على من فيه، يسألهم عن ما ادعاه البشير، فأتى الصوت من أسفل البئر: ” صدق .. صدق”، فما كان من ابن تومرت إلا أن أمر بردم البئر بالتراب والحجارة لئلا يقع فيها نجاسة، لأنها بئر مقدسة نزل إليها الملائكة، وقد تلى ذلك حادثة التمييز للقبائل والتي استمرت أربعين يوماً، جلس فيها البشير تُعرض عليه القبائل، فيقول هذا من أهل الجنة وهذا من أهل النار، أو هذا تائب فاجعلوه من أهل الجنة، وكان قبل ذلك كافراً بأمر المهدي، ونتج عن ذلك مقتل المخالفين لابن تومرت والخارجين عليه، ويُذكر أن عدد من قُتل في تلك الحادثة منهم حوالي سبعون ألف قتيل، وقام بمهمة قتلهم قراباتهم وأفراد قبيلة كل منهم، فكلما اجتمعت مجموعة من أهل النار، سُلموا إلى أفراد قبيلتهم لقتلهم.
ونلاحظ هنا أن مهدي الموحدين لم يقم بالتخلص من أعدائه والرافضين لدعوته بنفسه، وإنما لجأ إلى حيلة أكثر دهاء، وهي أن كلف كل قبيلة بقتل أبنائها من المشاغبين، فجعل الأب يقتل ابنه، والإبن يقتل أباه، والأخ يقتل أخاه، فابن تومرت لم ينس أنه يؤسس دعوته بين أفراد مجتمع قبلي في الأساس، على الرغم من محاولته إضعاف العصبية القبلية في مقابل إعلاء العصبية الدينية والمتمثلة في شخصه، لقد جعل ابن تومرت أفراد القبيلة هم المعاقبين لأبنائهم وقراباتهم، ولم يضع نفسه ولا أتباعه المقربين طرفاً في هذا، فحرمة دمائهم على قراباتهم وأهاليهم فقط، وليس على مهدي الموحدين، بمعنى أخر أنه لم يضع نفسه موضعاً للثأر مستقبلاً، فهل ستثأر القبيلة من نفسها في قتلها أبنائها؟! .. فببساطة جعل ابن تومرت قتلهم أمراً إلهياً واجب تنفيذه، فكما ذكرنا أنه رغم محاولته إضعاف النظام القبلي إلا أنه كان واعياً لكيفية استخدامه لصالح دعوته، فلو قام ابن تومرت بتنفيذ تلك المذبحة بإصدار أوامره لأتباعه ودون تدبير تلك الخُدعة، للفظتهم القبائل .. ولتناسوا كراماته وأمر دعوته في مقابل دماء أبنائهم، فالعُرف القبلي والعصبية القبلية تدعو إلى نُصرة الأهل والأقارب ظالمين أو مظلومين، فلا ينالهم ظلم أو يصيبهم مكروه.
إن النتيجة التي كان يهدف لها ابن تومرت من وراء حادثة التمييز هي جعل كل أتباعه مُخلصين له، وهو بالفعل ما حدث فقد تخلص من كل شخص شاك في دعوته ورافض لها، وبقى المفتتنين به وبدعوته، وأغلب هؤلاء كانوا من صغار السن حيث كان ينجح في جذبهم بأفكاره المناهضة للمرابطين، وكان هؤلاء الناجين من حادثة التمييز هم نواة جيشه لمحاربة المرابطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى