الحاجة صفية إبراهيم مصطفى موسى.. حارسة الأرض
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
في يوم الأرض، يطيب لي أن أكتب عن حراس الأرض وحماتها… عن الذين تعلقت أرواحهم بذرات الثرى، وعبقت دماؤهم التراب… فنمت البراعم… وتزينت الورود… وابتسم الوطن…
هل سمعتم بمصطلح حارسات الوطن…؟ رأيتهن في السهول، يداومن من مطلعها إلى مغيبها… والعرق الفلسطيني يسيل من نبع الجباه كأنه المياه… يروي عروق الحياة… وجذور الأمل، نعم كنّ في سهل دير بلوط… وسهول أخرى… واسمحوا لي أن أستعرض وإياكم سيرة حارسة من حارسات الوطن… إنه تاريخ يكتب بمداد عطري، لا يستطيع محوه لا مارك… ولا بسمارك… ولا نابليون…
بطاقة تعريفية:
الحاجة: صفية إبراهيم مصطفى موسى.
الكنية: أم نصفت.
مكان الولادة تاريخها : دير بلوط/ فلسطين 1944
تاريخ الوفاة: 9/2/ 2021
علامات دالة: خلّفت ثلاثة أولاد (جدعان)… ولها 16 حفيداً كأنهم الأشبال.
أم نصفت، قضت عمرها كله، في الأرض… وكأنها عندما ولدت في هذه الأرض، كتبت وثيقة عشقها لها… فلا تكاد تفرق بين أمنا أم نصفت الفلسطينية… وأمنا الأرض الفلسطينية. تزور الأرض يومياً، كل صباح ومع زقزقة العصافير، وقبل أن يطير الندى، كانت تصل أرضها… وكأنها تحمل برنامج عمل يومي فيها، تجمع الحجارة، وتبنيها سلاسل حجرية جميلة، وتجمع الأعشاب الضارة، وتخمرها سماداً عضوياً، تمسك عدة الحراثة التي يجرها حمارها، وتحثّه على السير في خطوط تحول الأرض حمراء بلون العشق… والطيور خلفها تلتقط خشاش الأرض… وتزرع الخير والقمح في أتلامها… وتزرع العدس والشمس في الثرى المزين بالجهد… والطاقة والمحبة… تنهي زراعتها الشتوية… وتبدأ بمعانقة أشجار الزيتون… أشجار التبر الفلسطيني الساحر… تحرث أرض الزيتون… وتبحش الأرض المجاورة للجذور… لينفذ ماء السماء إليها… وفي نيسان تبدأ زراعتها الصيفية فتكون على مصطبتها الخضار البعلية الرائعة: بندورة، وفقوس، وفاصولياء، ولوبياء… أم نصفت مدرسة في الإنتاج… مدرسة في التسويق والإدارة… مع أنها لم تدخل أي مدرسة إلا مدرسة الحياة… قضت طفولتها وزهرة شبابها في الأرض، تسرح إليها يومياً، ولم تنقطع عنها يوماً إلا عند المطر الغزير… والأيام الحابس…
وجاء شذّاذ الآفاق، أعداء الحياة والشجر والبشر… جاؤوا يقتلون الحياة، ويقتلعون الأشجار، ويقضون على الظل… تساقطت دموعها وهي ترى الأشجار تفارق أرضها… وترى الطيور تفارق أرضها… صاحت: أشعر أن قلبي ينقلع… أحس بالموت… حاول الناس مجابرتها… وتعزيز معنوياتها…
حملت ساق شجرة مقلوعة وجذورها، وكأنها تحمل وليدها… وأصبحت تحاورها تارة وتبكي… وتقبلها تارة أخرى وتبكي… وتبكي عصبتها… وتتحول خرقتها لراية حزينة…
أقلعت أم نصفت عن الطعام، وفارقت النوم كما فارقت أشجارها، وتعاظم حزنها… وبعد خمسة أيام من وداع أشجارها، كانت على سرير المستشفى… يلفها الكمد والحزن والكآبة… وتمطرها الدموع الغوالي…
قضت أم نصفت 19 يوماً في المستشفى… وودعت الحياة… ودعت الأرض… والضياء… ودعت الأشجار… ودعت الورود… ودعت ثوبها المردّن الفلسطيني، لكنها كتبت صفحة في تاريخ الوطن ” عنوانها حارسة الوطن”…