ليس كل ما جاء في صيغة القسم يمين أو ما ظاهره الحلف بغير الله فيما هو ليس كذلك
د. خضر محجز | فلسطين
«كل أمر للوجوب، وكل نهي للتحريم، مالم يقترنا بقرينة تخرجهما عن الإطلاق»
هذه قاعدة من قواعد أصول الفقه. وتعني أنه حيثما ورد الأمر من الشارع الحكيم كان واجباً، وحيثما ورد النهي من الشارع الحكيم كان محرماً.
وقد ورد النهي عن الحلف بغير الله، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله ينهاكم أن تَحلِفوا بآبائكم. فمن من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت». متفق عليه
بل إنه جعل الحلف بغير الله شركاً فقال: «مَن حلفَ بغير الله فقد كَفَرَ أو أشرك» أخرجه أبو داود.
إذن فيجب القول بأن كل كلام يُفهم منه الحلف بغير الله فهو معصية من الكبائر.
ولو قلنا ذلك لكنا جاهلين.
لماذا؟
لأننا وجدنا نصوصاً أخرى ظاهرها يجيز الحلف بغير الله:
1ــ فقد ثبتت القراءة القرآنية الصحيحة المتواترة ــ من غير قراءة حفص ــ بقوله تعالى: «واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ» بكسر كلمة «الأرحام» باعتبارها معطوفة على ضمير الهاء المجرور في «به» العائد على اسم الجلالة. وبهذا يسأل المؤمنون بعضهم بعضاً ــ أي يقسم بعضهم على بعض ــ بشيئين: بالله وبالأرحامِ. فها هنا ورد ما يُفهم منه الحلف بغير الله.
2ــ جاء أعرابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام، وكلما سأله الأعرابي: «هل عليّ غيره؟» أجابه الرسول بقوله: «لا. إلا أن تطوع».. «فأدبر الرجل وهو يقول: والله! لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق. أو: دخل الجنة وأبيه إن صدق» (صحيح مسلم). فهاهنا ورد ما يُفهَم منه أن الرسول حلف بأب الأعرابي، حين قال: «وأبيه» أي: وحياة أبيه.
3ــ وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! أي الصدقة أعظم أجرا ؟ فقال: «أما وأبيك لَتُنَبَّأَنَّهْ» (صحيح مسلم) فقد يفهم أحد ما ان الرسول هنا يقسم بأب الأعرابي حين قال له: «وأبيك». أي: وحياة أبيك لأخبرنك.
فهل أشرك رسول الله!
حاشا لله
فكيف إذن سمح الحمقى الصغار في المساجد لأنفسهم أن ينهرونا صباح مساء كلما سمعونا نقول: (بشرفي)؟
فها هو رسول الله يقول وأبيك.
والجواب أنهم لا يفقهون.
أتدرون لم كانوا لا يفقهون؟
لأنهم حفظوا شيئاً وغابت عنهم أشياء
فهذه النصوص الثلاثة التي أوردناها (1+2+3) هي قرينة في حد ذاتها، تُخرج الأحاديث الأولى عن إطلاقها. بمعنى أن حديث «مَن حلفَ بغير الله فقد كَفَرَ أو أشرك» هو حديث عام كان ممكناً أن يفيد المنع في كل الحالات، لولا أنه اقترن بقرينة أخرى، هي حديث (أما وأبيك لُتنَبأنه) وما في معناه. وهذه القرينة هي التي جعلتنا نصرف عموم المنع إلى خصوص النية في الحلف.
وإنما أوردت كل هذه النصوص ــ المتعارضة شكلاً ــ لكي أؤكد على راغب في التصدي للفتوى، أن يستظهر جميع النصوص المتعلقة بموضوع الفتوى، في الكتاب والسنة، لكي لا يقول شيئاً يعلمه يتعارض مع شيء موجود لكنه لا يعلمه.
إذن فما هي حقيقة قول رسول الله: وأبيك لتنبأنه؟
حقيقة الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ لفظاً يوهم القسم، وجاء بصيغة القسم، لكنه لم يقصد القسم، وإنما جرى القول على لسانه، كما جرت به العادة بين الناس. فقال: «وأبيك»، كما يقول اليوم أحدنا: «بشرفي». فلا هو يقصد أن يحلف بشرفه، ولا الرسول يقصد أن يحلف بأب الأعرابي.
ولأن صغار المفتين لا يصدقون إلا المنقول من كلام السابقين، فها أنذا أورد لهم ما قاله الإمام النووي قدس الله سره، في شرحه لصحيح مسام. قال:
«إن قوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه) ليس هو حلفاً، إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها، غير قاصدة بها حقيقة الحلف. والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف، لما فيه من إعظام المخلوق به، ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى».
النتيجة:
من قال: بشرفي. وما يشبه هذا القول، غير قاصد أن يقسم بذلك، فهو من لغو الكلام الذي لا يؤاخذنا الله به.
والله أعلم.