مغريات الحرب وعواقبها الكارثية بالولايات المتحدة الأمريكية
سعيد مضيه | فلسطين
“عموما تنتشر في اوساطنا فكرة تزعم اننا نحن الدولة ذات التفكير السليم والرغبة في السلم. دوما تصور الولايات المتحدة نفسها، بأسلوب ساخر، الطرف الجيد مقابل أعداء ، مثل الرئيس الروسي بوتين، مرادف للشيطان. يفضي التوافق مع هذه المعادلة وترديدها الببغائي الى تثبيتها حقيقة راسخة ، خاصة عندما تحتضنها الميديا الرئيسة. وكما عبر كريس هيدجز فإن ” صحافة الولايات المتحدة تمضي عرجاء امام العسكر”. وكل من يرفض المقولة الرائجة يحطون من قدره ، ينبذ وينفى ، وقد يسجن”. هذا ما ورد في مقالة نشرت في 11 أيار /مايو،للكاتب الأميركي، وليام أستور، المقدم المتقاعد في الجيش الأميركي، وأستاذ التاريخ ، يكتب بانتظام في “توم ديسباتش”، لسان حال المنظمة النقدية، “شبكة أيزنهاور للميديا”، التي تضم كبار العسكريين السابقين وخبراء الأمن القومي المعارضين للنهج الرسمي, والمقالة نقلها موقع كونسورتيوم نيوز عن نشرة “توم ديسباتش”:
يحق التساؤل: لماذا الولايات المتحدة ، قائدة العالم الحر (هذا ما اعتدنا قوله أيام الحرب الباردة الأولى)غدت كذلك قائدة في الترويج لحروب كونية ؟ ولماذا لا ينتبه المزيد من الأميركيين لهذا الواقع المتناقض؟ باعتقادي يوجد خمسة أسباب للإجابة على التساؤل.
وقبل الإجابة نعود فترة زمنية الى الوراء. لماذا انخرطت الولايات المتحدة بكل ثقلها في الحرب الروسية – الأكرنية؟ ولماذا تورطت بمنهجية منتظمة في العدد الضخم من الحروب على هذا الكوكب منذ أن غزت أفغانستان عام 2001؟
بمقدور أصحاب الذاكرة القوية ان يرددوا صدى راندولف بورني، الناقد الاجتماعي الراديكالي قبل قرن مضى، إذ قال ، ” الحرب هي عافية الدولة”، او يستذكرون التحذيرات التي أطلقها مؤسسو هذه البلاد ، من أمثال جيمز ماديسون، “الديمقراطية لن تموت في الظلام ، إنما في الضوء الساطع لانفجار عدد من القنابل خلال فترة ممتدة “.
في العام 1985 عندما التحقْتُ بالقوة الجوية الأميركية كان الصراع بين الاتحاد السوفييتي وأكرانيا يعتبر حربا أهلية داخل الاتحاد السوفييتي؛ وفي سياق الحرب الباردة لم تكن الولايات المتحدة بكل تأكيد لتجرؤ على ان تنفق بلايين الدولارات ثمن أسلحة ترسلها مباشرة الى أكرانيا كي “تضعف” روسيا؛ في تلك الأثناء كان التدخل المكشوف في النزاع بين الاتحاد السوفييتي وأكرانيا سيتطور ببساطة الى حرب. تغير كل شيء مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991؛ وبالتدريج تحولت منطقة نفوذ الاتحاد السوفييتي الى منطقة نفوذ أميركية. لم يسأل احد روسيا هل تهتم بهذه التغيرات؛ نظرا لأنها كانت، تتدهور بشكل خطير ؛ حتى جمهوريات الاتحاد السوفييتي المجاورة لروسيا باتت تابعة لأميركا، تبيعها السلاح ، بغض النظر عن تحذيرات روسيا حول “الخطوط الحمر”، وباتوا يطلبون من أكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو.
والآن في ضوء ما تقدم نأتي الى عوامل قبول الأمريكيين بتناقض الوقائع على الأرض مع الرواية الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية:
اولا وقبل كل شيء، تجلب الحرب منافع جمة. فعندما انهار الاتحاد السوفييتي أيقن التجمع الصناعي – العسكري بالولايات المتحدة بانفتاح فرص بيزنيس ضخمة. أثناء الحرب الباردة كان أكبرتجار السلاح بالعالم الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي , ومع غياب الاتحاد السوفييتي غاب أيضا المنافس الرئيس للولايات المتحدة في بيع الأسلحة في كل مكان. لننسى الوعود حول” انصبة السلام” التي وعد بها الأميركيون حينئذ بإحداث تخفيض ضخم في موازنة البنتاغون. حان الوقت لأن يتوسع كبار صناع الأسلحة في أسواق خضعت طويلا لهيمنة الاتحاد السوفييتي.
في تلك الأثناء فضل حلف الناتو ان يتبع مثال الولايات المتحدة بطريقته، توسيع حدود المانيا التي أعيد توحيدها، حتى الحدود الروسية بالذات. اسفر التحول عن خسارة لروسيا ، بينما تجار الموت في اميركا يكدسون الأرباح، وحاليا جيرت الخسارة على أكرانيا خاصة والحرب تتواصل والدماريتسع.
وثانيا، حين نكون حيال ترويج الحرب على نطاق كوني ، كيف تكون بنية التسلح الأميركية ورسالتها؟ كيف بمقدور هذا البلد العودة الى ما كان يعرف ب” الانعزالية”، بينما هي تحتفظ ب 750 قاعدة عسكرية منتشرة فوق جميع القارات باستثناء القطب المتجمد الشمالي؟ كيف لا تروج لحرب وفق نموذج معين حين يتم تعريف الرسالة العسكرية عالية التمويل بشكل لا يصدق بانها مشروع قوة عولمية تشمل جميع “اطر ” المواجهة العسكرية ، برا وبحرا وجوا وكذلك الفضاء والفضاء الخارجي؟ماذا تتوقع حين تساوي موازنة البنتاغون الموازنات العسكرية مجتمعة لأحد عشر بلدأ يليها من حيث القدرات الحربية، او عندما يقسم البنتاغون، بما تعنيه كلمة “يقسم”، العالم كله الى قيادات عسكرية أميركية يقف على رأسها جنرالات وأدميرالات أربع نجوم، كل منهم يمتلك سلطات قنصل روماني ؟ كيف لا تتصور أن كبار المسئولين يؤمنون بأن للولايات المتحدة في تلك الظروف مصلحة في النزاعات المسلحة في كل مكان ؟ مواقف كهذه تأتي نتاجا واضحا لتلك البنية وذلك الإحساس برسالة عسكرية كونية.
وثالثا، لنتامل قوة المقولة المهيمنة في واشنطون هذه الأيام. بالرغم من حروب لانهاية لها ، خاضها هذا البلد ، يجري تبليع الأميركيين عموما فكرة تزعم اننا ، نحن الدولة ذات التفكير المتميز والراغبة في السلم. دوما تصور الولايات المتحدة، بأسلوب ساخر، الطرف الجيد مقابل أعداء ، مثل الرئيس الروسي بوتين، مرادف للشيطان. يفضي التوافق مع هذه المعادلة وترديدها الببغائي الى تثبيتها حقيقة راسخة ، خاصة عندما تحتضنها الميديا الرئيسة؛ وكما عبر كريس هيدجز فإن ” صحافة الولايات المتحدة تمضي عرجاء امام العسكر”. وكل من يرفض المقولة الرائجة يحطون من قدره ، ينبذ وينفى ، وقد يسجن. مجرد سؤال نوجهه لأولئك، أمثال تشيلسيا مانينغ ، جوليان أسانغ ، دانييل هيل وإدوارد سنودن، ممن واتتهم الجرأة لتحدي حكاية الحرب الأميركية وكشفوا السياسات التي تمرر بالظلام، ودفعوا أثمان المواقف.
ورابعا، الحرب عامل توحيد وإلهاء . في هذه البلاد ساعدت الحرب على توحيد الشعب الأميركي، وهو يبلّغ مرارا وتكرارا بضرورة ” دعم جنودنا” ك”أبطال” يحاربون ضد ” الإرهاب العالمي”. وفي ذات الوقت تبعدنا عن الحرب الطبقية بالداخل، حيث طبقة الفقراء والعمال ( وبصورة متزايدة طبقة متوسطة تتقلص كذلك) كل هؤلاء هم الخاسرون قطعا . وكما طرح الأمر الملياردير الأميركي ، وارن بوفيت،” تنشب حرب طبقية ، حسنا، إلا أنها طبقتي ، طبقة الأثرياء، هي التي تشن الحروب ونحن ننتصر”
وخامسا ،الحروب التي لا تنتهي ضد الإرهاب ، بما في ذلك الحرب في أكرانيا ، أفادت في لفت الانتباه عن حقيقة سياسية أعظم، تراجع الولايات المتحدة في هذا القرن وفشلها السياسي .( لنفكر في دونالد ترامب ، الذي لم يصل البيت الأبيض كحادث عرضي ، بل ، على اٌقل تقدير، لان الحروب الكارثية ساعدت على تمهيد طريقه الى البيت الأبيض).
غالبا ما يصور الأمريكيون الحرب بالقدرة الذكورية، كما عبر المسئولون بإدارة جورج بوش تعبيرا عن رغبتهم في شن الحروب على نطاق الكون. يحس الكثيرون بيننا حقا بأننا نشهد انهيارا وطنيا لا يرحم ، كما يبدو. ارتفاع اعداد القتل الجماعي برصاص البنادق، الموت بالجملة نتيجة سوء مقاربة وباء كوفيد 19 ، وفيات بالجملة نتيجة تعاطي المخدرات، ازدياد أعداد الانتحاريين، بمن فيهم جنود بالخدمة العسكرية، ثم ازمة امراض ذهنية متنامية بين الشبان.
إن فشل السياسة يغذي ذلك التردي ويفاقمه، حيث الترمبية تأخذ شكل الحنين الرجعي الى حيث كانت أميركا دولة”عظمى”، لتعود ” عظمى من جديد”-إذا ما وضع كل متفوق في مكانه اللائق، إن لم يكون في القبور . الانقسامات والتباينات تفيد في إبقاء العديدين منا في حالة انسحاق وضياع ، ينشدون قائدا يوحد ويلهب، حتى لو كان ذلك من أجل قضية ضحلة وكاذبة، مثل مظاهرة الكابيتول في السادس من يناير 2021، تحت شعار” اوقفوا السرقة”.
رغم بروز تدهور النسبي للمكانة الدولية للولايات المتحدة وفشل سياساتها وتجليها في كل ما يدور حولنا، فإن العديد من الأميركيين يواصلون التباهي والشعور بالارتياح لفكرة تراودهم تزعم أن العسكرية الأميركية تبقى الأفضل عبر التاريخ في سوح القتال – مزاعم وردت على لسان جورج بوش وباراك أوباما وجو بايدن وقادة اخرون كثر.
العالم كله مسرح
قبل خمسة عشر عاما خلت دخلت في حوار عقيم مع صديق محافظ بصدد هل من الحكمة أن يقلص هذا البلد تواجده العولمي، وخاصة في المجال العسكري؟ هو رأى في الولايات المتحدة فاعلا رحيما على المسرح العالمي؛ وانا رأيت الولايات المتحدة توجهها اطماع ، ليست حاقدة بالضرورة، وغالبا ما تضل قيادتها وترفض كل ما يتعلق بعيوبنا . في الأساس قال ان العالم كله مسرح وإذا ما انسحب هذا البلد منه فإن غيره، الأخطر، سوف يحلون محله، ويسببون المكابدة للجميع. رددت عليه بالقول ، علينا على الأقل ان نترك المسرح بحذر ونرقب هل يشعرون بغيابنا. ألم يكن وجودنا ضخما دوماعلى المسرح ومكلفا بالنسبة لنا؟ وإذا افتُقِد هذا البلد حقا ، فبمقدوره العودة، وربما بعودة الظافر.
بالطبع يود المسئولون في واشنطون والبنتاغون بالفعل ان يتصوروا أنفسهم دولة قيادية، ” الدلولة التي لا غنى عنها”، وهم عموما لا يرغبون في اختبار بديل آخر. بدلا من ذلك، شأن الكثير من الممثلين المتقنين للغة الجسد، كل ما يودونه محاولة الهيمنة على كل مسرح منظور.
