قصة قصيرة: في أحضان الحمى

زهرة طالب | العراق

أذكر أن جسدي كان ملتهبا من تلك الحمى العنيدة التي استباحت عروقي وراحت تعبث بدمائي مؤججة لأوجاع عجز الدواء عن كبحها. سرعان ما خارت قوى ذلك الجسد بعدما سجيّ على سرير في غرفة من غرف المشفى. أذكر أن الحمى كانت عصية على الكمادات الباردة التي لم تكل أمي المرابطة على كرسيها إلى جانبي من وضعها تباعا على جبيني الذي تحول لونه إلى حمرة قانية.

شعرت بطاقة تدفقت في أوصالي جعلتني أنطلق مسرعة إلى الشارع. وجدت وجنتي تتبعان ذلك النسيم العذب الذي راح ينعشهما بدغدغاته المشاكسة. بدت شوارع المدينة مختلفة عما ألفته من قبل، لم أكن لأخطئ مدينتي أبدا لكنها بدت غير تلك التي تركتها قبل يومين عندما أصابتني الحمى!

كانت شوارعها نظيفة للغاية، بدت كمرآة راحت تعكس أشعة الشمس متباهية بجمالها، لم تكن حاويات القمامة متخمة كما كانت دوما، ولم تكن أكياس القمامة مرتعا للقطط والكلاب السائبة! أصابتني الحيرة من أولئك الذين صادفتهم في طريقي، بدا البشر مختلفون جدا، الابتسامة تعلو الوجوه بينما لم ينكفئوا يتبادلون التحية مع كل من يصادفهم. وجدت نفسي مشدوهة وأنا أبحث عن ذلك الوجوم والعبوس الذي كان يلف المدينة بسكانها!

وجدت قدماي تقودانني إلى ذلك الركن من الشارع حيث بقالة العم محمود، ذلك الرجل الذي عرف دوما بقسوة قلبه وتطفيفه للميزان، بدا مختلفا هو الآخر وأنا أشاهده بأم عيني يغدق على المتبضعين بما يزيد عن حاجتهم من الخضار وهو يبتسم ويقول: هذه على حسابي بالهناء والشفاء.

تابعت سيري بينما لا أزال أقلب كل ما تقع عليه عيناي غير مصدقة. وجدت الناس يتجمهرون حول منصة قريبة، كان فضولي ما دفعني لمعرفة سبب تجمهرهم، اتسعت عيناي عجبا وأنا أرى ذلك الرجل ذي البطن المنتفخ، إنه النائب الذي طالما تعثرت بصوره التي احتلت الشوارع أثناء الحملة الانتخابية والذي سرعان ما اختفى عن الأنظار بعدما فاز بالانتخابات. وجدته يوزع أكياسا من الطحين والأرز تماما مثلما وعد ناخبيه قبلا!

سرت طويلا، بحثت عن المتسولين والجياع واللصوص، لم أفلح في العثور على أي منهم، بدت مدينتنا مثالية بكل شيء. لم تنته دهشتي عند ذلك الحد أبدا. توجهت حواسي نحو مصدر رائحة بعينها، لم أستغرق وقتا لأدرك أنها رائحة دخان نفاذة اخترقت أنفي بجدارة، سرعان ما انتبهت إلى ألسنة النيران المتصاعدة من فرن احتل قلب المدينة، كان فرنا عظيما لم تشهد عيناي مثيلا له، خط على قاعدته بخط كبير:” احرق جوازك هنا” لم أفهم ما قرأته فأعدت قراءته ثانية وثالثة من دون جدوى! رأيت أناسا يتقربون من فوهة الفرن يلقون بجوازات سفرهم الأحمر منها والأخضر والأزرق! لم أستطع كتم صرختي عند ذلك الحد فاندفعت الكلمات من فمي بعدما عجزت عن احتجازها:

أجننتم؟ ماذا تفعلون؟

كانت الابتسامة لا تزال مطبوعة على الوجوه، كل الوجوه! لم ألق جوابا، لكن رجلا مر بجانبي قال بهدوء بعدما شعر بضياعي: وما حاجتنا لجوازات سفر بعدما ألغيت الحدود بين البلاد؟ لم تعد هناك حواجز تفرق بين أرض وأخرى، لسنا بحاجة إلى تلك الجوازات المقيتة، بات من اليسير التنقل في بقاع الله المختلفة.

أودعني بابتسامة وانصرف لشأنه وأنا أنقل نظراتي بين الفرن وتلك الوجوه المطمئنة الباسمة. أحسست بالفرحة تلفني وتطبع الابتسامة على وجهي الذي تحول إلى وجه باسم كما باقي الوجوه!

شعرت بوخز إبرة استطاعت بسهولة اختراق جسدي الهزيل المثقل بالحمى، سمعت صوت أمي الحنون:

إنها تهذي يا دكتور!

لا بأس عليها، ستكون هذه الحقنة كفيلة في خفض حرارتها.

سمعت خطوات أمي وهي تشيع الدكتور إلى باب الغرفة مودعة بينما عجز لساني عن الصراخ: أرجوكم اتركوني في أحضان الحمى!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى