في عيد ميلاد أخي د. سعيد يقين.. كل عام وأنت الأجل والأجمل

تحسين يقين | فلسطين‏

حضر د. سعيد يقين في مقالاتي عدة مرات، كذلك أفراد أسرتنا، لأمور موضوعية أكثر منها فقط ذاتية، اليوم ونحن نحتفل بيوم مولده والربيع، اختار للأصدقاء أحد هذه المقالات المنشورة عام 2009. ربما لألقي بعض الضوء على هذه الشخصية الفلسطينية المتنورة والمحافظة على الأرض..لعلي بين حين وآخر انشر هنا..خاصة ما تبادلناه من رسائل ونحن طلبة جامعيين، هو في بيرزيت وأنا في مصر.. سعيد أخي..سعيد الفلسطيني يقاوم التصحر الذي يغري المستوطنين بمصادرة الأراضي.. اجتهد فحافظ على الأرض على خطى أبيه.

تحسين يقين

سأخرج حاملا حقيبة وقلمين وقرطاسية ومحفظة وآلة حاسبة، هي مجموع جائزتي التي تلقيتها من سلطة جودة البيئة مكافأة على كتابة قصة حول التصحر.
والقصة التي كتبتها هي قصة حقيقية، بطلها شاب فلسطيني، وحتى لا ينطبق المثل القائل”باب النجار مكسر” فإنني أذكر هنا أن بطل قصتي هو أخي سعيد يقين الذي تعرفه جبال الوطن وترابه وحجارته، وهو المزروع في الأرض منذ كان هنا، والذي لا يستطيع العيش بدونها، فحق علي أن أكتب عنه، ولن أتعرض للوم أو عتاب بأنني إنما أكتب عن أخي.
بتحرير قليل للنص الفائز بتلك المواد مجموع الجائزة، سأنشر مادتي عن التصحر.
بإمكاني أن أروس المادة بملخص أو الهدف من المادة، لكن في هذه الحالة سيزول الأثر الأدبي الذي يعمق نظرتنا لما نود إضاءته، وهذا من أهداف الأدب. لذلك أرى أن من المهم أن يصل القارئ للمغزى بنفسه فهذا أفضل من الإعلام السريع، حيث يقصد الأدب الى إثارة العاطفة والفكر معا:
“الدوير”، مجرد ذكر اسمه فقط كان قادرا أن يثير في سعيد شوقا له، كان له سحر خاص لم يتخلص منه حتى الآن، ترى ما الذي كان يدعوه لهذا المكان المجاور لكرمهم الذي لم يمل من المناداة عليه؟
كانت كروم تعامير والده المكونة من “الحريقة والشعب والزنازير” مزروعة خضراء، تزدان بأشجار العنب والزيتون والبرقوق واللوز والتفاح، يتوسطها بئر صنعه والده كي يشرب منه ويسقي الشجر ويستخدمه في رش الشجر لحمايته من الحشرات، يعلوه جدول ماء صغير عذب الطعم بارد لم يصنعه أحد، كانت”المصّاية” من هبة الله على المكان وأهله، تنتشر فيه وفي فضائه وحوله طيور اليمام المطوق الذي هيئ لسعيد وأقرانه الأطفال أن هديله يسبح: اذكروا ربكم، يا كريم، اذكر…وطيور الشنار والزروزي والكعك، والسمر والبلبل..أما الأزهار والنباتات البرية فكنا وهي أصدقاء لا نغيب عن بعضنا بعضا إلا لنلتقي في الموسم القادم، كانت شقائق النعمان الحنون هي أولى الأزهار البرية التي تزين الأرض الجافة في أواخر الخريف، فمجرد قبلة من السماء للأرض، في أولى قطرات المطر المبكر كانت تستجيب للغزل الرطب فتنمو وتورق في غفلة من العيون حيث نكون غير متوقعين لهذا الظهور..
بعد ذلك كان ينضم النرجس، ثم تتوالى الأزهار البرية بالظهور على مسرح الأرض المغبرة لتحيلها الى حديقة عبقة الروائح خصوصا الزعتر والميرمية والقنديل الأصفر. كل أسبوع، أو شهر أو فصل كانت تنضم أزهار ونباتات جديدة، ما إن تختفي التي بدأت دورها مبكرة بالإزهار حتى تظهر أخرى في سيمفونية كاملة الروعة. لكن كل تلك الروعة في كروم والده لم تكن لتخفف شوقه للمكان المجاور…
“الدوير” لم يدر الطفل ابن بضع السنوات ماذا كان يعني الاسم، لم يكن همه دلالة الاسم أو من أي فعل اشتق، فيما بعد ربطه بطائر الدوري، وحاول أن يشتقه من الدائرة كون “الدوير” كان كنصف دائرة في شعب الجبل ذي الانهدام المعتدل، وربطه ب”عين الدوير” المشهورة في تلك الناحية والتي كان يشرب منها مئات الفلاحين والرعاة وأغنامهم ودوابهم.
كان سعيد يقين يساعد والده في أعمال الزراعة التي لا تنتهي، وكان يسعده أن يطلب منه والده أن يحضر له ماء من جدول”المصاية” أو من البئر أو من “الجهير” وهو مكان في الوادي كانت مياه الأمطار تتجمع فيه طازجة باردة. لكنه كان يحب “الدوير” العين والمكان كثيرا، وكان يتسلل من وقت الى آخر الى هناك، كان يحب العين الصغيرة والبرك حولها، والشجر الكبير الطاعن في السن والموغل في القدم، لكنه كان يلاحظ شيئا غريبا هو أن المكان مهمل، ولا يحرث، ولا تقطف ثماره، وقد أصبح موئلا للرعاة وأغنامهم، وكان سعيد يهتف لنفسه: ترى أين أصحابه؟ هل من الممكن أن يهمل أحد هذه الأرض الجميلة وأشجارها الكبيرة. لم يكن السؤال يفارقه؛ مرة يحزن على مشهد الأطلال، آثار العمران والزراعة والعين والبرك، ومرة يصب جام غضبه على أصحابه خائفا أن يكونوا قد باعوه لليهود ورحلوا الى أمريكا، كما كان يسمع في جلسات الكبار، ومرة يقطف من حبات اللوز، ويبحث عن الأعشاش، ويلهو ويلعب..
وظل “الدوير” ينادي الصغير حتى كبر، فأصبح لا يجد الوقت للذهاب الى هناك إلا قليلا، كان يركب حماره ويذهب الى هناك: يتأمل السلاسل الجبلية العظيمة متقنة الصنع، التي يسميها الفلاحون السناسل، كان حزنه أعمق على أطلال المكان، كان يود لو يبكي عين”الدوير” ويبكي ما كان هنا يوما من ازدهار خضرة وعيش، وكثيرا ما رسم وتخيل أصحاب المكان، هذا يزرع، وذاك يحرث، وآخر يقلم الشجر، وامرأة تحضر الطعام لأسرتها، وأطفال يلهون في برك الماء، وكبار السن يجلسون تحت ظلال شجر الزيتون الكبيرة..وفتاة وفتى يسترقان النظر، يهدي أحدهما الآخر وردا وأزهارا برية، حين كانا يلتقيان على”العين” بحجة العطش.
حين تأسست المستوطنة الإسرائيلية “جفعات زئيف” قريبا من المكان خاف الفتى أن تمتد الى أرض”الدوير” وبخاصة لأنها أصبحت مهملة، لا أشجار تحميها ولا سواعد: عين خربة، جدران وسناسل مهدمة، والأرض أصبحت كلها بورا بعد أن كانت جنائن قبل عقدين. اقترب محيط المستوطنة الى المكان، توسعت كالمرض على الأرض التي كانت مزروعة، وكادت تلامس أرض” الدوير”. صحيح أنهم لم يصلوا “الدوير” لكن مياههم العادمة وصلت الوادي، ولم يعد بالإمكان استخدام ماء “جهير” الوادي لا للشرب ولا للوضوء؛ فكتب الشاب الصغير رسالة احتجاج لما يسمى وزير البيئة في دولة الاحتلال وقتها يوسي سريد.
كان مما يسعده أن يتمشى في الأرض، هناك على رؤوس الجبال حيث الهواء النقي، كل شيء جميل: أرض خضراء، روائحها، ألوانها، سماؤها الزرقاء، أصوات الطيور: كيكوب، هديل اليمام و”مقاقاة” الشنار. كل شيء مريح ما عدا مشهد المستوطنة المطل من جهة الشرق، يسيء لضياء الشمس حين تشرق.
لم يكن سعيد أخي ليطمئن، كبر خوفه على المكان. حلم مرة قبل سنوات من شروع المستوطنين ببناء جدار شرقي أرضه أن والده ظهر له وهو في ثياب العمل قائلا له: عمّر الأرض التي فوق التعامير، حتى لا يطمع بها المستوطنون. تلك الأرض كان قد اشتراها والده من أصحابها الذين زهدوا في أعمال الفلاحة.
استصلح سعيد وأسرته الأرض وزرعها ، أصبحت “سناسلها” كبيرة، فقط الآليات الكبيرة تستطيع حمل قلاعها وصخورها وجبالها؛ مما جعل الزائرين للمكان يتعجبون: كيف تم استصلاح الأرض الوعرة الجرداء وتحويلها الى جنائن أضافها سعيد لجنائن والده التي عمرها منذ نصف قرن أو يزيد. سعيد الذي تخرج في الجامعة، بعد أن درس تاريخ المكان، وأساليب سيطرة المستوطنين الإسرائيليين على الأراضي، وضع كل ثقله في الدفاع عن الأراضي، حتى حينما كسرت ساقه، كان يتقدم الجموع بعكازته، للاحتجاج على مصادرة الأراضي. في مرة صحبه ابنه الصغير، وحين كانت العكازة تفلت منه كان صغيره يناوله إياها.
قالت امرأة إن سعيد بكى طويلا وهو يرى جرافات الاحتلال تلتهم أرض الفلاحين في قرية بيت سوريك المجاورة.
ثم جاء يوم اقترب فيها الجدار من أرض قريته بيت دقو شمال غرب القدس، اقترب من المنطقة الأثيرة لديه التي ينفق فيها معظم وقته، التعامير و”الدوير”.
بدأت الآليات تغزو المكان، عشرات منها أحالت هدوء الكروم الى زعيق وضجيج، وأحالت الخضرة الى غبار.
رأيته مرة جالسا عاقدا يديه على رأسه يتقي بها من حر الشمس، ربما، لكنني أحسست أنه بجلسته وحيدا هناك يرمز الى أن الفلسطيني وحيد دون أن يشد أزره أحد.
حاولت أن أقرأ ما يدور في رأسه: هل من الممكن أن يصادر المستوطنون أرضنا؟ لو أبي هنا ما زال على قيد الحياة هل كان بإمكانه تحمل ما يجري؟ هل يمكن أن نخسر حياتنا وأحلامنا وذكرياتنا وممتلكاتنا التي ركزها والدي في المنطقة الشرقية من القرية؟ كيف أستطيع الحياة بدون الأرض؟ هل أقاوم وأسجن أو أستشهد تاركا أسرتي الصغيرة بدون أب وبدون أرض معا؟ أسئلة كثيرة لا تنتهي أتعبت سعيد الذي صام عن الكلام والطعام.
كنت أنظر إاليه فلا أحب أن أسطو على خلوته، وأنا أخوه، الذي يقاسمه مع باقي أفراد الأسرة الهم الأكبر.
كان سعيد والشمس الحارة الساطعة، كانا وحيدين في الجبل ليس يشاركهما المكان غير صقر الفضاء، ولا أدري لم كان يختار سعيد الجلوس بالقرب من عش الصقر الذي طارت صغاره بعد أن تعلمت الطيران.
كان يرنو الى أرضه، يقبلها بعيونه، وكان يبكي طويلا وهو الرجل المشهور بالصلابة، وكنت أرى آثار الدموع في عينيه تفضح حبه وضعفه أمام الأرض. يا الله هل ما زال بيننا مثله؟ نعم، ففلسطين ملأى بعشاق حقيقيين للأرض.
ربما لم يكترث لحرارة الشمس لأن حرارة عالية تسكن دواخله، تجعل الداخل حارا يغلي، مما يجعل الخارج برادا.
تذكرت طفولتنا حين كنا نسعد بعش الصقر، وكان أطفال القرية يحذرون من سلب العش فراخه خشية من سعيد، كان يريد للبر أن يزدهر بالصقور واليمام والشنار والبلابل، وكان وهو طفل يقول: لا بد من الصقر لقتل الأفاعي!
قال له ضابط الاحتلال حاسما الأمر: سيمر الجدار من أرضكم.
فرد سعيد: ادخلوا إن كنتم شجعانا. وركب حماره وترك المكان.
خاف الجنود.
تقدمت الأشجار، والسناسل، تقدمت بقوة فخجل الجنود، وخافوا من خضرتها، من زيتونها وعنبها، وكل ما فيها، تحول سعيد من فلاح الى مفاوض صلب، كانت حجته قوية: أرضنا مزروعة، ونعيش منها وعليها، فانهزم الجنود، وارتدوا، فانحرفت الآليات عن المكان المخضر.
تذكر سعيد كيف أن الإسرائيليين يريدون التأكيد دوما أن هذه الأرض فارغة، وأنها بلا شعب، وأنها حق لشعب بلا أرض! من أجل ذلك سعوا الى إدماج الفلاحين للعمل في المصانع والورش الإسرائيلية بأجر عال في بداية السبعينات، أي بعد الاحتلال عام 1967، مما دفع جزءا من الفلاحين رويدا رويدا الى ترك الأراضي، وهاهم الآن بعد 3 عقود خسروا عملهم في الورش الإسرائيلية، وللأسف فقد خسر الكثير منهم أراضيهم، وآخرون أصبحت أراضيهم بورا بعد أن كانت بساتين خضراء.
لكن ما خاف منه سعيد تحقق، فقد التهمت جرافات المستوطنين أرض”الدوير” التي أهملها أهلها حين اختاروا أن يغسلوا الأطباق في نيويورك وشيكاغو. لقد أغرت الأرض التي أحالها الهجر الى صحراء المستوطنين الى سلبها. هناك على رأس الجبل ما زال”الدوير” يناديه، ويقول له: سعيد..يا سعيد، أيها الجار الطيب لا تنسني، أرجوك ألا تفعل ذلك، فظل السؤال في داخله يكبر ويكبر.
آخر مرة زار فيها “الدوير” علم أنه إنما يزوره مودعا لأنه سيصبح أسيرا وراء الجدار، هناك رأى كيف اختفت الكروم والأشجار و”عين الدوير”. لم يبق غير بضع شجرات زيتون. حتى الطيور والغزلان رحلت، لم يعد الرعاة يصدرون هنا لسقي الأغنام، ولا الأطفال لجمع نبات الزعتر. لم يبق هنا غير الجرافات. تذكر سعيد طفولته، فأجهش بالبكاء، ثم عاد الى كرمه، هناك أخذ بتقوية حدوده، ثم راح يزيل الأعشاب الضارة من حول الشجر، ثم عن له أن يغني وهو الذي لا يغني لأن الغناء عن مسرة؛ فغنى، فابتسم طفله الصغير.
سأحمل الحقيبة بما فيها من جوائز بسيطة وذكريات غالية، وسأسير في رام الله على قدمين، في حين ستتسلل عيوني مني هاربة الى الجبال.
رغم مصادرة جزء من الأرض، وكل جزء منها عزيز، ما زال لنا أرض، ما زال سعيد وأطفاله، وما زالت أشجار الحاج يقين التي تسكنها بعضا من ثيابه ورائحته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى