تعلّم كيف تتكلّمُ

خالد رمضان | تربوي مصري – صلالة – سلطنة عُمان

يؤثر عن الأخطل الكبير غياث بن غوث التغلبي أنه قال:

إن الكلامَ لفي الفؤادِ وإنّما

جُعلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلا

فالكلمةُ بريدُ العقلِ، وسفيرُ الفكرِ، سلطانُ الهوى، وأنينُ الجوى، تأسرُ العقولَ والقلوبَ، وتُزيلُ الهمومَ والكروبَ، تقرّبُ البعيدَ، وتُليّنُ الحديدَ. وقال أحدُ الحكماءِ: إذا تكلّمتَ بالكلمةِ فقد ملكتكَ، وإذا لم تتكلمْ بها فقد ملكتَها.
ويوما ما زار الخليفةُ العباسيُ المعتصمُ بالله وزيرَهُ الخاقان، وهو عنده رأى ابنَه الصغيرَ ويُدعى ( الفتح)؛ فقال له الخليفةُ مداعبًا إياه: يا غلامُ لقد جئتَ مع أبيك عندي فقل لي: داري أحسنُ أم دارُ أبيكَ؟ فقال الولد ودون رويّةٍ: دارُ أبي أجملُ مادمتَ أنتَ فيها. فأُعجِبَ الخليفةُ بذكاءِ الصبي. وحين رأى الولدَ ينظرُ إلى خاتمٍ يلبسُه قال له: أيعجبُك هذا الخاتمُ يا بُنيّ؟ قال الولد: إنه جميل. فقال الخليفةُ: وهل رأيتَ أجملَ منه؟ قال الولد: نعم، الأصبعُ الذي يلبسُه، فأقسمَ الخليفةُ ليملأنّ فاه الفتحِ درّا.
وقديمًا قال سقراطُ لشابٍ يطيلُ الصمتَ: تكلم حتى أراكَ… عزيزي القاريء أوصيك بأن تتذوّق طعمَ الكلمةِ قبل النطقِ بها، فإذا استسغتَها فقلها، وإلا أحبسْها داخلَ فمِكَ ولا تُؤذِ بها أحدا. فكم من بيوتٍ هُدِمت، وعلاقاتٍ مُزّقت، وأرحامٍ قُطّعت، وحروبٍ أُضرمت، وصداقاتٍ أُفسدت بسبب كلمةٍ.
فالإصلاحُ بين الناس ( كلمة)، والأمرُ بالمعروفِ ( كلمة)، والنهيُ عن المنكرِ ( كلمة)، والدعاء ( كلمة)، والزواج (كلمة)، والطلاق ( كلمة).
ويحكى أن  أحد أمراءِ بني أميّةَ دخل المسجدَ فوجدَ صبيًّا يؤمُّ الناس وخلفه عممٌ وهاماتٌ، فتعجب وانتظرَ حتى نهايةِ الصلاة، ثم سأله: كم عمرُك يا فتى؟ فأجاب الصبيُّ: سنّي أطال اللهُ بقاء الأميرِ سِنّ أسامةَ بنَ زيدٍ حين ولّاهُ رسولُ الله على جيشٍ فيه أبو بكرٍ وعمر. فنظر إليه الأميرُ وقال: تقدّمْ يا فتى تقدّم حفظك الله.. فتأمل ذلك الصبي كيف استطاع أن يكممَ فاه الأمير، ويعقِدَ لسانَه بهذا الردّ الحكيم.
كما يُروى عن عميد الأدب العربي طه حسين: أنّه كان يتعرّضُ لانتقاداتٍ كثيرةٍ بسبب آرائه الجريئةِ، ولكنه كان يقبلُ هذي الانتقاداتِ لأنها من أدباء كبار مثله كأنور الجندي والرافعي وغيرهم، وحين كان في فرنسا جاءته رسالةٌ من صُحفيّ شاب يتعدّى عليه بالقول، فأرسل له رسالةً فارغةً من كل شئ إلا كلمةً واحدةً ( حتّاكَ ) فحين فضّ الصحفيّ الرسالةَ لم يفهم شيئا.
ولما عاد طه حسين إلى مصرَ سألته مذيعةٌ في إحدى الحلقاتِ عن تلك الرسالة فقال: لم أشأ أن أعطيَه أكبرَ من حجمه فأردتُ أن أقولَ: حتى أنتَ تهاجمني، فوجدتُها كبيرةً بالنسبة له، فقلتُ: حتى أنت، فاستكثرتُ عليه ضميرًا منفصلاً وبثلاثةِ أحرفٍ، فقلتُ له: حتّاكَ، وبكافٍ واحدةٍ.
وأختمُ فكرتي في هذا المقام بقول الإمامِ الحسين – رضي الله عنه – حينما أرادوا أن يتنازلَ عن الخلافةِ لليزيد فقالوا له: بايعه يابن بنتِ رسول الله، إنما البيعةُ كلمةٌ. فعزّ عليه أن يكون ذلك الصبيُّ خليفةً للمسلمين فقال: كلمة! مِفتاحُ الجنّةِ في كلمة، ودخولُ النارِ على كلمة، وقضاءُ اللهِ هو الكلمة، والكلمةُ نورٌ، وبعضُ الكلماتِ قبورٌ، والكلمةُ فرقِ بين نبيٍّ وبغيٍّ. احفظ لسانَك أيُّها الإنسانُ؛ لا يلدغنّك إنّه ثعبانُ.. كم في المقابرِ من قتيلِ لسانه
كانت تهابُ لقاءه الأقرانُ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى