ملامح الكتابة الشعرية عند الشاعر المغربي محمد بلمو في (طعنات في ظهر الهواء)

د.  الغزيوي بوعلي | المغرب – مختبر اللغة والفكر بافس

الديوان عبارة عن حوارات لا متناهية مع المناهج والتيارات الفكرية والفلسفية لأن تأسيس شعرية حوارية هي رهانه الأسمى.

هو شعر غير متصالح مع الواقع لأنه رفض كل ما لا يلتحم مع المضمر والمختفي من أجل رفض كل ما هو آن.


تقديم:
إن للسؤال دلالة وجودية تتحدد من خلال الصياغة التالية،: في البدء كان السؤال يفرض نفسه على الفكرة أثناء طرح المشاكل، فالسؤال قاعدة للنهضة الأنطولوجية باعتباره يتحدد كموضوع لاختلاف خاص بالوجود، فالسؤال هو: أين النحن، من منطلق الفكر الحديث، وكيف نستقرئ هذا الديوان “طعنات في ظهر الهواء”.
في مرحلة ظهور الحداثة خاض الغرب حربا مع نفسه، مع تراثه، فتمت القطيعة مع السابق وكانت النتيجة تحقيق الذات الفاعلة وإثبات الهوية وإلغاء كل اليقينيات. أما الفكر العربي فلم يزل ضمن الخصوصية الماقبل الحداثة، يبحث عن هويته وماهيته بدون أن يجيب عن أسئلة الواقع المعاصر، لأننا لازلنا نعيش الخطاب الأصولي والنهضوي، باعتباره عبارة عن تقليد مزدوج الرؤية واللغة.
فالوعظ والإرشاد والنهضة والعلمانية مفاهيم ليست كفيلة بخلق قارة جديدة تنضاف إلى القارات الأخرى، بل إن تفكيك النصوص التراثية من الداخل هو السبيل الوحيد للخروج من السلبية والماورائية النصية، واعتماد المناصات الخارجية، والتناصات القرائية لفهم هذا الواقع وهذا الإنسان. فمن أرسطو إلى هيجل ظلت الفلسفة وفية للذاتية وتحتها ظل الفكر الأنطولوجي يتحدد بمنطق التناسب لكي يتم التعبير عنه وفق منطق رياضي أو هندسي. لكن مع ظهور ثورات فكرية فلسفية، تعرضت هذه الأنساق البنيوية لهزات عنيفة من طرف الفلاسفة منهم على الخصوص “نتشه”‘ وخاصة عندما قال “أنا لست إنسانا وأن الدين ميت”.
فنتشه رغم شطحاته الفكرية، وتعبيراته التموجية، فإنه يقف وقفة المتأمل في هذه المفاهيم التي يلوكها منذ العصور القديمة إلى يومه، لقد أراد أن يصرخ أمام العالم الذي يتجدد برؤية واحدة، ويؤمن بفكر واحد، من أجل إعادة النظر في هذا المشروع الغربي المتمركز حول “الأنا” فعرض قضايا العدمية والقيمة والهوية والدين للمساءلة والنقد. هذه الرؤية النقدية لفلسفة التمركز والحضور، عرفت أيضا تمردا من طرف الشاعر محمد بلمو، فهو الذي غاير المألوف بلغة باطنية، لا تقف عند حدود البراديكم الذي منطقه اليونان والغرب الكلاسيكي، بل جعل العقل والموجود واللغة والوجود والإنسان إعلان اختلافي وتنوعي في المسار الفكري، فدعا إلى ربط الذات بالوجود، على اعتبار أن الموجود يفكر في الوجود ويختلف عنه. هذا الانزياح عن المعيار الحضوري للوجود بما هو موجود وتبعية الوجود للعقل، وأن الوحدة والماهية والجوهر شيء واحد، يحتوي على المشابهة والمطابقة، والهوية. لذا هدم بلمو كل هذه الأنساق من أجل فتح باب الإبداع، إذن كيف بنى بلمو قارته الشعرية؟
لقد عمل محمد بلمو على العودة إلى هذا الظمأ ببنية المستلبة باعتبارها المحكي الاسترجاعي النثري الذي يقوم به، حيث يركز على شخصيته المقترنة بأفكار وتصورات ومواقف ومشاعر وأحاسيس يقول:
كلما تقدمتُ
داهمتني حروبٌ
نساءٌ هارباتٌ مِن النارْ
أطفالٌ يأكلهم الغبارْ
لأن الرصاصَ يسبق إلى حدائقهم
القطارْ
تنهزم الاستحالات… الديوان ص: 15
فهذه الصورة الشعرية جعلنا ندرك المغايرة لهذا التراث الشعري، لأن الشعراء تناولوا عدة أبواب قيمية وعدمية وإنسانية، بشيء من الرؤية الحضورية التي لا تتنافى مع السلطة المرجعية، فالبعد الحضوري لهذا التراث عند الشاعر خاضع لقوانين القلب والعقل، باعتباره سلطة خاضعة لهذا الإبداع، يفكر في وجوده من خلال الموجود المتواطئ، لا أن يفكر من خلال المؤسسة (عمود الشعر) عن وجوده هو، لأن منطق التبعية يفتح إمكانية البناء الممكن للاقتراب من الزوايا المتنوعة والمختلطة، يقول فيكتور هوغو “يجب أن يتحمل الشاعر اليوم عبء ما أفسده السفسطائيون، عليه أن يمشي كالشعلة أمام أفراد الشعب وأن يهديهم إلى كل المبادئ الكبرى للنظام والأخلاق والشرف، وحتى ينفذ إلى ألباههم بسهولة ويكون محببا إليهم، يجب أن يعرف كيف يحرك بأصابعه نسيج القلب الإنساني وكأنه أوتار قيثارة، وألا يكون شعره صدى لأي كلام غير كلام الإله، ويجب أن يتذكر دوما ما نسيه أسلافه، وأن يذكر دوما أن له هو أيضا ديانته الخاصة وحزبه الخاص، ويبحث أن يغني دوما أمجاد وطنه ومآسيه ومناشط عبادته سرورها، حتى يجني سابقوه ومعاصره، شيئا من عبقريته وروحه”.

انطلاقا من هذا الطرح نستشف أن شعر بلمو أحد أنواع الخطابات التي تحتل موقعا ماديا حول القصائد، نظرا لوجودها المستقل في فضاء المؤلف شأنها شأن الإهداء والعنوان، خطاب موجه لنصوص سابقة، حيث ينتمي إلى صنف النصوص اللاستهلاكية، وهو بذلك يحتل موقعا منفصلا عن متن السيرة الذاتية الموجود على الغلاف الخارجي، إنه ينتمي إلى العناوين يقول بلمو:
أضحكُ في وجهِ الحزنِ
حين ُيتوجُ الخبثُ
ينكسرُ الصّفاءُ
على إيقاعِ
المبتدلْ
وأنا أثورُ على نفسي
ولا أزلْ
لم يختفِ الحقدُ
ولا في المتحفِ
حفرَ المؤرخون قبرا سحيقا
لسراديبِ المعتقلْ (ص: 19 من الديوان)
فهذا البوح التراجيدي هو استراتيجية عامة لتفكيك العالم والآخر، من أجل بناء فكر منضاف أو ما يسد نقصا، وهذه الثنائية هي عبارة عن تأجيل لخلق مسافة بين الذات والموضوع، وبين الأنا/والواقع وبين الإبداع/والإتباع، والخير/والحقد، لأن هذه الثنائيات ترتبط بالماضي والحاضر والمستقبل من خلال الأثر، فبلمو يبتكر تجلياته من خلال البوح ليكون وظيفة داعمة ودائمة، باعتبارها إيقاعا فكريا لا يتوقف عن الثورة، مما يجعلها تخلق المفاهيم الجديدة باستمرار للتقدم.
فبلمو يعتبر اللغة الشعرية كمنطق للتعدد وخطوط موطدة، وتوليدات صرفية وتركيبية ومشتقات محمولاتها التي تجدد الأصلي والمشتق، إنها صورة الفكر والعاطفة التي توجه إبداع المفاهيم، لأنها تنعكس في مرآة الذات المكلومة، يقول: “أحبتي وراء قضبان الألمْ/لا سلاح لكم/غير جوعكم/لا عرب في خندقكم/لا عجمْ/لا أسْعَفني/ كي أقبل طيوركم/قلمْ/أنتم الأحرار/في سجون الجلادين/ونحن عبيد طلقاء/فوق الأرض/ينهش لحمها/الندمْ/تجار السلاحِ/والأقداح/ والنباحُ يمدحُ تلابيبَ العدمْ”(الديوان، ص: 53) (بريد الجثث).
فالنغمة الرئيسية هي الحزن والغربة والضياع، حيث يمثل هذا الموقف اتجاه تجار السلاح، صراعا بين الذات والوجود، حيث لا تعجز اللغة على تصوير أحلامها، لأنها تتحرك وتسير لتظل محسوسة في إطارها الغرائبي، ما دامت تؤمن بمنطقها المخالف ونظراتها في تقييم الوجود الإنساني، فما يترتب عن هذه الرؤية الانزياحية هو ضياع البعد التواصلي في متاهات الوجود، وأصبح الجلادُ هو الذي يفتتح الجلسات، حول مشيئة الإنسان حيث يقول الشاعر:
يا كلابَ الرأسمال المجنون
كم مرةً خنتمُ الماءْ
كم مرة سحلتمُ السّماءْ
على دخانِ مهازلكم
كي يضحكَ الثُّقْبُ، كي يشهقَ الجرحُ
يَتعنْكبَ الألمْ (ص: 45 – 46)
هذه الكلمات والجمل الإيقاعية، جعلت الذات الشاعرة تحتل مكانة بلغة درامية، تظهر لنا بداية القصيدة، والميزة التي تطبع الديوان، حيث لم تعد تلك القصائد القديمة التي تنتهي بالقافية كما في نصوص: لامية 2012، لن توقفوا ناركم، أيتها الأحزان مهلا، الساحرة، عودي أريج كي ترقص، طعنات سحيقة، بريد الجثث، الأمل لا يموت، عندما أموت، لا أكتب.
فهذه العناوين الفرعية تتجاذب نحو الذات لكي تعيش الاغتراب والأحلام وتتوزع بطائقها بإحساس كوني، هو رمز العلاقة بين الذات المغتربة وبين العالم الأشرس. لهذا كان الحوار مع الذات تجسيد لكل ما هو أعم وشمل، من “همهمات” إلى “لا أكتب”، وعبرهما يعبر الشاعر بلغة تنفخ الأرجيل والسأم، لتعمق الجراح والآلام، ولتطمع هذه الذات بالندم، لذا دعي منذ القدم بالمشرع أو النبي، الذي يشرعن الوجود ويشارك في الأبدي واللانهائي، يقول شيلي Shelly: “إن الشعراء هم كهنة يوافيهم إلهام غريزي، إلهام المرايا التي ترتسم على سطحها الظلال الهادئة التي يلقيها المستقبل على الحاضر، إنهم الأبواق التي تعرف ألحان المعارك، إنهم التأثير غير المتأثر وهم المشرعون غير الرسميين للعالم”.
فالشاعر كلم هذا العالم ليبرز لنا خصوصية الذات المبدعة، لذا اتخذ شعره نفحة سنفونية متنوعة، انطلاقا من هذه المقولة لتشليلي، نستنتج أن الشاعر هو إنسان هذا العصر، سريع السأم والحزن غسلته الأيام وبين أشواك الحياة حملت له زمن الأقداح لكي يصبح روحا متنقلة بين الأزمنة، يقاسم بقوة عزمه وحركة إبداعه مع التماثيل الإنسانية حيث يقول:
“عند ما أموت
أمشي وحيدا
إلى المقبرة
في الصباح أحيانا
في المساء
أو منتصف الليل
عندما أصل
أختار ربوة صغيرة
أدفنني واقفا
مثل شجرة، أغرس البحر في جبهتي والزعتر في قدمي” (ص: 70)
هذا التصور المادي يقربنا من الأساطير الفرعونية والبابلية والأشورية، لأن الشاعر هو الذي يبحث عن نهايته لينبعث من أدغال الأهوال، فهو الكاشف والرائي والباحث عن حقيقته وكينونته، ولا يجب اختزال إنسانيته في الإنسان، بل يحمل صورته الكلية للوضع البشري، لأن في الموت عبور نحو الحياة بواسطته نعرف من نحن؟ وماذا سنصنع في العالم المادي؟ وكيف أتينا؟ وأين نسير؟ كلها أسئلة هزت كيان الشاعر، وجعلته يعيد النظر في هذا الكون، والحياة.
يقول:
عندما أموت
أمشي وحيدا
أحفر قبري
بأظافيري
لأن أبي
كان فلاحا عظيما

علمني كيف أنقش التراب

أمشي وحيدا بلا مشيعين … (ص: 68 – 69)
فالشاعر بلمو يطوف في اللامادي، يختار وجده لأنه لم يجد من يدثره ويطعمه ولا من يسير من أجله، هكذا تتوالد الأحزان وتتوحد المواقف بالحسرة والإحباط في مواجهة هذا الغريب الذي يفتك بالشاعر، ويظل يحمل نهايته بلا أمل، ولا أمد، يظل يسبر بظله في هذه الحياة الزائفة التي نعيشها حيث يقول:
يذرفون بعض الدمع
وفي المساء الحزين
يتبادلون النكات
والحلويات
والإشاعات(ص: 69)
يتحول كل شيء إلى ملهاة، وتتحول المأساة إلى مرارة يلودها وحده، ويصبح الحزن سجنا له والرغبة في الموت الذي هو في الحقيقة الحزن، في ضوئه ندرك أن الشاعر يعيد صورة أريج لكي يدرك معنى الحياة والموت على السواء.
فالحزن هو موته، والعتبة العليا التي من خلالها يعيد مصيرنا البشع، الهارب المجدوع في المرآة، ويقول:
“من ذا الذي لم يوقظ
في روحه سؤال السماء
هل يتحمل برعمك
البنج والليزر والكيمياء
فلأبْكِ ملء الأرض
ولْتبكِ الجبالُ
والشلالُ
والماءُ المعذبُ الزلالْ
كم عليك أن تصمدي
أريج …”(ص: 44)
فالشاعر محمد بلمو يتساءل بحرقة حول مدى تحمل أريج التي تحيا بلا أمل، وبلا أمجاد بلا صليب لا تعرف من القاتل والمقتول، فهي مستسلمة كالملاح الصريع، لكن الشاعر عبر هذه القصيدة يرسم لنا طفولتها في زمن السأم، يغلفها الرمز والقناع من أجل الكشف عن جوهرها، وكينونتها المغروسة في قلبه الغريب والمرتجف من الموت والصقيع، يرتجف بدبيب الحزن لكي يبني ربوة داخله، والأوراق الشعرية تأرخ لهذا الهيكل القريظي، والموت ينسل كالحية الرقصاء مقتفية أثر الواقع في الديوان ومحاكاته الجوانية كإحساس نفسي، وشعور سيكولوجي ترغب في تقويم السلوك، وفقا لقانون الإدراك الإبداعي، والخيال المجنح الذي يكسر التناقضات والمعيارية عبر أشكال السلطة الاستعارية والرمزية. فبلمو يلاحق الغريب والمنفلت من أيادي اليومي ليرتمي في أحضان الحب والحنان والعدالة والرغبة في تجاوز الموت، وهذا ما قاله شارل لوكران في كتابه “أيتها الحداثة يا موطن الإنسان”، فهذا الاختيار هو عبارة عن رخصة سيزيفية ترتمي في تربة التراث الغرائبي بلغة ركحية تؤطرها رغبات وجودية ضمن إنتاجات متنوعة وغير ثابتة، تعمل على ترتيب الأزمنة وفق منطق انزياحي رمزي، استجابة للشروط الذاتية واللغوية والإيقاعية والعاطفية الجامحة. فالتجربة الشعورية والوجدانية قادرة على التأثير في الواقع الممكن، ومخاطبة العاطفة لإحداث خلخلة في القيم والأخلاق وإبداع المفاهيم، لأن الشعر فهم وإفهام، وروح لمن لا روح له، وقيمة وتوصيل ولغة وشعرية، وذود ونبراس نستضيء به في هذا الوجود، وعظمة لا يمكن أن تتم بالمعايير الفنية والأخلاقية وحدها، بل لابد من تداخل وتعانق بين التجارب الذاتية والموضوعية، وكل المبادئ التي تختزلها الذاكرة. يقول في هذا الصدد:
“الأملُ
تُزهرُ أشجارُه
بِأصابِعِ النساءْ
الأملُ تُوقظُ جِذعهُ
خطواتُ الأرضِ
في السماءْ” (ص: 56 – 57)

الذات بين اليأس والأمل
إن الديوان يحمل حقيقتين متناقضتين يجد المتلقي نفسه أمامهما عند تتبعه، فيرى أن الحقيقة الأولى تظهر أن قدرة بلمو على كشف طبيعة الانهيار والسقوط الذي انتهى إليها الواقع بعد تقويته أدى إلى إزاحة كل الأقنعة البراقة، وهذا الأمر يتطلب حسا مأساويا خارقا يتمثل في استثمار لغة الحزن بالمضمون العاطفي يقول في هذا:
من ذا الجبانُ الدنيءْ
كيْ يُباغثكِ بالأوجاعِ
وأنتِ محضُ يُرْعُمٍ
هشٍّ
بَريءْ (ص: 38)
أما الحقيقة الثانية فتتجلى في سيطرة النزعة المتفائلة على المضمون العاطفي، مما يضعنا أمام تناقض حقيقي بين ما تفرضه وجهة النظر النقدية، وبين وجهة نظر الشاعر التي تعتمد على المنطق الجدلي الحي، فالغربة عند الشاعر تتحدى وتتجاوز من أجل الوصول إلى قارات فكرية وخيالية، معتبرا هذه الصور هي نتيجة لمقدمات جراحية تنغرس في جذور الواقع الذاتي والواقع الاجتماعي للشاعر، ويقول:
صدقوني
أنا لا أكتبْ
أنصبُ فِخاخًا صغيرةً
للمبتدلِ والنَّمطْ
كيْ لا تموتَ في فيافِي صمتي القِططْ
أستدرجُ المُتعبينَ
إلى حدائقِ اللغةِ. (ص: 71 – 72)
فجدلية الغربة والضياع تنضب من صور الأمل ومن صور اليأس التي تكاد تطغى على صور الأمل، مما دفع الشاعر إلى الإلحاح على القول بأن علاقة تلك الكلمات والجمل والمقاطع ليست علاقة مد وجزر موازية لمد التمرد ضد الجلاد، بل هي علاقة صراع قوامه موت الذات الشاعرة، وموت الإنسانية، لكن يبدو اقتناع الشاعر قوي بأن الأمل حركة ناجمة عن هذا الصراع الذي يرسم حدودا فكرية معينة لصور اليأس والأمل:
كل هذه التي تُمطِرنا الرياحُ
ليستْ أكاذيبْ
كيْ ننامَ بلا خوفٍ
ونَحلُمَ قليلا. (ص: 59)
فهذا الأمل الما بين هو عبارة عن وقفة إيقاعية، لكونها المنحى الأثر لدراسة الشاعر، ولاسيما عندما أكد على عدم الكتابة، فهذه الأخيرة هي الأمل وحده، يحيا بها ويشرب من كؤوس القلق والانتظار لعله يجد فضاء محكيا يبعث الأمل في هذا الوجود، ذلك هو السر في هذا التقابل بين الغربة وبين الشاعر المجدوب الذي يناضل لكي تسقط الأقنعة، ليتحول السقوط إلى صحبة للحياة والإنسان. فالشاعر بلمو يبحث عن سر الخلود مثل جلجاميش، يعانق الموت لينقلب إلى الحياة بعدما أخذ الزمان “أريج”، وسيظل الشاعر يتمدد في هذه الحياة ليستمد هذا الخط المركب توجها صوفيا، حاملا العذاب المقيم، ومنفلتا من الانقلابات الجدلية للحياة والموت، من أجل خلق مسافة مرتبطة بسيرورة زمن الإبداع. لأن الاختلاف الإيقاعي، والبلاغي والدلالي هو المؤجل (الأصل) الذي يحيل دوما إلى اللاحق والحياة والتاريخ، كل هذا ليؤسس لنفسه هوية وذاتا، فالمختلف يحيل دوما إلى غيره وهذا ما نجده في الديوان، حيث منح لهذه الشعرية طاقة وحركية لمفردة “الأمل” كتميز وكمسافة، فلا وجود للحياة بلا موت، ولا موت بلا بعث، ولا رغبة بدون لذة، ففرويد يرى أن “مبدأ اللذة ينمحي ويزول ليفسح المجال الأوسع لمبدأ الواقع … نقبل بتأخير وتأجيل اللذة، … ويستحيل الوصول إلى دورة اللذة”.
إذن فمبدأ اللذة يستحيل تحققه، لذا يبقى حضور الموت مؤجل في الواقع، وتبقى الكتابة كمتخيل مسكون في براثين القريض، ويبقى الأمل هو المسافة لكونه مرتبطا بحضور نفي الأصل/الموت كإدراك، لأن منطق الإبداع الشعري يعكس لنا نظامه الفكري ليجعل القصيدة سيدة العالم، لذا يدعو بلمو إلى اللاكتابة من أجل إعادة النظر في المعيارية والهوية، والمحايثة بمنظور نقدي شعري اسمه الاختلاف المنهجي، ليتمكن الإبداع من تقبل التنوع والتعدد، ولينظر إلى المستبد والمتشابه كما كان وليدي التنوع والتعدد. فرؤية بلمو تدخل إلى الحال الذي ينبعث فيه قلعة التعرية، يصور لنا المستغلين والمستغلين، بصورة تتأسس على المجاز والانحراف الدلالي يقول:
في ثغور العمل
وفي حقول كدحي
ينتشي قتلة الأمل
فهذا الإيقاع المقطعي، والمشاركة الوجدانية والتركيبية والدلالية، جعلت الذات تخلق أنوية تمثيلية وتنوع القوافي ووحدة الموضوع والتلاحم العضوي بين أجزاء الديوان، وتداخل الصور الشعرية من أجل التمرد، وقطع كل الصلات بالماضي الأدبي والتاريخي، فهذاالتوجه التاريخي أصبح مصدرا ثريا، وإبداعا شعريا، حيث جعل من تربته وحياته تراثا رمزيا وأسطوريا من أجل إزالة الغشاوة عن عيون الأمة، لكي يكرس انتقالا لفعل من ساحة النضال إلى ساحة الأمل الذي هو نجم في إقامة جو من التوقع شبيه بالحال الذي يسبق المعجزات.
فإبراز قدرة الشاعر على تجاور هو لا لموت هو كشف الواقع الأسن بالقيم المهترئة ويقول:
صدقوني
أنالاأكتب
فقط
أعلن النفير
فياستعاراتي
كي أقف في وجه ظالمي(ص:37)
فعدم الكتابة هو كشف عن قيم الدنيا نفسها بما تنطوي عليه من زيف وخداع، ومن نفي لكل مقومات الإنسانية، مما أجبره على إظهار زيف الإنسان، لأنه يحمل موته على كتفه، لا يموت مزيفا والصمت كنهر الموت في مقابل السيلان النضالي والشعارات الفضفاضة، إنه إقرار بأن قدرة الإنسان على إبراز الواقع، هو مصدر ماضي شعره من أمال وتمرد وصور اليأس والانتظار من أجل خوض صراع مع الأيام ومع الناس، إنها صورة لحياة يفجرها منطق الجدلي.

مفهوم الكتابة الشعرية عند الشاعر
إن الديوان هو كشف عن واقع الشاعر النفسي الاجتماعي والحضاري، ودوره في استشراف المستقبل، حيث يحمل القيمة الفكرية والشعرية العظيمة لهذه التجربة، فهو عبارة أيضا عن وسائل تعبيرية مصدرها التوافق بين التجربة نفسها ووسائل الكتابة، وهذا يعني أن الكتابة الشعرية عنده لا تعتمد على جماليات القصيدة القديمة، بل توحد بين الذاتي والموضوعي، لأن الإطار الشعري الجديد يستوعب كل المضامين الجديدة، بالنظر إلى تغيير الحياة في تموجاتها مضامينها، وبالنظر إلى حاجة الشاعر بلمو إلى الحديث عن الكتابة بكل أدواتها التعبيرية ووسائلها الفنية، لأنه يجعل لكل لحظة شعورية طبيعتها الخاصة والعامة التي تسمح بتوسيع الطاقة التعبيرية لديه واستثمار الأرض والذات التي تم اكتشافها قبل أن ينصرف إلى اكتشاف أرض جديدة لإنبات الأشكالً، مما يجعلنا نؤول إلى عدم استحالة الوقوف على الرهان المتوخى من هذه الكتابة الإبداعية. فالديوان غاير “عمود الشعر” العربي بتوظيف الغموض والرمز والانزياح، مما أعطى لهذه الكتابة قيمة تجريبية جديدة، وقناعة أسلوبية بها اكتملت كينونته البيانية والتفسيرية، لأن الإبداع يقتضي قيام شكل جديد تام النمو، يطلع باستثمار الأزمان كما يقول (توماس إليوت)، فالشاعر بلمو اعتبر أن الكتابة هي النموذج الجديد للتعبير عن القانون الذي يتحرك في عالم يتغير، لأن التحول في الشكل يحتاج إلى مسافة من الزمن تعادل المسافة التي يحتاج إليها الوجدان الشاعري والدفقة الشعورية،
حيث يقول:
هلْ مِن مُعجزة
كي تعودي
أريجُ
فتنهضُ يدايَ
من دموعي
أستنشق هواء رجوعي
فرحي الغائب (ص: 64 – 65)
فالكتابة عنده تتوزع بين العبارة الفخمة والسبك المتين، في معالجة أكثر التجارب حداثة، فالشاعر يحس برنين الصوت وبلغة التشخيص وبحركة الحياة التي هي ملمحا واحدا من ملامح لغة هذا الشعر، فهذا الأخير يقف إلى جانبه ملمح آخر، يستمد مقوماته من روح اللغة، لأن الإبداع هو تجاوز هذا المنطق وتنافر من تقسيماته وتجديداته لتثير فينا الدهشة، بمعرفة جديدة وذلك عن طريق الارتباط غير المتوقع.
فالشاعر لم يعد يهتم بتحريم أخيلته من تسلط السلطة والواقع وربطها بتجربته الجديدة فحسب، بل تعدى ذلك إلى الدأب على توسيع قدر من الاحتمالات المتصلة بأعماق التجربة، مثلما هو الحال في قصيدة “عودي أريج كي ترقص” (ص: 37)، حيث نجد أشرطة من الصور والاستعارات التي تتطلب التعامل معها في جزئياتها أولا، ثم ربطها ببعض البحور المركبة ثانيا، وإبراز علاقتها بتجربته الكلية، فهذا الأخير عبر بالصور الحية مبتعدا عن البعد التقريري، ليتيح لذاتيته أن تسهم في إقامة بناء القصيدة عن طريق حركة الخيال والمتخيل، من أجل تفتيت الوحدة الإيقاعية في القصيدة القديمة.
إذن، فالكتابة وعي تأسيسي للذاتية وليس للموضوعية، فهي انتقال من الخارجي إلى الكائن الرمزي اللغوي، ومؤسسة ينبغي دراستها من الزاوية التاريخية والوظيفية ولاسيما في الفصل الخاص في الديوان 28 – 29 و42 – 43 و55 – 56 و59 – 61 – 63 و67 – 68 – 70 و71 و73، وانطلاقا من هذه الأرقام، فالكتابة هي منطقة الإبداع، إنها تمرد على اللغة والأسلوب، لأن اللغة هي معطى اجتماعي سابق عن المؤلف، والأسلوب كبعد بيولوجي ذاتي، لكن الكتابة هي ممارسة الحرية، وتجاوز هذه اللغة التي تقمع سلطتها الأسلوب الذي يرتبط بالذات، كما ذكرنا، فهذه العلاقة الجدلية هي علاقة بين الاجتماعي/اللغة/والفردي/الأسلوب، وهي موضوع الشعرية لأنها تظهر لنا هذه الشخصية المضمرة كما يقول شارل مورو في كتابه “التيمات”، إنها الحرية تتلاقى بالتاريخ ووعي بالمجتمع وبالزمن، وتركيب بين الضرورة الاجتماعية والحقيقة الفردية.
لاشك أن العالم، عالم يكتنفه الغموض والإبهام، لذلك راح الشاعر يصنع لنا عالمه كما يحلو له لا كما يحلو للعرب، عارضا براعته الشعرية التي تنم عن قوة شاعريته، أكثر مما تنم عن قوة تقليدية، فهو غاير الخليل بن أحمد الفراهيدي، والأخفش، فكسر النمطية القديمة التي صاغها الذوق العربي القديم، وذلك بواسطة رؤيا خيالية وبلغة سريالية، لتبني لنا قارة شعرية تنضاف إلى القارات الشعرية العالمية، فهو الذي فتح أبواب الأسئلة والنبش في المتخيل الشعري والفلسفي، فهذه الأسئلة الغير البريئة جعلت الذات العربية تتساءل حول الانتماء والوجود والمعرفة والقيم، لذا طرح أسئلة ألموت وفلسفة الوجودية (ألبير كامو، وسارتر) ونشر أمواج القلق الشعري كما عند بودلير ونرفال والنفري والبسطامي والخيار وعمر الخيام.. كل هذا جعله يعيد قراءة التربة العربية، باعتباره عاملا في تأسيس تجربة شعرية حديثة نحو آفاق البناء التأسيسي، وهذا الانحراف هو قطيعة بينه وبين الواقع العربي، وإحساس بالغربة في هذا الكون، وإحساس بالوحدة والتفرد في العالم، لذا واجه الحضارة الغربية بنشوة عابرة، لا تكفي للاستمرار في ممارسة الوجود، مما جعله يرسم الكون بصور مثقلة بالمرارة والإحساس بالعبث كما يقول أدونيس في كتابه “زمن الشعر” في هذا الكتاب يعرف الشعر بكل مكوناته ومميزاته الحيوية والدينامية، رابطا إياه بالإنسان وبالحرية والتعبير، فهذه الترانيم الأدونيسية قسمت الشعراء العرب إلى فيالق ولوبيات واتجاهات لا تنتهي إلى استقرار وتأليف. وهي ميزة ثورية تجمع ما لا يلتقي وتؤلف بين المتنافرات.
هذا التركيب هو دلالة خطية، تتشابك مع المستحيل، بمرجعيات متنوعة، تلتقي فيها التجارب العالمية لتطعم الفعل الأدونيسي، وهذا ما رأيناه في دواوين “رماد اليقين” و”طعنات في ظهر الهواء”، فبلمو يشير إلى هذه الرموز كأنها إشارات غير متناهية، تتيح للوعي أن يستشف عوالم لا حدود لها من أجل “إضاءة الوجود المعتم واندفاع صوب الجوهر”. فالشاعر في إبداعاته المؤطرة بإنتاجات ثقافية واجتماعية، كأنها فضاء تشكيلي ودلالي، ولعبة مؤلفة من المعنى والمبنى، إنه مركب يشتمل على أجزاء رمزية وأسطورية تمثل دلالة تفصيلية وكفاية إبداعية ضمن تاريخ الأشكال الأدبية وتاريخ الأنواع، تؤطره مجموعة من استراتيجيات التواصل، ومقصديات الإبداع. فإيحاء بلمو لعناصر نشأة الكون جعلته لا يقبع داخل الإنسان الباطني، بل ترك لهذه الذات أن لا تعرف نفسها إلا في نطاق العالم الممكن، أما أدونيس فأعاد قراءة التاريخ من خلال التاريخ، تاريخ الكتابة، والتحول الاجتماعي الذي يوحي إليه بالكتابة والتاريخ، لأن الكتابة الأدونيسية تنقل الكاتب الخارجي إلى كائن رمزي في اللغة، وبلمو بدوره يدعو إلى دراسة التاريخ من زاوية وظيفية لتجاوز القراءات النوادرية والإخبارية، للكشف عن الاستعمالات الفكرية للشاعر ومحرماته الخفيةles tabous implicites. فالكتابة هي موضوع الشعرية، وهي حرية تعترف بالآخر في صورته الجماعية (اللغة) والفردية (المتلقي)، وهي أيضا واسطة بين اللغة والأسلوب إنها الشعرية ومنطقة الإبداع كمجال لممارسة الحرية. فبلمو في كل متونه النثرية والشعرية يخترق هذه اللغة دون أن يسقط أسير السلطة البيولوجية، بل ينفصل عن القوة الاجتماعية، لكي يجعل فعل التمرد جدلا يبدع من خلال العلاقة المباشرة بالذات، أي من خلال اللحظة التي يأخذ فيها الوجود المعنى الذي تمثله وتشكله.
إن هذا الخلق هو إبداع ثاني للذات والعالم واللغة، وبناء للإنسان التائه في وحدته العميقة والرهيبة، يقول أدونيس:
قلبك أيها العالم، الوحش
إذن، سيكون شعري الفتك
النيل هادئ
أغنية هو الطوفان.
هذه الرؤية البودليرية الفرنسية، جعلت أدونيس يعمق الأعماق لكي يحتل فيها الشاعر موقعا وتتداعى بشكل لا إرادي في ذهن المتلقي، وتكون أسطورته الشخصية هي المهينة والخلفية الإبداعية. فبلمو في هذا الديوان “طعنات في ظهر الهواء، يحاول استكناه إوالياته في حيثياته النفسية وملابساته الدقيقة، جاعلا للديوان لاشعورا ” كبنية لغوية” كما يقول (ج. لاكان)، تفكك الصور لتحيدها إلى أصولها (الماء – الهواء – النار – التراب)، ولتتيح لهذه الذات المغتربة بالإحساس والاغتراب كما يقول (مارسل ريمون) ولتتجاوز الطبيعي إلى المحتمل، من أجل الانوجاد في الزمكان كما يقول روجي فايول في كتابه “دراسات حول الزمن الإنساني”.
إن إيمان بلمو وقبله أدونيس بتغير العالم، مما جعلهما يفتحان المجال الخصب في المدينة العربية من أجل إعادة تعريف “المدينة”، لأنها ممثلة للوجه الحضاري للأمة العربية، وبخاصة الوجه السياسي والاجتماعي، ففقدان الحضارة هو فقدان الأصالة والأناقة التاريخية منذ تعرضها للتمزق الاستعماري من طرف الغرب المستعمر. لأن رغبة الشاعر أن يتغير كل شيء، وأن يأخذ الوجود صيغة جديدة، فالبحث في الخلاص بالموت يجعل بلمو وأدونيس يفشلان في إنتاج التواشج في تحقيق سكينة نفسية عن طريق علاقة الحب والحنان، يقول أدونيس:
يغسل الأبجدية من لغة مظلمة
تترسب فيها، وتطفو عليها
هذه الكرة المتخمة
فهذا التوتر والألم النفسي، جعل الأنا/المبدعة في ورطة التوفيق بين الهو والأنا الأعلى، فلا اعتبار لما هو خارجي، ما دام لا ينطرح كموضوع للرغبة، فالرغبة منكبة على الذات نفسها، كإطار مرجعي شعري، لا يحيل إلى التناقض، بل يضمن التوافق الكلياني بين الرغبة الشعرية وموضوعها المغترب. الشيء الذي يجعل تحققها ممكنا على الدوام، وفقداننا لهذه الحالة الاغترابية، جعل الشاعران يبحثان القلق ويجعلان الأنا تعيش التشتيت والتمزق بين مبدأ اللذة الشعرية ومبدأ الواقع المعطوب. إذن لابد من البحث عن بوثقة لإعادة إنتاج النرجسية العربية المنكسرة من نفس موقعية التمركز حول الذات، فتجدنا نقف وقفة المتأمل لا موقف القاضي النصوح لمعرفة الانكسارات والتراجعات التي يتعرض لها الكائن المبدع، في زمن رجعي يقول فرويد:
S’il nous est permis d’admettre comme un fait d’expérience ne souffrant pas, d’exception que tout être vivant meurt fait retour il anorganique, pour des raisons internes.
Alors nous ne pourrons pas dire, le but de toute vie et la mort, et eu remontant, eu arrière, le nom vivant et ait la avant le vivant.
فالشاعر أدونيس يغتسل بروح الحداثة والمعاصرة، أما بلمو فيتدثر بنغم الحداثة أيضا، مما يعطي لكل برعم نكهته ودلالته ولغته، ويعرف كيف يصنع صنمه بصياغة دلالية غير محددة، يقول أدونيس:
“يتقطع حبل القدر
إن رأسي مليء بالكواكب، ضوء البصيرة
ضوء البصر
توأمان
وضوء التمرد وعدمهما المنتظر”
ويقول محمد بلمو:
أحاول أن أشعل القلق في القضبان
والخوف في القيود
والضوء في الدهاليز المقفرة
حينَ تنبعث من حروفي
رائحة البارود
نيران المدافع”.
إن هذه المقاطع الشعرية هي إبداع داخل الشعر، يمكننا متابعة هذه الذات النرجسية بتشكلها، لتضفي على اللغة الشعرية إبداع السياقات وقواعد التمرد على التراكيب وإخراج المنسي من فضاء اللذة، لأن اللغة هي تشكيل وتراكيب تخلخل المألوف لتزيد من العذاب، لأن الموت موجودة في الحياة، والحياة مغروسة في أضلاع الشاعر، الذي يحاول العودة إلى الثبات النفسي، بعد تعب اليقظة الوجودية، فأدونيس يعتبر هذه النزعة يقظة جديدة وتفرد وتحول إلى الرغبة التي تغلف الحلم، أما عند بلمو فهي لا تنكمش بل ترغب في مواجهة الواقع الذي يتخذ جنينه المتنوع واللامنفصل.
فاللاشعور الشعري كما ذكرت في المقدمة يستطيع أن يكتب عن رغباته عبر الحلم، ومن خصائص اللاشعور الشعري عند بلمو أنه يفصح عنه داخل الحلم ومن خلال الإبداع يستطيع أن ينجلي عن رغباته المكبوتة، وعبر الحلم واليقظة يختلط الواقع بالخيال، وتلبس القصائد الرموز والأساطير والمرأة هي التي تعطي اليقين الممكن باعتبارها كافية لأن تحسم في توحيد علاقته بالمرأة، وتعكس الارتباط بالحواس في محاولة لموقعة الشيء نسبة له من خلال ما أطلق عليه لاكان Stade de miroire، فجسد الشاعر يظلله عما هو متوجه إليه ليمنحه زيفا في الرؤيا، لأنه يكشف بعديا، وأن وحدته على مستوى الشاعري هي رغبة غير متحققة فعلا، إنه يعاني تمزقا من خلال الأفعال وحركية الإخصاب، لأن هذا التمزق هو وصل للحركية من الموت إلى الحياة.
كما عند أمل دنقل عندما يقول:
يا آخر الدقات
قولي لنا من مات
كي نحتسي دمه
ونختم السهرات
بلحمه نقتات
فالشاعر بلمو في تموجاته الشعرية يؤسس للغة باستطاعتها أن تكون هي أداة التعبير والتواصل، وهي أيضا الظاهرة الاجتماعية بالغة الأثر، والقالب الذي ينصب فيه الفكر لتشكل مؤشرات اجتماعية مختلفة. لأن تأثير اللغوي في الفكر لا يقف عند حد الصناعة، بل إن الفكر يؤثر في اللغة الشعرية، ووهي نفسها تؤثر في الفكر أيضا. إذن أليست ألفاظ هذه اللغة الشعرية هي التي تمكننا من القيام بعملية التجريد والتعميم، فهي لها الفضل الجوهري في تحويل الفكر من فكر كياني لصيق بالإحساسات إلى فكر مجرد وهذا هو الأساس،
يقول محمد بلمو في هذا الصدد:
هذا الهواء الهزيل
هل تعرفون اسمه
وتاريخ ميلاده
وطقوس غضبه
حين تخونوه
فهذا المقطع البلومي (بلمو) يمتلك ميزة عالية القدر ألا وهي القدرة التواصلية، حيث تتألف هذه القدرة الإبلاغية من الملكات اللغوية والمعرفية والإدراكية، والمنطقية، باعتبارها الطاقة الدائمة في الإنسان والمجتمع على الحركة والتجاوز في اتجاه المستقبل – اتجاه عالم يتمثل الماضي ويمتلكه معرفيا”. لذا فالشعراء المعاصرون خلقوا مسارات مسكونة بإقامة تواصل مع المغاير والغريب والمستحيل، مما جعل بلمو الشاعر يقدم لنا رؤية واعية تعبر عن جوهر الحداثة، من أجل النبش في الحقائق البشرية، لأن هذه الرحلة لا تقبل الركون والسكون، بل تزرع القلق الوجودي في الفكري والإنساني واللامفكر فيه اجتماعيا وسياسيا، ويقول في هذا الصدد:
لا الريحُ أنصفتك
لا أنقاضي شهدتْ كمْ مرةً
تركتُ عصافيري شريدة
كي أَلُمَّ شتاتهم
كيف تبعثَ أحلامهمْ
مِنْ رمادي
فهذا المقروء يطرح تعددا واحتمالا ليصل بنا إلى مفهوم التحول من الموت إلى البعث، ليظهر لنا معجم الانزياح في كل أجزاء الديوان، حيث يشكل امتدادا إيقاعيا يرمي بالذات نحو السؤال (كيف تبعث أحلامكم)، في المقابل تتأسس القصائد على الامتداد وهذا ما رأيناه من خلال الفهرسة. شأنه شأن أمير شعراء الرفض “أمل دنقل”، حيث يقول:
لا تخجلوا … ولترفعوا عيونكم إلى
لأنكم معلقون جانبي على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إلي
فهذه الأسئلة هي انقلاب فكري وشعري، تسعى إلى جعل المتون الشعرية المعاصرة عبارة عن غواية متجددة، تقود الشاعر بلمو نحو التعدد الدلالي والتركيبي، حيث يعجز الخطاب الكلاسيكي على تأسيس رؤية جديدة داخل الشكل الجديد، متماهيا مع صورنة المثالية، والمادية، ملغيا كينونة الثبات والسكون، الأمر الذي يجعل هذا الديوان عبارة عن حوارات لا متناهية مع المناهج والتيارات الفكرية والفلسفية، كما لو كانت تؤكد لتاريخ الأدب وللحقول المعرفية، بإن قراءة الديوان ليس رد فعل ارتكاسي، وليس قراءة متناهية، لكنها التعبير الفعال عن نمط وجود فعل المغايرة والمساءلة، وهذه المقاربة ليست بسيطة ولا برانية، بل ترتبط بالوعي لتتعرف على المرجعيات المهيمنة في هذا الوعي الكلياني بمفهوم هيجل، إنه وعي شاعري وذات ضدية، يتخذ صيغة تفكيكية، من أجل رفض كل ما هو آن، لأن شعره غير متصالح مع الواقع، هو رفض كل ما لا يلتحم مع المضمر والمختفي، ليتعلق بسقف إشراقي ليحيل على ما أسماه تودوروف “العقلانية النصية”.
ينطلق الشاعر في هذا الديوان من التساؤل المعرفي والجمالي والفني والإيقاعي، ليجعل الذات الشاعرة واقعة درامية تنتج ما يسميه باشلار بالغزو، كفعل أولي لإظهار مكانة الشعر في الوجود، وموقع الإنسانية في هذا الوجود، ويقول:
الأملُ
يشعلهُ الأطفالُ
يَسرقه اللصوصْ
الأملُ
يُبدِعه الأبطالُ
تَعقلُه النصوصْ
فهذا المقطع الشعري يتخذ سلطة لنفسه ليشير إلى الأمل الذي يترجم الحقيقة الواقعية، حقيقة غير جاهزة، ما دامت كمياء الكتابة الشعرية تعيد بناء الواقع الممكن، وفق تصور غير مؤدلج، لتخضع الكتابة للفعل النفسي والتأويلي. بهذا المعنى يتأسس شعره كوجود محتمل الذي هو الإنسان المتخن بالمآسي، حيث يتحدد أيضا كعلاقة نقدية للوضع البشري الحيواني كفعل الحضور، وينكتب كآخر يحدد لنا هويته كثقافة مركزية لها أدوار ودلالات، لأنه هو الذي يملك ظله، وعبر هذا الغياب لهذا الأصل، ترتهن قيمة الذات المبدعة لتخترق يقين السائد وتطيح بالمنظور الإبسيمي التقليدي حسب تعبير فوكو.
فتأسيس شعرية حوارية هي الرهان الأسمى لهذا الديوان، لأنه يطرح أسئلة حول الإنسان وماهيته ووجوده ومقوماته، باعتبارها تراكمات نفسية واجتماعية تلاحق الذات الفانية في كل تحولاتها وتوليداتها الممكنة، فهذا يتطلب الانفعالات في وجه النهائي والموت والمركز لتتحول إلى هذا الأصل المفقود يقول:
عندما أموتْ
أمشي وحيدا
بلا مشبعين
عندما أموت
أمشي وحيدا
إلى المقبرة
فالمقطعان الشعريان يعرفان بهذه الذات التي تأخذ قرارها دون الوقوف في المحطات المألوفة وفي كل الأتربة الماضية، بل تعلن اختيارها في الموت، بزمن كيميائي كي يرتبط برغبة في هذه الحياة، راسمة نهايتها لتكون هندسة مشكلة من أنساق متعددة تعيد النظر في هذه العادات والتقاليد، وعبرها أيضا تحاكم هذا الإنسان الذي يعيش النفاق الاجتماعي، ولا يتفاعل مع أسئلة نهايته، ولا يأخذ هويته المابينية (الحياة / الموت)، من أجل رصد تبعات هذه الذات أمام الموت، لإبراز القوانين الناظمة والمؤطرة لهذه النهاية، لكن سرعان ما يعيش العيشة دون مساءلة مسلكيات الحقيقة المنتظرة في تفاعلها بالمحكيات المعاصرة، فتولد لديه ترسبات دلالية. لا يعرف عنها الإجابة ويقول أمل دنقل:
يا قاتلي: إني صفحت عنك
في اللحظة التي استرحت بعدها مني
استرحت منك
وهذا التأصيل المقدس (الموت) هو تقديس للانهائي الوجودي والمعرفي، من خلال سعي الشاعر إلى توظيف هذه الظاهرة، مستسلما نفسه لهذا الجلال الذي يبعثر العالم ليكون شعره صوتا مختلفا لصور الأنماط الشعرية القديمة، وهذا ما أكده محمد بلمو في قصيدته عندما أموت (ص: 67).
فإدراك الشاعر المعاصر لهذه الأسئلة هو تحرر إشاري من كل القيود والاستلابات، لذلك حاول أن يحرر نفسه بواسطة الكتابة الإبداعية، فلم يعد بلمو تابعا للقصيدة النظمية مهما بلغت قدسيتها، بل تمرد على كل التمظهرات المتنوعة، الأمر الذي يستدعي جهازا مفاهيميا ينسجم وخصوصية القضايا المعروضة في كل مبحث، فكان أن احتكمنا إلى مبدأ الإنصات إلى كل الحواس للوقوف على نظامها المهيمن، ومن ثم كانت قراءتنا لهذا الجهاز النقدي، يتلاءم ودلالة القراءة الحوارية.
فكان اعتمادنا على الجهاز المفاهيمي الخاص باللسانيات والسميولوجيا وجمالية التلقي، كمناهج أثبتت قدرتها على تفكيك مستويات اللغة والدلالة، لمعرفة ضوابط التفاعل والترسبات الماضية فنيا ودراميا، بالاستناد إلى مفهوم القراءة كما قدمها كل من تودوروف وبارت.
إذن من خلال هذه القراءة التركيبية يتألف الديوان من تمهيد كمدخل وتوطئة نظرية لما بعده من مسالك البحث، وتعريفات القصائد، حيث اتخذت كل قصيدة أسسها النظرية والتركيبية والدلالية والإيقاعية، باعتبارها أعضاء تواصلية تبني لنا موضوعات تدور كلها في فلك الإشكالية العامة: هل للهواء ظهر؟ كيف نغرس طعنات في ظهره؟ ولماذا هذه الطعنات؟ وهذا ما سندرسه في حلقات قادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى