الثابت والمتحول هنا في فلسطين وهناك في أوكرانيا
المحامي جواد بولس | فلسطين
محمود درويش الثابت بيننا في كل العصور
نحن في فلسطين نحب آذار كثيرًا، ففيه يزهر كل عام شجر اللوز احتفاء بولادة الشاعر محمود درويش، ويرقص زهره مع عصافير الجليل “شفيفًا كضحكة مائية نبتت على الأغصان من خفر الندى ..” .
تحلّ ذكرى ميلاده في هذا العام وفينا من الحنين وجع يتكسّر على أطراف أحلامنا وفي حلوقنا المسامير من حروف ضائعة ولغة مغتصبة؛ فهناك على أرض أوروبا يقطّع السيّافون شرايين الورد ويموت الجنود وهم يغنون لبلاد من تراب ونار ، وينتشي أمراء العبث وينامون على رماد من وهم وغار. وهنا، في فلسطين، يكبر الاحتلال ومعه يتعاظم تيه الأبناء ويطول سفرهم بين السجون والنجوم. ويبقى صوت “درويشنا” يغني كما في كل آذار لسيّدته الأرض ولحارسها الأمين الذي “إن فتشوا صدره فلم يجدوا غير قلبه، وقد فتشوا قلبه فلم يجدوا غير شعبه، وقد فتشوا صوته فلم يجدوا غير حزنه، وقد فتشوا حزنه فلم يجدوا غير سجنه، وقد فتشوا سجنه فلم يجدوا غيرهم في القيود. وراء التلال ينام المغني وحيدًا، وفي شهر آذار تصعد منه الظلال” . إنه محمودنا الثابت في صدورنا وفي لغتتا، والذي من أجله نحب كل فصول السنة ونحب آذار لأن منه “تصعد الظلال” نحو ذلك الجبل البعيد وتمطر علينا تناهيد وفرح.
الثابت: الأسير الفلسطيني، المتحوّل: الحرب في أوكرانيا
سوف تنتهي الحرب الروسية الأوكرانية قريبًا، وستنضم قوافل ضحاياها البشرية إلى قوائم العبث الذي يزخر بها تاريخ الإنسانية الدموي. ولعلنا نجد، بعيدًا عن مجريات هذه الحرب وتداعياتها اليومية المؤسفة، في إرفاق إسم فلسطين وتذكير العالم بها وبكونها أرضًا محتلة من قبل إسرائيل منذ سبعين عامًا، ما يثير نوعًا من الرضا المتواضع ، ويبعث في النفوس بعض التفاؤل والايمان باستمرار وجود تلك الفسحة من الأمل.
أقول هذا بحذر شديد، وبدون تعويل على صحوة ضمائر أنظمة تلك الدول، التي تدعم أوكرانيا من جهة أو روسيا من الجهة الأخرى، وعلى امكانية تخلّيها فورًا عن اعتمادها للمعايير المزدوجة ولسياسات الكيل بمكيالين، وتحرّكها لدعم حق الشعب الفلسطيني بنيل حريته والاستقلال. وبالرغم من ذلك، وكمن يواكب المشهد الفلسطيني من أرض الواقع، أشعر كم كان وقع تلك الأصوات المناصرة للقضية الفلسطينية ايجابيًا في فضاءات فلسطين، خاصة حين قارب هؤلاء الخطباء والمتحدثون، سواء في برلمانات بعض الدول أو من على شاشات الفضائيات، ردود فعل دول العالم إزاء ما يجري في أوكرانيا، وقارنوها منتقدين مواقف نفس دول هذا العالم إزاء ما جرى ويجري منذ عقود على أرض فلسطين المحتلة. لقد ضخّت مشاهد أعلام فلسطين وهي ترفرف في بعض ساحات الدول الأوروبية جرعات قوية من الأمل في عروق الفلسطينيين، وذلك في وقت غطّت فيه أخبار الحرب الروسية على ما تقوم به سوائب المستوطنين من اعتداءات في القدس الشرقية وفي سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى قمع قوات جيش الاحتلال وملاحقته للشباب واعتقال العشرات يوميًا وهدم بيوت بعضهم.
واليوم سأحاول أن أعيد القراء إلى ساحات الوجع الفلسطيني، لا سيما إلى ما يواجهه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث يقبع أربعة آلاف وخمسمائة أسير أمني فلسطينيي، منهم حوالي الخمسمائة أسير إداري، ومائة وثمانين قاصرًا، لم يبلغوا سن الثامنة عشرة، وثلاث وثلاثين أسيرة. لقد أعلن الأسرى الإداريون، منذ مطلع العام الجاري، عن مقاطعتهم للمحاكم الاسرائيلية العسكرية، على جميع درجاتها، والمحكمة العليا أيضًا؛ وذلك احتجاجًا منهم على دور المنظومة القضائية في ترسيخ سياسة الاعتقال الاداري الجائرة ولكونها تعمل من خلال محاكم غير نزيهة على الاطلاق.