في الحقيقة لا يتوجب للولايات المتحدة التورط في كل حرب تنشب، وبلا شك ستمتنع إن لم يشعر ممثلون معينون ( شركات كبرى او أفراد) انها تعود بالفوائد.
إذا ما نظر بجدية الى الأسباب الخمس التي أوردتها آنفا فبالإمكان حقا توفر درب اكثر حكمة وسلمية تجتازه بلادنا. لكن هذا الاحتمال لن يتحقق إذا ما أحتفظت بقدراتها تلك القوى المستفيدة من الوضع القائم – وتواصلت الحروب بدون ان تكون قبل اوبعد..
والسؤال المفترض أن يوجه بطبيعة الحال : كيف نحصل على الفوائد من كل صنف للحروب ونخفض قدرتنا العسكرية بصورة جذرية( خاصة “بصمات اقدامها” ما وراء البحار)، بحيث تغدو حقا قوة من أجل “امننا القومي”، وليس العكس، قوة تهدر الأمن القومي .
الأميركيون يحتاجون قبل كل شيء الى مقاومة إغراء الحرب، وذلك نظرا لكون الحروب المستدامة والاستعدادات للمزيد من الحروب ، كانت السبب الرئيس للتدهور الوطني. أمر واحد اعرفه: ربما يكون التلويح بالأعلام الزرقاء والصفراء تضامنا مع أكرانيا، ودعما لجنود “نا”، شيئا جيدا ، لكنه لا يحيلنا مجتمعا جيدا. في الحقيقة لن يكون من شانه سوى الإسهام في نشوب انماط من الحروب أشد هولا”.
أستاذ التاريخ باتريك لورنس كتب تحت عنوان ” الخنوع العظيم- المجد لأوكرانيا” المعْلَم المثير لغزو روسيا لأوكرانيا ، انه بعد عدد من السنوات العجاف اخيرا سمح لحزب الحرب الأميركي المثول بصفة “الشخص الجيد”. بعد عقدين من “الحرب على الإرهاب” الكارثية ، والكوارث بلا مخفف لآلامها في أفغانستان والعراق وليبيا والصومال وبلدان أخرى كثيرة وجد الأميركيون انفسهم بجانب الأكرانيين المعتدى عليهم وفي مواجهة الرئيس فلاديمير بوتين ” مجرم الحرب” و”مبيد العرق”.
ربما تأتي غير دقيقة قراءة الحالة الراهنة من هذه الزاوية وبصورة مجزوءة من طرف واحد، و يجب ألا تمضي بدون تعليق. فهي قراءة مغرية تغذي نرجسية الولايات المتحدة وقوميتها المتطرفة، كما ان تغذية ميثولوجيا العنف الخلاصي لا بد وان تسبب الأضرار الجمة.
ومع كل هذا ، فقد حان الوقت للطلب من البنتاغون وقف جولاته الخرقاء العالمية بعنف لا تبدو له نهاية. وإذا حان الوقت ولو لمحاولة الحلم ببديل ، اكثر سلمية ربما ان في المقام الأول بين متكافئين.. في اميركا اللحظة الراهنة ، حتى هذا الحلم بعيد المنال لانه مطلب كبير جدا.
صاحب لي يعمل في القوة الجوية قال ذات مرة عندما تشن حربا طويلة الأمد فأنت تشنها خطأً؛ لسوء الحظ عندما تختار المسرب المظلم للهيمنة الكونية ، فانت أيضا تختار درب الحرب المستدامة والأوقات المربكة تميزها المخاطرة القاسية، مخاطرة الضربة المضادة العنيفة ( ظاهرة حذرَنا منها برؤية نبوئية المؤرخ والناقد تشالمرز جونسون قبل تفجيرات 11ايلول).
بكل تأكيد تشعر واشنطون انها تقف بالجانب الصحيح من التاريخ في هذه اللحظة من تاريخ اكرانيا؛ وعلى كل حال فالحرب المستدامة يجب أن لا تموه بستار القوة ، وبالتاكيد ليس بغطاء الصواب، خاصة على كوكب يطارده إحساس بالدمار الوشيك.