بقلم: الناقد دكتور هشام محفوظ
دكتوراه في النقد الأدبي، مدير البرامج الثقافية، نائب رئيس إذاعة البرنامج العام ـــ مصر
“عتبات السلطان” رواية صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عام 2023 يُقدّم من خلالها الروائي المصري خليل الجيزاوي حالة من التوتر والقلق تجاه الصراع الدائر بين الماديات والروحانيات موظفاً ذاكرة تقدّم المكان والزمان على نحو لا يخلوان من الأحداث المتفاعلة مع المكونات السردية والخيالية، والشخصيات والمشاعر والأفكار هي ذكريات تندمج في إحساسنا القرائي ونحن نتابع الأحداث التي يستقطرها الراوي من صناديق ذكرياته التي تحفل بالمرجعيات والأفكار في فضاء نصي تتمظهر فيه وجهة نظر هذا الخطاب الروائي.
الحبكة:
الحبكة مجموعة من الأساليب والطرق المستخدمة لإيصال رسالة النص الروائي، وتُمثّل الحبكة إستراتيجية السرد، وذلك لتحميل الرواية معلومات إلى المتلقي، وهي انتقاء للأحداث وعملية تسلسل هذه الأحداث، ولابد أن تكون هذه الحبكة فيها قدر من الهندسة التي تُخلّص النص من الرتابة؛ لتكون الصياغة متماسكة، والحبكة السردية في عتبات السلطان حكي للأحداث بتوزيعات زمنية متنوعة، تتراوح ما بين الماضي حيث الذكريات، والحاضر حيث الصراع المتأزم بين أفكار نبيل بعد استفاقته من اللهاث المحموم على المادة، وأفكار سوسن التي لا تقرّ بصحة أو صواب ما قد آل إليه حال نبيل الذي آنس جوار عتبات العارف بالله سيدي السلطان الحنفي.
الخطاب الروائي لنص “عتبات السلطان” ليس مجرد سرد لغوي مجازي يسوق حراك الكلمات على قاطرات عيار قواعد الحكي الذي يحكم السيطرة على مقدرات الصياغة، بل هي رحلة بوح بالاسترجاع لماض يختلج بصدر الحاضر وبالمكان والزمان وباللغة للعبور إلى ذائقة التلقي، لدينا بأساليب وحيل ماهرة لينقل أجندة ذاته الحكائية إلى أجندات وعي كل قارئ لــــ”عتبات السلطان”، معاً نقرأ النص، ومعاً نتابع المعنى، ذلك الكائن الخالد في كل إبداع جاد تصوغه أيدي الاقتدار المبدعة: نحن أمام نص يقوي ذائقة التلقي ويوهن مقاومتنا للتفاعل مع هذه الصياغة السردية التي تدخلنا إلى عالم من الأيقونات والرموز التي تسود في مشاهد “عتبات السلطان” التي تجلت تفاصيلها بداية من العبارة الافتتاحية في صفحة الإهداء: إلى الذين أتعبتهم الغربة والسفر والرحيل” وكذلك في الصفحة السابعة التي تليها في النص تحت عنوان: مفتتح، حيث أثبت الكاتب كلمات من إنجيل متى 5 عدد 3: “سعداء هم الذين يدركون حاجتهم الروحية”، الإهداء والمفتتح وصيد إلى عتبات المعنى في “عتبات السلطان”، حيث مقام “الروح الصامد في وجه المادة” ذلك المقام الرفيع موضوع الاستقرار والنقاء في حضور صفاء اليقين بأهمية بقاء القيم والمعنويات والروحانيات التي تسمو بالإنسان بعيداً عن غزوات اشتهاء كل مادي مآله إلى الفناء، المشاهد موسومة بالقلق الصحي الإيجابي والشهود اللامحدود للتشبيهات والكنايات المعبرة عن كل ما نحِن إليه ونود أن يتحقق اتصالنا به، وما لا نود أن يظل مهيمنا على حواسنا وواقع حياتنا.
الروائي خليل الجيزاوي في عتبات السلطان يُقدّم راوياً ذا رأي وموقف وقرار، الراوي مخلص لعواطف الإنسان، لمنابت الأصول، للأسرة المتماسكة، لفكرة بقاء الإيمان في القلوب لتخبو جذوة النهم الاشتهائي في التوسع في اللهاث وراء المادة، “عتبات السلطان” نص روائي ذو رؤية متلاحمة تستنطق الخيال والحس والإرث، الإرث المادي ويتمثل في شقة السيدة زينب”، وكذلك المعنوي الذي يتمثل في ذكرياته وعلاقته بأبيه”الولي الصالح، مطعم الطعام، الذي يصلي الأوقات الخمسة في أوقاتها بمسجد “السلطان الحنفي”، كما تُمثّل في تقدير الأم لما كان يفعله الأب والشيخ العارف بالله الشيخ صالح، تُمثّل الإرث في هذا الاندماج المادي والمعنوي في مسجد “سيدي السلطان الحنفي” في ذلك الحي المترع بروحانيات حيّ السيدة زينب وسط القاهرة، هذا الحيّ المهيب الذي راق من قبل للكاتب الروائي الراحل “يحيى حقي” أن يصوغ مكانيته حكياً تجسد في رائعته “قنديل أم هاشم”، فهناك استدعاء مشترك من الكاتبين خليل الجيزاوي ويحيى حقي لــــ”لحي السيدة زينب”، لكن الجيزاوي تحرك مكانياً؛ ليلتقط مكانيته النصية في عتبات السلطان من الحيز المكاني لمسجد سيدي السلطان الحنفي والمناطق المجاورة الذي كان فاتحة الخير عليه، لبطل الرواية وهو طالب بمراحل التعليم المختلفة إلى أن وصل لكلية الطب.
الصراع وصيداً للاختيار:
ولأن الزمان والمكان متواشجان في النص؛ وفي واقع حياتنا، فبمقدورنا التأكيد على نسج النص ومكانته الجمالية الدالة على صوت المعنى في الخطاب السردي، في زمكانية “عتبات السلطان” لا عائق يعوق ما يهفو إليه الراوي الإنسان البطل نبيل وهدان من حرية في الاختيار، تتحيز لكل ما بمقدوره أن يساعد على الوصول إلى نقطة العبور للحصول على المبتغى الأسمى والأبقى من الحاضر للمستقبل، في حضور تقليص المسافات بين صواعق الماديات التي جعلت الدكتورة سوسن زوجة الدكتور نبيل لا تفارق “أجندتها الحمراء” التي تدون فيها المدخلات الرقمية الجديدة من المكاسب.
فللنص زمكانيات ثلاث:
– زمكانية الذكريات: الأب والأم والأسرة ومنطقة السيدة زينب ومسجد السلطان الحنفي نصير الفقراء.
– زمكانية السفر والغربة المادية وتحقيق الثروة ثم الشعور بالغربة المعنوية.
– زمكانية اختيار دكتور نبيل العودة من الترحال المادي المصحوب بالقلق والتوتر فترة السفر في الخليج لمدة عشرين عاماً إلى الزمكانية المصحوبة بالروحانيات حيث الشيخ صالح ومسجد السلطان الحنفي ومقامه القائم في الذاكرة التاريخية والذاكرة الفنية في رواية “عتبات السلطان”، التعبير عن شعور نبيل بالاغتراب النفسي استتبعه صراع وقلق وتوتر بينه وبين نفسه، بينه وبين سوسن زوجته، ضيقه من المتغيرات النفسية التي طرأت عليها، فهي لم تعد تقرأ ما كان يسعد لقراءتها له من أشعار نزار قباني وكتابات إحسان عبد القدوس، غياب الأفق المعرفي والثقافي عن رفاهية حياتهم الحديثة، تسبّب في هذا الصخب الصراعي، رعونة الانسحاق في أتون الماديات، والتخوف من المجهول تتواجه مع الذكريات والحنين إلى الأمكنة الصالحة في جوار الطيبيّن والصالحين بجوار عتبات السلطان، في حضور اليقين المعلوم في القلب المطمئن.
النقلات الزمانية الفذة:
نلاحظ مهارة في صياغة النقلات الزمنية التي ينتقل بها الكاتب من حدث لآخر، يواجهه والده عندما يدخل صالة الشقة
بجلبابه الأبيض، عائدا من صلاة العشاء، وكان لسانه رطبا بدعاء ختم الصلاة، كعادته دوما، كان والده في زمكانية الذكريات يسأله: ما أخبار المذاكرة؟ وعندما تخرج في كلية الطب تغيرت الأسئلة: (ما أخبار عملك في كليه الطب؟ وما أخبار المرضى في عيادتك؟ كان والده دوماً يوصيه بالفقراء قائلا: ترفق بهم يا ولدي، اجبر خاطرهم دوما، يجبر الله خاطرك ويكرمك … رواية عتبات السلطان: ص 16).
الاغتراب والأفق الرمزي، الأجندة الحمراء:
شكل الشعور بالاغتراب ملمحاً فنيّاً جماليّاً في “عتبات السلطان”، كان له تجلياته المكانية والزمانية في النص، والنص بدأ بعودة بطل الرواية الدكتور نبيل – مثقلا بشعوره بالاغتراب – إلى عتبات مكانية الأصالة التي بها مسجد السلطان الحنفي؛ ليستعيد استقراره النفسي والمعنوي إبان النشأة في بيت الأسرة في حيّ السيدة زينب في حضور روحانيات الأب ودفء الأذكار والصلوات في وقتها والصلوات على الرسول ومواصلة زيارة مقام سيدي السلطان الحنفي، خارجاً عن مكانية الحداثة – مدينة الشروق – بها الثراء والرفاهية الذي لم يدفع عنه الشعور بالبرودة والغربة، ومن هنا فإن النص يُسلّط الضوء على قضية اجتماعية مُتعلّقة بصراع القديم والجديد والتحديات الإنسانية، مُعلقاً ذلك على مشجب رمزي ذي صلة بالتفاهمات والنقاشات الأسرية والاجتماعية التي تحيل القارئ إلى ما هو أعمق من ذلك.
إنها المواجهة الصارخة بين: الجذور/ التاريخ، والحداثة/ الحاضر، ومن ثمّ فقد فتح النص والناص نافذة على ما يحفز على التفكير النقدي، في ظلّ غياب التفاهمات بين نبيل: (وهو يحنّ إلى العودة للجذور – البساطة – الغلابة .. الخ) وسوسن الزوجة (لا تفارق الأجندة الحمراء يدها، فهي جزء عزيز من حياتها – الثراء – السيارات .. الخ).
لقد ثبت من طريق العلم والعقل والأديان، ثم من طريق التجارب القطعية المؤيدة بشهادة الواقع اليقينى والتاريخ الثابت أن التفاهمات الرُوحيّة الجامعة لفضائل الخير هي الوسيلة الوحيدة الأكيدة لإيقاظ حيوية الأفراد، وإنقاذ الإنسانية من صراعات المادة، وتوجيهها وجهة السمو الطبيعي، على أساس وظيفتها الروحية والمعنوية الأخلاقية الربانية الأساسية، مع تحصينها ضد كل اضطراب، وهذه التفاهمات هي الدعامة الأولى والأخيرة في بناء الإصلاح الفردي والجماعي والديني والإنساني والسياسي، والخلقي والنفسي على عموم ذلك وخصوصه، وما يتعلق به، وما يترتب عليه، فكل تفكيك لذلك تفتيت، وكل جنوح عن الروحانيات لإلغائها جموح، ويبدو أن ذلك لم يتحقق التحقق الكامل بين نبيل وسوسن، فبمجرد أن حدث التفكيك بين الزوجين بسبب استشعارها أن دكتور نبيل والد ابنيها هبة وهشام بدأ في ترميم نفسيته وصيانتها من أضرار استشراء الماديات، والعودة إلى المصالحة الروحية مع أعمال الخير، بدأت تدخل في دوامات السخط والغضب والتفكير في طلب الطلاق! لكن أخاها حازم بمهارة القانوني: (يهزّ رأسه رافضاً بشدّة قائلاً: كل حاجة باسمه ولست حاضنة! … رواية عتبات السلطان: ص 61)، ويعمل على تهدئتها لإعادة هذا الرابط والمقاربة بين المادي والمعنوي: (لازم تقعدي وتتكلمي مع نبيل يا سوسن)، ويصرّ نبيل بصمود ودأب على موقفه: (أحتاج أقعد وحدي هنا في بيت والدي يومين أو ثلاثة أيام … رواية عتبات السلطان: ص 57).
الاختيار بمحض إرادته تجريب معايشة هذه النقطة المركزية مع الروحانيات، وإعطاء النفس إجازة من دوامة العمل في
العيادة لملء الحصالة بالمال، وسوسن تضيف الأرقام في أجندتها الحمراء، المواجهة نجحت في آخر الأمر لصالح نبيل وهدان الذي عبر من خلاله النص والناص أن الانتصار دائما في الوجود الإنساني لكل روحاني، لأن الإنسان في هذا الوجود في غربة وسفر ولابد أن يدرك أنه في حاجة روحية تصله بجذوره وأصوله حيث البقاء الأبقى.
المستوى اللغوي والبلاغي عتبات السلطان:
خليل الجيزاوي في روايته “عتبات السلطان” يُؤسّس دلالة هذا النص من خلال الاتكاء على انتقاء في المفردات الدالة والتراكيب التصويرية التي تجعل القارئ المتلقي يتشارك مع النص بحواس مختلفة حيث للسمع وللبصر وللشم، فضلا عن التشارك الروحي والنفسي والذهني، الورقة الحمراء التي يدسها في جيب عم حمزة السايس تشير إلى الورقة النقدية ذات الخمسين جنيها، وكذلك خروشة صوت الشيخ محمد رفعت التي تستدعي من الذاكرة جملة من المشاعر والروحانيات والذكريات التي لا توجد ولا نشعر بها إلا ونحن نستمع إلى تلاوة الشيخ رفعت بهذا النوع وهذا المستوى من الصوت، أيضاً نجد روائح البخور، ورائحة المسك الأبيض، السواك الذي يعطر الفم، وصوت الوالد الذي ينبعث من الذاكرة مصليّاً على النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – بصيغ تتفتح معها مسام الروح التي تهفو إلى السكينة والاطمئنان والاستقرار، مثل دعاء صلاة الفرج المتواشج مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الصلوات التي كان يرددها الأب بلسان رطب بذكر الله، الذي كان لا يكف عن أن يردد تلقائيا: (يا روايح الجنة هلي علينا، بركاتك يا سلطان بركاتك يا حنفي، اللهم لا تحرمنا شفاعة نبيك المصطفى وأكرمني بزيارته والسلام عليه واكتب لي وللأحبة الصلاة في الروضة الشريفة اللهم لا تحرمنا متعة النظر إلى وجهك الكريم مدد يا الله مدد يا الله..)، وعندما يتذكر زميلته في كلية الطب: (يتذكر لون قميصها الأبيض والجيب الزهري الذي كانت ترتديه وهي تقف بجواره في معمل التشريح. يومها أنسته رائحةُ عطرها المتميزة رائحةَ الفورمالين النفاذة التي تحفظ جثث الموتى في حوض التشريح، يغمض عينيه كي تحفظ ذاكرته هذه اللقطة النادرة بامتياز، يفتح عينيه وينظر ناحيتها طويلا، ثم يغمضهما حتى تظل هذه اللحظة الاستثنائية مشرقة ومضيئة داخل حجرات قلبه … رواية عتبات السلطان: ص 23).
المحتوى السردي في النص الروائي “عتبات السلطان” مكتوب بلغة عربية فصحى خالية من المحكية المصرية الشعبية “العامية”، المجازات سلسة غير مركبة، لا تعقيد فيها ولا غموض؛ لأن الصراع الدائر على أشده بين الحنين إلى الروحانيات والنفس المشدودة إلى الماديات وطغيان رغبات الزوجة، وهذا نجاح يحمد لخيال الناص الروائي خليل الجيزاوي، ففي بعض المواقف التي يراد فيها التعبير عن ردّ فعل تعبر فيه شخصية من الشخصيات عن وجد أو غضب لا نجد حرجاً لغوياً تأباه الأخلاق، يُعبّر الكاتب عن ذلك بلغة وبأسلوب تشبيهي أو كنائي دال، أثبت الكاتب قدرته على أن يُقدّم لنا دقة وواقعية لغوية، بألسنة شخوص العمل، بمستوياتهم الاجتماعية المختلفة وهم يتحدثون أو يتصارعون، من خلال هذا المستوى اللغوي الفصيح، الطبيب وعم حمزة السايس والشيخ صالح العارف بالله، وإمام مسجد سيدي السلطان الحنفي والأبناء، وأم محمود التي تساعده في تنظيف شقة السيدة زينب … الخ.
اعتمد الكاتب على أن تظهر مفردات النهم المادي لدى حبيبته التي لم يتزوجها في مقتبل شبابه، وقد تخيرت ألا تكمل دراستها في الكلية وقرّرت السفر للخليج متزوجة ثرياً مصرياً فضل عليها الشغالة، ثم طلقها؛ لتعود إلى مصر بخفي حنين لتكمل دراستها وتعمل مدرسة؛ لتجد ما تقتات به في طواحين المادة، كما تجلّى النهم المادي لدى سوسن/ الزوجة، وعباراتها وانفعالاتها النفسية، خصوصاً بعدما تأكدت أن زوجها الدكتور نبيل لم يعد يطيق القيام بدور الثور الذي يدور مغمض العينين في ساقية، فالانتقاءات اللغوية دقيقة والتشبيهات وكذلك الكنايات دالة معبرة.
في الخطاب الروائي لرواية عتبات السلطان جمله لا يستهان بها دلالياً من التشبيهات التي تقودنا إلى تغذيه وعين القرائي بعتبات السلطان للكاتب خليل الجيزاوي، فصورة والده الثمانيني في الصف الأول؛ إذ يحرص دائماً على أداء الصلوات في أوقاتها، الفروض الخمسة بالصف الأول في مسجد السلطان الحنفي، ذات مغزى لا يحق للقارئ الفاحص أن يتجاوزه؛ لأنه في هذه السن يتحمل صعود كل هذه العتبات، دون أن يشكو من تعب، يروح ويجئ ويصعد بعد الفرض عائداً للبيت؛ ليعود وينزل من البيت؛ ليصعد عتبات المسجد من جديد، لأداء الفرض الجديد، هذا يشي إلى شباب الروح وفتوتها وقوتها، ذلك النوع من الطاقة هو ما ترسله تلك الصورة لهذا المشهد البصري الحركي في “عتبات السلطان”، نبيل بطل الرواية يأتيه صوت أبيه من فيض الذاكرة وهو يُحذّره من غواية الدنيا بصيغ بلاغية نجد فيها حضوراً تشبيهيا: (يا ولدي إياك أن ترمح وراء الدنيا! الدنيا امرأة جميلة باهرة الجمال، تسرّ وتخطف الناظرين، تمشي أمامك في غنج ودلال حتى تبهرك وتغويك، ويظلّ الرجل يرمح وراء المرأة الجميلة التي يشتهيها، وتظلّ المرأة تلعب بالرجل، تغمز له بعينيها مبتسمة، وترمح أمامه، ويظلّ يرمح وراءها طوال عمره، ترمح أمامه، فيرمح وراءها، حتى يرث الهم والشقاء، المرأة دنيا ترمح أمامك مثل النداهة، إياك يا ولدي إياك أن ترمح وراءها سيضيع عمرك ويشيب شعرك، وستعرف بعد ضياع العمر أنك كنت تجري وترمح خلف سراب الماء في الصحراء… رواية عتبات السلطان: ص15).
عنقود بلاغي تشبيهي في المتن الحكائي غرضه الإبانة الذهنية والنفسية والروحية، تغزل بحنكة من الحكي الواصف المتزن للتخلص من الشقاء النفسي الذي تعانيه كل ذات منفصلة عن زاد روحي واع بأن اللهاث خلف المادة هو لهاث خلف سراب الماء في الصحراء، وهذا تشبيه امتصه الناص من القول القرآني في الآية التاسعة والثلاثين من سورة النور، الآية تضمنت خطابا إلهيا لمن انشغلوا بدنياهم منصرفين بأنانيتهم المادية عن أخراهم:”أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه”.أيضاً من الصور التي استوقفتنا في هذا النص صورة نبيل وهو يصعد عتبات مسجد السلطان الحنفي وهو في الخمسين من عمره في مواجهة ذهنية قرائية مع صورة والده الثمانيني وهو يصعد عتبات المسجد، فالخمسيني في صعوده لمرة واحدة يعاني مشقة بالغة، لم يكن ليشعر بها والده آنذاك، مّما يعني أن شخصية نبيل وهو في هذه المرحلة العمرية، بعد كل هذه الأعوام، لم يلتزم بما يجعل روحه شابة فتيّة تمنح الجسم طاقة مذهلة.(آه يا سوزان يا نسمة العصر الحانية بعد يوم صيف طويل ساخن! … رواية عتبات السلطان: ص 11).تشبيه يتضمن في نسيج بنيته على كلمة العصر، التي تضيف إلى وعينا المستغرق في حنو النسيم العصري، ما يجعلنا نتعاطف مع د.نبيل الذي تعتصره مطرقة الذكريات التي يحن إليها وسندان الحاضر بعنفوان ماديته التي لا ترحم!
حيث كانت زوجته التي ظن أنها ستعوضه معشوقته سوزان إمام التي لم يتزوج بها، كانت الزوجة: (تتبدل كثيراً طوال سنوات السفر عشر سنوات لم يشاهدها تقرأ لإحسان عبد القدوس، فقد كانت معجبة به كثيراً، وتطلب أن يشتري لها إحدى رواياته، ولم تعد تقرأ نزار قباني شاعرها المفضل والمحبب والأقرب إلى قلبها..)، ويضيف إلى نسيج صورتها في محكاه التوصيفي الدال: (في السنوات الأخيرة كان كلّما ينظر إليها ينظر ناحية زوجته يتخيّل وجهها، يشبه شاشة وجه مفاتيح الآلة الحاسبة، حتى باتت تفاصيل ملامح وجهها تشبه شاشة الأرقام والعلامات الحسابية (= + – ÷ ×)، الزوجة تتغيّر بفعل المادة، وهو أيضاً: (نسي وصية والده بضرورة المحافظة على عيادة الناصرية، وأن يكون ثمن الكشف فيها رمزيا، حتى يتناسب مع أهل أحياء الناصرية والسيدة زينب وعابدين، أهله وناسه الذين عاش وتربى وسطهم … رواية عتبات السلطان: ص21).
ختاماً وبعبارة أخيرة: عود على بدء
رواية “عتبات السلطان” للكاتب الروائي خليل الجيزاوي هي مكانية بالدرجة الأولى، تبحث عن كل مكانية يتواشج فيها المحتوى الروحي والاستقرار النفسي لإدراك الحاجة الروحية، وهذا ما عبر عنه الكاتب في الصفحة السابعة بالاستهلال بكلمات من إنجيل متى: “سعداء هم الذين يدركون حاجتهم الروحية”؛ ولعل معرفتنا باسم صاحب العتبات التي اجتذبت بطل الرواية وأباه من قبله تؤكد هذا الاتجاه في استبصارنا للنص.
“عتبات السلطان” كتابة مُهمّة بكتاب مُهمّ في لحظة فارقة من واقع الإنسانية، يلهث فيها زعيقُ متطلبات المادة والجسد وراءَ وسائل تحقيق تلك المتطلبات، بممارسات تستسلم لوطأة الملذات والماديات، فالنص الروائي “عتبات السلطان” مع روائع الإبداع الروائي في درجة مهمة من الدرجات الأولى التي نعدها فاصلة منقوطة لاستئناف السرد الإنساني بـَوْحَـهُ بصراحة جمالية فنية، تـُقـدر للفن الروائي أصوله وقواعده، مع مـُراعاة متطلبات التفرد، والمغايرة الإدهاشية، وهذا ما تجلت أصداؤه في هذا الخطاب الروائي الذي لم تُقل بعد الكلمة الأخيرة في فهمه وتأويله؛ لأن النص- في ضوء نظريات التواصل يسمح لكل قارئ في كل عصر أن يخلع عليه قرائيا ما يغذي وعيه، متحاورا بكل المحبة للغة لهذه الكتابة السردية المائزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش: سيدنا السلطان محمد الحنفي لقب بقاضي حوائج المصريين، واسمه: شمس الدين محمد الحنفي، الملقب بالسلطان الحنفي، ولد عام 775 هـ وتوفي عام 847 هـ عن عمر ناهز 72 عاماً، ومّما اشتهر عنه أنه صاحب الكرامات، صاحب البئر، ولقب بالسلطان الحنفي لأنه لم يكن للملوك سلطان عليه، كانت كلمته نافذة لدى الحكام، يقال إن الملك الظاهر “جقمق “كان يكرهه ويقول لجلسائه: إنّي لا أقبل؛ لهذا الرجل شفاعة، ومع ذلك يرسل له السلطان الحنفي الشفاعات، فيقضيها الملكُ الظاهر جقمق ويقول لمن حوله متعجباً: أنا لا أستطيع ردّ شفاعة هذا الرجل، بل أقبلها، وأتعجب من نفسي، يقال إن السلطان الحنفي الملقب بقاضي حوائج المصريين كان جميل الهيئة، حسن الثياب، لا يهمل مظهره، ويقال إنه نصح زوجته بألا تتزوج من بعده وقال لها: من تزوج بك خرِبت ديارُه، وأنا لا أحب أن تكوني سبباً في خراب ديار أحد”؛ ولمن أراد أن يستزيد من مناقب سيدنا السلطان الحنفي فهناك كتاب “الروض النسيق في علم التصوف” من مؤلفات السلطان الحنفي؛ ليعرف أكثر وأكثر عن أسرار أنوار أفكار سيدنا السلطان الحنفي، ويقرأ أيضاً كتاب “السر الصفي في مناقب السلطان الحنفي” تأليف علي بن عمر البتنوني.