دماء طازجة

كرم الصباغ | مصر
بمجرد وصولها إلى المرعى، تقطف الفتاة شيئا من الكلأ الأخضر، وتمده إلى عنزاتها. وما إن تدنو إحدى العنزات، حتى تطوقها بذراعها اليسرى، بينما تبدأ يدها اليمنى في اعتصار حلمتي الضرع برفق، يناسب طباعها الهادئة كفتاة تشبه اليمام، تتنقل بين عنزات خمس حلوبة، مثلت ألبانها مصدر رزقها الوحيد. تغطي آنية الفخار الثلاث التي امتلأت للتو بقطع من قماش شفيف، تحول بين اللبن وبين الشوائب والغبار. تجلس على صخرة ملساء قلقة متوترة، وتترقب وصول اللبان بفارغ الصبر، تردد بصرها بين فم المرعى حينا، و بين شمس الضحى الحامية حينا آخر. يمر الوقت، والرجل لا يظهر على مرمى البصر؛ يلح عليها هاجس تخثر اللبن. والطقس الصحراوي الملتهب شيطان أرعن، يزرع المخاوف في قلبها؛ فتزداد توترا، ويزداد بصرها تقلبا، ولا يستقر إلا بعد أن يظهر اللبان، ممتطيا حماره؛ فتتنفس الفتاة الصعداء. عادة ما يبدأ التاجر بها؛ إذ كانت لا تجيد المساومة كالآخرين. لا يستغرق البيع والشراء معها سوى لحظات قصيرة، يفرغ خلالها ما تجمع لديها من ألبان في سطله الكبير، وينقدها ثمنا بخسا، يوفر بالكاد طعام اليوم لها ولأمها. اللبان يتجول بين جنبات المرعى، يدور على بقية الرعاة، والفتاة لا تكترث بما يدور بينه وبينهم، ولا تكترث بذلك الراعي الذي لا يرفع عينيه عنها. تنصرف بكل جوارحها إلى التطلع إلى السماء، وإلى مراقبة عنزاتها التي راحت تركض بطول المرعى وعرضه. تبصر حملاتها تسابق الفراشات؛ فتبتسم ابتسامة خافتة، لا تبدد شيئا من وجومها، وتدندن بأغنيتها المفصلة كوردة خجلة؛ فيخرج الغناء ناعما كشمع أملس لم يخدش قط.
(٢)
الوقت هجير، بدأ الرعاة ينسحبون بأغنامهم، حتى خلا المرعي تماما. قبعت وحيدة تحت العريش الذي أقامته من قوائم الجريد، و الذي شدت عليه قطعة من خيش مهترئ، حجبت عنها سهام الشمس الحارقة. الرعاة يصلون إلى النجع، و يعيدون الأغنام إلى مرابدها، و الماشية إلى أفنية الدور الخلفية. بينما ظلت هي ماثلة في ذهنه بوجهها الرائق و جسدها اللدن الذي تفتحت مفاتنه حديثا كما تتفتح زهرة مسك الليل. هل كان حبا، أم اشتهاء، أم مزيجا منهما؟! هي بمفردها الآن، و هو يخفي داخله كتلة من نار متأججة، توشك أن تعلن نفسها. يتسلل من النجع، يعود إلى المرعى من طريق مغاير، يجد في المسير بخطوات متعجلة. يقترب من ظلتها، يقطع عليها شرودها المعتاد. تتفاجأ به. يقف منتصبا أمامها كالرمح؛ فتنتفض. تتبعثر الحروف المرتبكة على شفتيه المرتعشتين؛ فتملأ الريبة قلبها. تشعر بوخز نصال نظراته المغروسة في جسدها؛ فيستبد بها القلق. يدنو منها. تشعر بلفح أنفاسه الحارة؛ فتهب واقفة، وتتهيأ للفرار. يجذب ذراعها، يضمها إلى صدره؛ فتصرخ بأعلى صوتها، و لكن صرخاتها تذهب سدى. يطرحها أرضا؛ فيسيل على فخذيها خيطان رفيعان من الدم. تنطفئ ناره، وتنفجر هي باكية. يحاول تهدئتها، دون جدوى، يسرف في وعوده، ولكنها تصرخ في وجهه، تطلب منه أن يغادر المكان على الفور؛ فيختفي من أمامها في لمح البصر.
(٣)
هل كان فرار ذلك الراعي من النجع، مفاجأة لها؟! هل لا تزال تنتظر عودته بشكل جدي؟! هي تجيد الانتظار على أية حال. تكورت في زاوية معتمة من زوايا حجرتها، تذكرت أباها، فجأة؛ فانتابها حنين جارف إليه. شعرت الليلة بأنها في أمس الحاجة إلى وجوده أكثر من أي ليلة مضت. هل تريد أن تفضي إليه بسرها الأليم، أم أنها سئمت الخواء، و تريد حقا أن تسند ظهرها المكشوف إلى جدار منهدم، ودت لو أقامه الليلة بأي ثمن؟! ها هو يعود إلى الدار عشاء؛ فتنشر ملامحه الحانية في الدار بهجة و أنسا. تركض نحوه؛ فيعانقها بلهفة، و يحملها بين ذراعيه، ويقذفها إلى أعلى، فتصافح الهواء بضحكات تشبه الصهيل، و ترتد إلى أسفل في وجل؛ فيتلقفها سريعا بيديه الدافئتين. يهديها عروسا من حلوى، و دمية محشوة بالقش، ظلت الأغلى لديها رغم ثمنها الزهيد. يطول حديثهما، حتى تنعس بين يديه؛ فيقبل جبينها، و يحملها إلى مخدعها، ويشد عليها الغطاء، ثم يتوجه إلى حجرته؛ فتسمع سعاله الشديد، يأتي من بعيد خافتا، ثم يشتد شيئا، فشيئا، و تصغي بألم إلى أناته، لكنها لا تبصر بطبيعة الحال ما يبصقه من دم، و في الصباح ترى الرجال يحملونه على الأعناق، و يخرجون به مسرعين؛ فينخلع قلبها من مكانه، و تصرخ وراء الحشد الراكض صرخات مشبعة بالحرقة و الجنون، و تبدأ في تقليد أمها التي راحت تحثو التراب فوق رأسها. مرت ثمانية أعوام، و هي على تلك الحال، تمقت المكوث في دار عربدت الوحشة بين جدرانها، تدفع عنزاتها و حملانها إلى المرعى صباحا، و تعيدها إلى فناء الدار قبيل الغروب. و لما كان من عادات أمها الايواء إلى الفراش مبكرا، صار لزاما علي الفتاة أن تقطع ساعات الليل الطويلة بمفردها؛ فيستبد بها الوجع، و تهرع إلى خزانتها، و تخرج قفطانا قديما، تنكب عليه، مستنشقة رائحته الكامنة. تمر ساعات، و الفتاة تحتضن القفطان و دمية القش، بينما تعتصر روحها الذكريات. و النهار يرق لحالها، النهار يدرك أن الفقد و انتظار من لا يجئ وجهان لعملة واحدة؛ فكلاهما حدأتان لا تفلتان صيدهما. النهار يدرك أن الذكريات ماء مشبع بالملح، لن يروي الفتاة الظامئة؛ فيرش نسيمه الطري برفق على وجهها، و يدعوها إلى الخروج من شرنقة أحزانها، إلى طراوة البكور و سعة البراح.
(٤)
من جهة الشمال أقبلت طيور بيضاء، ألفت زيارة سماء المرعى كل صباح، ما إن رأتها الفتاة اليوم، حتى هبت واقفة، و قامت بإطلاق العنان لساقيها، و راحت تركض على غير عادتها بأقصى سرعة ممكنة، بينما راحت الطيور تحلق فوق رأسها، الفتاة تغادر المرعى، و تبتعد شيئا، فشيئا، حتى تصل إلى حافة الربوة؛ فتحدق مليا إلى منحدر يفضي إلى هوة سحيقة؛ فتفتح ذراعيها، و تقفز إلى الفراغ بلا تردد؛ فتشهق الطيور، و تطلق الحملان التي اقتفت آثار صاحبتها نحيبا يشبه الثغاء، الفتاة تهوي إلى أسفل، تمسي قاب قوسين أو أدني من الارتطام بأسنة الصخر التي تشبه الحراب، الفتاة تغلق عينيها، و تلعق طعم الموت الوشيك بطرف لسانها، و لكنها تشعر فجأة بدفء يتلقفها في اللحظة الاخيرة، و حينما تفتح عينيها المشدوهتين، ترى وجهه الحاني يتطلع إليها بشوق، و ترى يديه تقبضان على خصرها بحرص، و ترى قفطانه الناصع، ملطخا ببقع الدماء الطازجة، التي لم تجف إلى الآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى