المناضل الأردني – الفلسطيني عارف الزغول

نهاد أبو غوش | فلسطين

ألقيت هذه الكلمة في تابين المناضل عارف الزغول وهو مناضل أردني التحق بالثورة الفلسطينية في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وأمضى في السجون الأردنية ستة عشر عاما، وكان لكاتب هذه السطور شرف مزاملته في سجون المحطة والجفر وسواقة، ثم العمل معا في هيئات حزب الشعب الديمقراطي الأردني ( حشد).
العزيزة غادة الأبناء منيف وأوميد وخالد ومها
مساء الخير يا عارف….
لا أتصوره إلا كما هو …. وكما عرفته مع آلاف المناضلين .. مبتسما وكأنه يهزأ بعذابات السجن، ومرارة الحياة، لكن عينيه تلتمعان ببريق مميّز، وتشعّان بحنان دافىء فيبعث الثقة والاطمئنان والأمل فيمن يحيطون به.
من اي شيء قُدّ هذا الرجل؟ أمن جبال جلعاد وصخور عجلون* استمد شموخه وصلابته؟
أم من مياه راحوب اكتسب رقته وسلاسته؟
وهو الطيّب القلب.. الغني النفس.. المعطاء كسهول حوران وتراب الأغوار
أم أن سحابة تشكلت فوق البحر الأبيض المتوسط، وعبرت فلسطين من بحرها إلى نهرها فأمطرت لتسقي قلبا فتيا مشرعا لحب البلاد التي يراها كلما نظر إلى مغرب الشمس، ومصدر الرياح المحملة بالخير والوعود، بلاد ورث حبها من حكايات الأجداد وأغاني الجنود العائدين من باب الواد وسهول جنين.
هكذا كان عارف الزغول ( أبو النوف) ، وهكذا تشكّلت هويته الوطنية والإنسانية، محصّلة لانتمائه للأردن وأرضه وناسه وخاصة فقراءه، وحب فلسطين البعيدة في حسابات السياسة منذ سايكس بيكو والنكبة والنكسة، القريبة في نبضات القلب ولغة الوجدان.
تعودنا أن نقول عن كثرين : فلان أردني من أصل فلسطيني، وهي إشارة إلى اكتساب الجنسية الأردنية لملايين الفلسطينيين الذين نزحوا إلى الأردن، نادرا ما نقول أن فلانا فلسطيني من أصل أردني، عارف الزغول اكتسب الهوية الفلسطينية بالنضال والانتماء الثوري وهو الذي لم يزر فلسطين قط، لكنه من دون شك كان يراها كل يوم سواء من مكان إقامته (دير علا) أو من مرتفعات عجلون المطلة على مساحات واسعة من فلسطين، والكل يعرف أن هذه التقسيمات التي فصلت بين الأردن وفلسطين هي من نتائج سايكس بيكو ووعد بلفور.
اختصر عارف المسافات، واختزل الكلام عن التداخل والتمايز وخصوصية العلاقة بين الشعبين الشقيقين، فانحاز إلى قلبه وقرر أن يصبح فدائيا مهما كلّف الأمر، وقد كان الأمر باهظ التكاليف في ذلك الزمن العرفي الغابر.
جسّد عارف في شخصه وسلوكه وسجاياه ما يمكن أن نسميه “السهل الممتنع” فقد كان بسيطا كعشاء الفقراء كما قال شاعرنا محمود درويش عن صديقه راشد حسين، عفويا في خياراته وقراراته وانحيازه المبدئي للإنسان، لكنه ايضا كان عميقا كفيلسوف، واثقا من حتمية الانتصار.
لم ينل حظه من التعليم النظامي، لكنه عوّض ذلك بكفاءة عالية وإرادة لا مثيل لها، إذ كان شغوفا بالمعرفة يلتمسها أنّى توفّرت، في الكتب والحوارات وتجارب الآخرين، وكان على الرغم من قسوة الظروف قادرا على أن يبلور لنفسه رؤية تقدمية حضارية تنعكس على جملة مواقفه من الناس والرفاق والفقراء ومن قضية المرأة بشكل خاص، كان عميق الانتماء لحزبه ورفاقه وفي الوقت نفسه وحدويا يؤمن بالقواسم المشتركة مع من يختلفون معه، يحرص على التعلم كل يوم، وينثر علمه وتجربته الغنية دون ادّعاء، لا أذكر أنه شكا يوما أو تبرّم، أو تخاصم مع رفيق أو زميل.
وفي سياق الحديث عما تعلمناه من عارف أود أن اشير سريعا إلى مثالين: لم ينس عارف يوما أن صغار الجنود والضباط والحراس هم أبناء شعبه، كان يفيض تعاطفا معهم دون أن يتنازل عن مبادئه وموقعه قيد انملة، مع أنهم كانوا يقيّدونه وينفذون الأوامر التعسفية، كان الأمر يبدو وكأنه سوء تفاهم بينه ( وبالأحرى بيننا) وبينهم، والمثال الثاني في ما كان يمثله عارف من مرجعية دائمة للصمود والثبات والقوة، في السجن كانت تعترينا كثيرا نوبات من الأزمات والاكتئاب والقلق أو الشعور بالضعف، وكان يكفي الواحد منا أن ينظر إلى (أبو النوف) ليستعيد ثقته في نفسه وخياره الثوري.
مرة أخرى استعير من شاعرنا محمود درويش كلمات قالها في وصف راشد حسين وكأنه كان يصف عارف الزغول:
شقي مثل دوريّ …. قويّ
فاتح الصوت كبير القدمين
واسع الكف فقير كفراشة
ويرى أبعد من بوابة السجن
يرى أقرب من أطروحة الفنّ
يرى الغيمة في خوذة جندي
وأخيرا ماذا أقول لك يا عارف يا رفيقي وصديقي
أحضرت لك من فلسطين التي أحببتها وأحبتك كمشة تراب لعلها تعانق ترابك
وأعدك، أمام الرفاق والرفيقات، ألا ننساك ما حيينا، وأن نذكّر أبناءنا وأجيالنا الناشئة أن ثرى الأردن الطاهر يحتضن من أحب فلسطين وأخلص لها حتى آخر يوم في حياته، وأعدك ايضا أننا سنزرع باسمك شجرة زيتون، لقد أعددنا العدة لذلك.
نم قرير العين يا عارف…. عليك الرحمة …. ولك المجد والخلود
*ينحدر المناضل عارف الزغول من قرية عنجرة في محافظة عجلون شمال الأردن، وهي منطقة مشهورة بجبالها الشاهقة وأحراشها، وقد ورد ذكرها في الكتاب المقدس باسم (جلعاد) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى