من رواية الإرهاب ودمار الحدباء.. دهوك المنطقة الآمنة ( 3 )
عصمت دوسكي | أربيل – العراق
منذ اليوم الأول تحمل أخي وأولاده وعائلته هذا التجمع ، رغم الضغط الكبير ماديا عليه يضحك مع هذا ويناقش هذا وأفراد عائلته كخلية النحل يعملون ويقدمون ما هو متوفر للرجال والشباب والنساء والبنات والأطفال وكأنه مجمع إغاثة المسئول عنه أخي أبو نبيل وعائلته وأحيانا كنت اختار فوق السطح وحدي أتأمل ” دهوك ” التي تحيطها الجبال والوديان من كل الجوانب إنها عروسة مدللة تارة تلبس فستان أبيض وتارة مبللة بالمطر وتارة خضراء لكثرة البساتين والأشجار ، كحبيبتي الكردية التي لم يشأ القدر أن تكون معي للأبد ، بيت أخي يطل على مناظر بهية لمدينة دهوك الجبال التي على مد نظري أمامي جبال تدعى باللغة الكردية ” جيا سبي ” ومعناها الجبل الأبيض لقلة الأعشاب والأشجار ولوجود الصخور والأحجار البيضاء جبال شامخة تتحدى مرور الزمن لم يتغير فيها شيء سوى الناس أقاموا على سفوحها بيوت جديدة ، انظر إلى الشوارع والأزقة والسيارات والعمارات العالية للتطور الذي حصل فيها حديثا لم تعد هناك بيوت الطين والجس والسقوف المثبتة بأعمدة أشجار الصفصاف والبلوط وغيرها من الأشجار، لم تعد المدفأة الخشبية وسط غرفة الصالة التي تلتهب كلما وضعت فيها خشب يابس وتصل حرارتها إليك حتى لو كنت بعيدا عنها والشوارع الضيقة اختفت تقريبا حتى أسواقها القديمة لبست ثوبا عصريا جديدا ظاهر عليها ملامح التطور العمراني حتى الملابس الكردي المميزة أراها زاهية فقط عند الرجال المخضرمين والجميل قرروا أن يضعوا له يوما ، ” يوم الملابس الكردية ” يلبسه الجميع لكي لا ينسى ، والتفت نظري إلى بيت كان هناك بين البيوت المنسقة بيت حبيبتي الكردية التي سميتها ملاك لأنها ملاك بجمالها ورقتها وعفويتها ،وجهها البريء يأخذ الإحساس إلى عوالم روحية يصعب وصفه ، أحببتها بعمق لبراءتها المميزة وخجلها الذي يوحي بالعفة والنقاء والصفاء كفراشة تداعب كل خلايا جسدي بجناحيها بلمسة حنان ووفاء وتلامس شغاف قلبي برقة ملائكية تجعلني أذوب حبا وعشقا وتحرق مشاعري حرقا وتستبيح كل أحزاني همسا ورقا ، كانت صغيرة جميلة طرية بيضاء البشرة ، صغيرة في كل شيء إلا الحب كانت كبيرة ناضجة أحلامها بسيطة أن تأخذ من تحب لأنها ملائكية ربانية تصرخ باسمي من أعماقها عندما تكون لوحدها بين الأشجار والورود والأزهار وعيون الماء كأنها تستغيث لتبحر على أمواج البحار لعالم نقي رسمته في مخيلتها الأنثوية التي تنضج نضوجا يانعا ،إنها أسطورة حب كأسطورة قيس وليلى وكثير عزة وملحمة شيرين وفر هاد ومم و زين ، فرقتنا الطبقات الاجتماعية والقوانين العشائرية ، لا أدري أين هي ؟ لكني أعلم تزوجت رغما عنها لمسئول كبير ، أتمنى تكون سعيدة في حياتها ، رغم السعادة لا تأتي بوجود المال وكثرته ولا بالجاه وألوانه ولا بالصروح وجنائنه لأن السعادة تكون مركونة داخل النفس البشرية ، الإحساس ، المشاعر ، العواطف الراقية قبل أن تكون خارج الإنسان ، لا أخفي عليكم في كل مرة أكون في دهوك كنت أبحث عنها بين الأسواق والأزقة لرؤيتها فقط من بعيد ليس لغرض ما أو لأخلق لها مشكل ، رؤيتها يبعث الأمل والحب والنور والحياة شعرها الأسود السارح على كتفيها يتناغم مع الرياح هابه وحواجبها كحسام هلالي أثيني وعينيها الواسعة بحور من الأحلام الهاربة خلف نظرات حالمة هذه النظرات التي تحكي قصة حلم لم يكتمل ورواية حب لم تصل لنهايتها بعد ،عيناها الواسعة جنتان لوحدهما سبحان من صورهما ، وخديها تنضج بهدوء لكي لا تفارق رونق لون الرمان وانفها الجميل المميز يشم رحيق الحب ويتنفس عشق فتاة بريئة وشفتيها رسمها الخالق بدقة هذا الثغر الكردي له معاني أفلاطونية ، هذا الإحساس كان يشعرني بالسعادة الروحية ،لا أنسى ملامحها النقية إنها أحلام وذكريات مضت عليها سنوات طويلة ، وهناك بيتنا بل آثار بيتنا الوحيد في حي شيخ محمد وسط دهوك كان مبنيا من الإسمنت وأتذكر في وسطه شجرة عنب رائعة الجمال والأغصان ومثمرة ثمرا وفيرا تعدت أغصانها حدودها وارتفعت كأنها لا ترغب بالقيود وأخذت أغصانها الخضراء تمتد فوق السطح التي صمم لها أبي مكانا جميلا بهندسة فطرية معهودة في ذلك الزمن وكان جيراننا بيت يدعى بيت ” مصطفى القصاب ” وأولاده جلال وعزت ، ومقابل بيتنا بيت ” خالتي فضيلة ” التي كانت تحبنا كثيرا وزوجها المشهور ” محمد أمبارك ” الذي كان له دور كبير في المجتمع الكردي كدور ” ديوالي أغا ” وغيره من الشخصيات المؤثرة والتي لها كلمة عند الآخرين والجميع يسمع كلامهم فهم يجدون بعض الحلول للمشاكل التي تظهر إن كانت فردية أو عشائرية بين صراعات واختلافات وتناقضات ، النفوس ،
بشكل عام اختلفت والضمائر بعضها تخدرت والمشاعر الإنسانية تراجعت والرحمة الواسعة قيدت ربما بسبب التطور العمراني والجبروت المادي وعدم وصول هذا التطور إلى النمو الفكري والوعي الثقافي فنمو الإنسان في هذه الحالة أولا ثم تأتي باقي الأشياء الحياتية والوجودية ثانيا ، لكن ميزان العدل الإلهي يبقى الفيصل الوحيد فالموازنة الربانية قائمة ، فمن ينسى قوة الله وسلطة الله في الكون والبشر ينزل بلا توقف مهما كان إلى منحدر ، مناطق دهوك توسعت لم تكن هناك مناطق سابقا ” كحي الملايين وزركة ودابين وأفرو ستي ” وفي نفست الوقت توسعت مساحة القبور ، مناظر جميلة من هنا عمارات فنادق عالية وأسواق وشوارع حديثة الشكل والتكوين ومجمعات سكنية طولية عصرية تجتمع فيها الشقق والأسواق والألعاب والحدائق، هذه الذكريات تمر مرور الكرام كفلم سينمائي يجمع بين الماضي والحاضر ،
حاولت أن أبحث عن عمل ذهبت إلى الشركات التجارية والأهلية وبعض الأصدقاء والأقرباء لكن فقط وعود وعهود لأن دهوك الحبيبة تحملت الكثير من النازحين والهاربين من وضع الموصل وسوريا وتركيا المتأزم وبطش ومعاملة الدواعش ، لأن دهوك المنطقة الآمنة الجميلة الزاهية بأهلها الطيبين الذين تحملوا عبء المهجرين والنازحين ، وبيت أخي مثال حي الجميع يأكلون ويشربون ولا يعملون إلى أن اهتز الوضع المادي الذي أحسست دون أن يظهروه ،وكانت اتصالاتنا مستمرة مع الأصدقاء والأقرباء في الموصل لنتأكد من كيفية استمرار الحياة بعد التغير الذي حدث للموصل فكان الرد الوضع مستقر لكن الدواعش يستولون على البيوت الفارغة المتروكة ومن ضمنهم بيوت في منطقتنا فاضطربت ” أم سيلين “عند سماع هذا الخبر ، خوفها على البيت الذي حصلنا عليه من سنين عمرنا وتعبنا فأصرت على العودة خاصة بعد تدني الحالة المادية لأخي أبو نبيل وكنت أصبرها لعلي أجد عملا ، وبعد مرور شهرين قررنا العودة للموصل وفي صباح مشرق ليوم 20 /7 / 2014م قدت سيارتي متوجها للموصل كان الخوف والقلق وعدم الراحة ظاهر على ملامحنا ،
لكن أم سيلين تقول :
حالنا حال جميع الناس الذين لم يغادروا الموصل
وفي سيطرة بدرية وقفنا ضابط سيطرة البيشمركة قائلا :
إلى أين ؟
قلت له والتردد بين كلماتي
إلى الموصل
قال مستغربا :
وضع الموصل غير مستقر أنت كوردي ؟
قلت له وبيدي هويتي :
نعم لكن بيتي في الموصل والدواعش يسيطرون ويصادرون البيوت الغير مسكونة .
قال بجدية وشيء من العصبية :
من تعبر هذه السيطرة لا مجال للعودة لأن الأزمة تشدد .
قلت له منهكا عالما بالأمر :
نعم أعرف ، وعبرنا السيطرة متجهين إلى الموصل .
من رواية الإرهاب ودمار الحدباء انتظروا الفصل الرابع