في ذكرى ميلاد الشاعر الكبير محمود درويش ليس الأقوياء وحدهم يكتبون التاريخ
عيسى قراقع | فلسطين
الكتابة تحتاج إلى مخالب
في ذكرى ميلاد محمود درويش اعدت قراءة نصه المبدع “في حضرة الغياب” فوجدت انه يحلق في سموّ اللغة، حيث نص كتاب حضرة الغياب ليس مجرد سيرة ولا كتاب تاريخ؛ بل هو انعتاق اللغة من النص التقليدي، وإطلاق روحها؛ لتصير اللغة هي الوطن، وهي المكان والزمان. واللغة هي تعبير عن الوجود، وجود الانسان ونفي الضياع والتلاشي. واللغة هي كسر المنفى والتقدم للتعرف على جسدها، واسمها، وفضائها… هي ظل الجغرافيا المسروقة؛ لأن الإنسان ليس حجراً بل هو البرهان، الراوي، الراثي والمرثي، محمياً بكثافة الذاكرة وندب الجروح…
ومن هنا فإن درويش يواجه غياب المكان، وتيه الزمان بالكلمات، برواية شفوية تعيد رسم المكان واستحضار الماضي وتشكيل الحاضر، مقرراً أن المستقبل هو ماضيك القادم..
ودرويش ينسج أسطورة الفلسطيني رداً على أسطورة الإسرائيلي. يواجه رواية الآخر النقيض بحكاية لم تبنها الخرافة، ولا المزامير والأوهام؛ حكاية هي بنت الواقع، تعيد ترتيب أبجديتها وعافيتها لتقول الحقيقة أمام سياسة تستهدف شطب التاريخ؛ لقتل اللغة.
“فلا تنظر لنفسك فيما يكتب عنك، ولا تبحث عن الكنعاني فيك؛ لتثبت انك موجود، بل اقبض على واقعك هذا، واسمك هذا، وتعلم كيف تكتب برهانك، فأنت لا شبحك هو المطرود في هذا الليل.”
ويود درويش أن يقول لنا في ملحمته أن رواية الفلسطيني أقوى من آلة التدمير العسكري الإسرائيلي، وهي وسيلة حماية الزمن من هيمنة الحاضر؛ لهذا يطالب الفلسطيني أن لا يكف عن الحلم؛ فقد ولد الماضي من الغياب، ويناديك الماضي بكل ما ملكت يداه من أزهار الصبار الصفراء عن طريق يصعد فوق التلال، ومن رائحة الحنين الشبيهة برائحة البلوط المشوي في المواقد.
فالإسرائيليون كتبوا روايتهم بأنهم عادوا إلى أرض الميعاد، وكتبوا روايتنا بأننا عدنا إلى الصحراء ثم حاكمونا لأننا ولدنا هنا! كأن درويش يريد أن يقول ليس الأقوياء وحدهم يكتبون التاريخ بل أيضا الضحايا والمحرومون والمعذبون، وان اللغة كفيلة أن تحرر الضحية من سكونها وقبولها بالأمر الواقع.
هل صحيح أن من يكتب قصته قبل الآخر يكسب أرض القصة؟ لكن الكتابة تحتاج إلى مخالب كي تحفر الأثر في الصحراء، ومن هذا السؤال يواجه درويش في نصه إشكالية المكان المفقود والزمان المفقود بذاكرة ودلالات لا تكف عن العمل… ذاكرة فيها ما يكفي من أدوات لتثبيت المكان في مكانه لصناعة الأمل؛ لأن الأمل هو قوة الضعيف المستعصية على المقايضة، وفي الأمل ما يكفي من العافية لقطع المسافة الطويلة من اللامكان الواسع إلى المكان الضيق.
لو نطق الظل لأرشدني
أصبح محمود درويش، في هذه المرحلة، صانع أساطير؛ يولّد حكايات من حكايات، ويبني عالماً أسطوريا تتمازج فيه حكايات الشعوب وأحلامها في ارض اللغة التي تسعى إلى وضع حكاية الفلسطينيين في أفقها الكوني.
النص فيه نضوج مدهش، وخصوبة عالية من الدلالة والقدرة على جدل الحكاية الفلسطينية بحكايات التاريخ المستعادة؛ إنه يقطع المسافة بين الذات والموضوع… بين الذات والعالم، فالذات مليئة بخارجها…
وعندما يسرد قصة اللاجئ المنكوب المعذب المشرد الضائع يضفي حماية مختلفة على حق الفلسطيني بالعودة إلى بيته، وحقله، وموطن صباه؛ وذلك بهذه اللغة المزدحمة بالصور والعطشى إلى معنى. فالحروف أواني فخارية فارغة، ومطلوب منا أن نحك الحروف حرفاً بحرف لتولد النجمة، ونقرب حرفا حرفا كي نسمع أصوات المطر، لأن الكلمات هي الكائنات..
إن درويش يدعو في نصه إلى حماية اللغة من ركاكة التراجع عن خصوصيتها المجازية، ومن إفراغها من أصوات الضحايا المطالبين بحقهم من ذكرى الغد عن تلك الأرض التي يدور الصراع عليها إلى ما هو أبعد من قوة السلاح: قوة الكلمات.
أين بلاغة الضحية التي تسترجع ذاكرة عذابها الطويل أمام شقاء اللحظة التي ينظر فيها العدو في عين العدو ويشد يده بإلحاح؟؟ أين أصوات القتلى السابقين والجدد، الذين يطالبون باعتذار لا من القاتل فحسب، بل من التاريخ؟
وظل سؤال النص يلاحق النص: من يروي قصتنا؟ موضحاً انك لو عرفت من آثار النكبة المدمرة ما سيدفعك إلى كراهية النصف الثاني من الطفولة فإن كنزة صوفٍ واحدة منتهية الصلاحية لا تكفي لعقد صداقة مع الشتاء… سنبحث عن الدفء في الرواية…
يبلغ الشبح سن العودة
الآخر الإسرائيلي هو الذي خلق أسطورة عن نفسه، وعن الفلسطيني، وأراد أن يفرضها على الفلسطينيين؛ بمعنى أن الذي يكتب التاريخ هو المنتصر. فالإغريق هم الذين كتبوا أسطورتهم عن طروادة المهزومة (الإلياذة والأوديسة)، كأن المهزوم يفقد موقعه في التاريخ ويظهر بأن موقعه يتحدد بمقدار ما يعطيه المنتصر. فالطروادي المهزوم لا ملاحم له…لا بد للمنهزم إذا من أن يخلق أسطورته الخاصة به؛ لكي يقاوم أساطير القوة، وأغنيات المنتصر التي تحذفه من التاريخ.
من أنت في هذه المرحلة؟ أشاعر طروادي نجا من المذبحة ليروي ما حدث أم خليط منه ومن إغريقي ضل طريق العودة؟ إن فتنة الأسطورة بحقلك نهباً لانتقام الاستعارات… فخذ منها ما يصلح لصعود النشيد إلى ختام آخر يتسع لصوت الضحية الطروادي المفقود، ولعجز النصر الإغريقي عن إعادة الشباب إلى المحارب الذي شاخ في ثنائية البيت والطريق.
ويواجه درويش بلغته الحية هذا الليل الخالي من الرحمة بقوة العبارة، التي سوف تنتصر، داعياً إلى استمرار الحديث عن الرحلة في البر والبحر والعواصم؛ رحلة الفلسطيني من المذبحة إلى اللامكان والى اللاوجود.
فمن لم يكن آنذاك في الأسطورة لن يكون الآن، يقول درويش، وتنهمر الاسئلة كالمطر: ما معنى أن يحيا الإنسان في المطار؟ وهل من جلاد مقدس؟ ما معنى كلمة لاجئ؟ وهل تستوعب هذه الكلمة كل الحكايات وكل هذا النزيف من الدم الذي فاض عن حاجة الاسم إلى هوية؟ لا يريد التعالي عن الواقع لأن الواقع أغنى من النص، بل يريد أن يكتب القصة ويطرح الأسئلة الوجودية والخوف من المجهول. ويصرخ درويش في نصه:
لا زلنا أحياء قادرين على تعديل النص الإغريقي؛ فقد بلغ الشبح سن الفطام، وسن الرشد، وسن المقاومة وسن العودة. الطائرات تطارد الشبح في الهواء، الدبابات تطارد الشبح في البر، والغواصات تطارد الشبح في البحر، والشبح يكبر ويحتل وعي القاتل حتى يصيبه بالجنون.
أتيت ولكنني لم أصل
محمود درويش في نصه يطرح رؤية نقدية مختلفة للمأساة ولتاريخ المأساة، رؤية ترشدنا الى إعادة النظر في الخطاب التبسيطي لمأساة الشعب الفلسطيني وكأنه يطالب بمشروع ثقافي فلسطيني، خاصة وأن للمأساة بعداً ثقافياً لم يدركه غيره من الفلسطينيين.
كان الإسرائيليون دائماً يحاوروننا في كل مكان على أنهم يريدون شيئاً أكبر من السلام مع الآخر، وكان غياب السلام عن المجتمع الإسرائيلي هو أحد شروط مكونات الهوية الإسرائيلية؛ لأن وعي العدو المشترك: الآخر العربي، وحاجة الوعي الإسرائيلي إلى تغذية هذا الحضور المعادي هي التي بلورت بشكل أساسي الهوية الإسرائيلية المشتركة بين منفيين قادمين من أزمان تاريخية مختلفة ومن ثقافات مختلفة.
أين حيرة المعنى في لقاء الضد بالضد؟ وأين الصرخة الملازمة لعملية جراحية يبتر فيها الماضي عن الحاضر في مغامرة السير إلى غد ملتبس؟ وأين لغتي؟
فيما يبدو يجري السلام بين رسميين وليس بين شعبين، ومن دون ثقافة سلام لا يمكن الوصول إلى سلام حقيقي، وثقافة سلام تقتضي أن يعترف الإسرائيليون بوجود الشعب الفلسطيني ذي ذاكرة جماعية، وأن يسمحوا لهذا الشعب بأن يروي روايته التاريخية، كما يفهمها، وأن لا يفرضوا على الفلسطينيين رواية تاريخية وحيدة الجانب.
أي داهية قانوني أو لغوي يستطيع صوغ معاهدة سلام وحسن جوار بين قصرٍ وكوخ… بين حارسٍ وأسير؟ وتسير في الأزقة خجلاً من كل شيء، من ثيابك المكوية، ومن جماليات الشعر، ومن تجريدية الموسيقى، من جواز سفرٍ يتيح لك إمكانية السفر إلى العالم. يصيبك وجع في الوعي وتعود إلى غزة المتعالية على مخيماتها وعلى اللاجئين المتوجسة من العائدين فلا تعرف في أية غزة أنت وتقول: أتيت ولكنني لم أصل.
وهكذا، اعتقد محمود درويش أن السلام ممكن ولكنه يحتاج إلى ثورة في الوعي الإسرائيلي وفي الثقافة الإسرائيلية.
لقد حدثت هذه الثورة في الوعي الفلسطيني وقدم الفلسطينيون تنازلاً أخلاقياً وثقافياً يتمثل في أنهم ميزوا بين وطنهم التاريخي وبين حقهم في إنشاء دولة على جزء من هذا الوطن التاريخي، وبقي على الإسرائيليين أن يميزوا بين حدود التوراة وبين حدود الواقع، وبدون ذلك سيبقى شبح اللاجئ الفلسطيني يلاحق ملك إسرائيل ويطارده في النوم وفي اليقظة فيضطرب ويشكو من الأرق ويصرخ: ألم يموتوا بعد؟ كيف صار الميت شبحاً وكيف تطاول الشبح علي؟
وسيبقى ملك إسرائيل يصرخ: أبعدوا عني دير ياسين الثانية… أبعدوا عني صراخ هذه الأشباح، أو أبعدوني عنها، إن اغتيال الشبح عبث… وان سلامي عبث
ويظل ملك إسرائيل في جنونه ومرضه، كما يقول درويش، يخرج إليه القتيل من الحفرة فينهار الملك، يسقط القاتل في قبر القتيل.