لم يأت إعلان الأسرى الإداريين من فراغ؛ فأوضاع الحركة الأسيرة داخل جميع سجون الاحتلال كانت تمر في ظروف قاسية، وذلك في أعقاب حملة قمع شديدة أطلقتها “إدارة مصلحة السجون” إثر نجاح عملية الهرب من سجن “جلبوع”، في السادس من أيلول/ سبتمبر المنصرم. لقد أصدرت إدارات السجون بعد عملية “نفق الحرية” رزمة من القرارات التي استهدفت منجزات الحركة الأسيرة عبر السنين. لم ترضخ قيادات جميع فصائل الأسرى لتلك الأوامر الجديدة فرفضوها وحاولوا، من خلال لغة الحوار الواعي ووحدتهم التنظيمية، درء تبعاتها. وعلى ما يبدو لم ينجحوا في التوصل إلى حلول مقبولة ومرضية لغاية الآن؛ لكنهم، بوقوفهم أمام سجانهم بصرامة، استطاعوا أن يستعيدوا كثيرًا من وهج حركتهم الضائع، وأن يُكسبوها ، مجددًا، مكانتها الطبيعية أمام العالم، كشوكة سرمدية لا تنكسر ولا تكسر، وكبوتقة تصهر الجميع وتؤدي دورها كضابط أمين لنبض الشوارع الفلسطينية النضالي ولهتافات الميادين ضد سياسات الاحتلال وممارساته.
تشهد هذه الأيام احتدامًا جدّيًا بين الأسرى وسجّانيهم، مما دفع قيادات الحركة الأسيرة للاعلان عن قرارهم بالشروع باضراب مفتوح عن الطعام سيبدأونه في الخامس والعشرين من الشهر الجاري. فالحركة الأسيرة تستوعب على أن المخطط المرسوم لها يستهدف وجودها نفسه ومنجزاتها التاريخية ورمزيتها الوطنية ككيان يعيش حالة صدام مستديمة مع السجان بصفته أوضح رموز الاحتلال والدليل الحي على قمعه. لا نعرف كيف ستنتهي هذه المواجهة، فالاسرى عازمون على ألا يستسلموا لسجّانهم، لكنّهم سوف يستمرون في محاولاتهم للتوصل معه إلى حلول مرضية ومقبولة، وذلك كما أعلنوا في رسالة وجهوها إلى قيادات وأبناء شعبهم، من داخل سجونهم، قالوا فيها إن إدارة السجون “تقوم منذ 6/9/2021 باجراءات قمعية وعقابية كانتقام لما حدث في سجن جلبوع، وقد فرضت الكثير من القيود التي حوّلت حياة الأسرى في السجون إلى جحيم لا يطاق… وقد حاولنا وبكل الوسائل وقف هذه الهجمة وتغيير هذه الإجراءات، من خلال الحوار والخطوات التكتيكية، والتي ما زالت مستمرة لهذا الحين، ولكن للأسف تستغل سلطات الاحتلال ما يحدث في الخارج للضغط والتنكيل ولعدم الاستجابة إلى مطالبنا، وبناء على ذلك تمكّنا من تشكيل لجنة طواريء عليا من كافة الفصائل وفي كافة السجون .. وبعد التشاور فلقد قررنا الشروع بخطوة استراتيجية وخوض اضراب مفتوح عن الطعام، بتاريخ 25/3/2022 ، وذلك دفاعًا عن كرامتنا واحقاق حقوقنا” . أتمنى، كما يتمنى الأسرى أنفسهم، أن تحل هذه الأزمة عن طريق الحوار المدعوم بوحدة جميع الفصائل وبالحكمة وبالعزيمة الصادقة، فالشروع باضراب مفتوح عن الطعام، كما علّمتنا التجارب السابقة، ليس بالشأن السهل، خاصة في مثل الظروف السياسية والاقتصادية الحالية الصعبة التي تعيشها المجتمعات الفلسطينية، وفي ظل تداعيات الحرب في أوكرانيا وانشغال دول العالم بها.
لقد استفز الرياء العالمي، كما مورس على الساحة الأوكرانية، أقلام الكثيرين من المعقبين السياسيين والنشطاء الاجتماعيين في مجتمعاتنا المحلية، وكأن جميع هؤلاء كانوا بحاجة إلى اندلاع هذه الحرب كي يتحققوا من عهر تلك الأنظمة، الغربية والشرقية وما بينهما، وتجاهلها غير الاخلاقي لمعاناة الشعب الفلسطيني طيلة سنيّ رزوحه تحت نير الاحتلال الاسرائيلي؛ واليوم، بعد أن عبّر الجميع عن مواقفهم إزاء تلك الحرب، وبعد أن تكشّفت جميع الأنظمة الحاكمة بقبحها وبتملقها، أتوقع أن يعود جميع ” الأبناء” الصالحين إلى مواقعهم الطبيعية على خارطة الهمّ الفلسطيني، وتحديدًا إلى قضية الأسرى، واحتضانها بدفء ، لا سيما في هذه الأيام الحاسمة كما قرأنا.
ليس أحوج من أسرى الحرية الفلسطينية إلى دعم كل أصحاب الضمائر الحية، هنا وفي جميع أرجاء العالم؛ فحين ناضل هؤلاء الأسرى ضد الاحتلال الاسرائيلي وضحّوا من أجل نيل حقوق شعبهم المسلوبة، كانوا يفعلون ذلك أيضًا باسم كل انسان حر وحقه بالعيش بكرامة في دولته المستقلة وعلى أرض وطنه. فالثابت، إذا، فيما يجري من أحداث أمامنا، منذ أكثر من خمسة عقود، هو الحق الفلسطيني الضائع وتنكر المجتمع الدولي له وصمت الدول على ما يرتكب بحق أبناء شعب فلسطين من جرائم وقمع وإضطهاد؛ وأما المتحول فهو حروب قياصرة هذه الزمن، وبينهم قيصر روسيا الجديد، ومخططاتهم لاقتسام خيرات دول العالم وتوزيعها كغنائم ونهبها، بعد تمزيق أواصر البلاد وسحق شعوبها كما شهدنا في السنوات الماضية ونشهد في أيامنا هذه.