قراءة في قصيدة (الرسالة) للشاعر وليد صفاء
د. جمال فودة | عضو الاتحاد العالمي للغة العربية – كاتب وناقد من مصر
في هذه القصيدة أكثر ” وليد صفاء” من استدعاء الشخصيات التراثية والرموز التاريخية المختلفة، مجسداً من خلالها رؤيته الشعرية في إطار فني ثري بالإيحاءات والإيماءات الرامزة التي تدفع المتلقي للمشاركة في إنتاج الدلالة، وتستثير ذهنه لاستيعاب أبعاد التجربة نفسياً ودلالياً. إن استلهام الشاعر للأعلام يأتي كأصوات إضافية تحمل إسقاطات دلالية على الواقع المعيش، حيث يلتحم سياق الماضي بالحاضر ليوحي بأبعاد المفارقة، ومن ثم كانت أكثر الشخصيات التي يستدعيها “وليد صفاء” تدور في إطار التعبير عن تردى الواقع الشخصي/ الاجتماعي، سعياً لإيقاظ الضمائر واستنهاض الهمم واستنفار العزائم لمواجهة طوفان الضياع بشتى صوره وأشكاله. يقول:
وَجَعُ النبوَّةِ مُستباحْ
وبهِ تعاليمُ النبوةِ
مُثـْخـَنـَاتٌ بالجـِراحْ
فبلا “سليمانَ” الغمامُ بهِ تــَحكـَّمَ في الرِّياحْ
إن الشاعر في رصده الواقع ومزجه بالماضي يحقق نوعاً من الوحدة الدلالية / النفسية ويكسب الكلمات ثروة معنوية واضحة، ويملأ المضمون بشاعرية لا تتوافر بدونه، فغياب الحق أفسح المجال للباطل، وأصبح الحاكم محكوماً! وخلا الجو للقبرة لتبيض وتصفر، فالصياد في سبات عميق، فماذا تحذر؟
يا أيُّها النملُ اخرجوا
خَلـَّى “سليمانُ” البـِطاحْ
ومن ثم، فإنه على قدر وعى الشاعر بملابسات الواقع الذي يعايشه، وإدراكه لأبعاد العلاقات بين أفراده، يتضح موقفه الفكري إزاءه، وتتحدد رؤيته له، ويتجسد تعبيره عنه.
والبئرُ قـُربَ القصرِ
“يوسفُ” تحتهُ يبكِى وحيدْ
لِـيحِلَّ مِن بئرٍ مُعطـَّلةٍ
إلى قصرٍ مَشِيدْ
أبفِعْـلِ ذِئبٍ أمْ مِن امْرَأةِ العزيزِ الثوْبُ قـُدَّ
فلتـُحْضِروا الذئبَ الذي
بـِحَشاهُ يوسُفُ مَا ترَدَّى
وابْكـُوا عِشاءً ، واجْعَلـُوا :
(بـِحَشاهُ يوسُفُ مَاتَ) رَدَّا
في إطار استدعائه لأسماء الأنبياء يخفق الشاعر ـ أحياناً ـ في توظيف الشخصية المستدعاة توظيفاً فنياً في بنية النص، إذ يكتفي بالاتحاد بها والتحدث بلسانها، ومن ثم تطغى الملامح التراثية وتعجز عن الإيحاء بأية دلالات معاصرة، فتتحول القصيدة إلى عملية سرد تقريرية، ويغدو صوت الشخصية أعلى من صوت الشاعر، فتنكسر عملية الامتزاج بين ما هو معاصر وما هو تراثي في تجربة الشاعر.
في هذا المقطع لم يستثمر الشاعر أحداث قصة سيدنا (يوسف) عليه السلام بتمثل إيحاءاتها في إطار تجربته الشعرية، واكتفي بمعايشة الماضي من خلالها؛ ولذلك فقدت اللغة الشعرية حضورها الفني، إذ تحول الأداء التراثي إلى مجرد سرد تسجيلي لأحداث القصة المعروفة، دون أن يوحي بإشارة أو رمز إلى دلالة معاصرة يلتحم في سياقها الغائب والحاضر على نحو ما، لقد آثر الشاعر أن يعرض التاريخ لا أن يستنطقه ويستثمره استثماراً يربطه بالواقع المعاصر ويجعله أقدر على بلورة الرؤية وإثراء الدلالة.
هذا أَوانُ تواجُدٍ
فاذهبْ هُنا، وانفـُضْ غِيابَكْ
واقفِزْ بقلبِ النـَّارِ
إنَّ لِسانَها يَرْوِى تـُرابَكْ
واحلـُمْ فإنَّ الماءَ في النيرانِ مُنـْتـَظِرٌ
متى التـَّنـُّورُ فارْ
لليلِ أَذرُعُهُ التي سَيلـُفـُّها فوْقَ البلادْ
والحَتـْفُ يُبْصِرُ وَحْدَهُ
باللـَّيلِ خاطفـًا العِبادْ
وأنا، وأوطانِي، وأنتمْ
قد بُعِثنا مِن رُقادْ
حِبْرًا على وَرَق ٍ سُكِبْنا
فاحْتـُبـِسْنا في جَمادْ
والصدْقُ ما “إدريسُ” خَط َّ
على الرِّمالِ، وبالمِدادْ
فالشِّعْرُ يَعْذُبُ حينَ يَكذِبُ
رَافِعًا ذاتَ العِمادْ
يا ليْتَ “هِنـْدًا” أَقبَلتْ
يا ليْتَ ما بانتْ “سُعادْ”
لمَّا فتحْنا أَرْضَنا
لِثمُودَ ثـُمَّ لِقوْمِ عادْ
بِتنا نـُعَاقـَبُ
في سبيلِ الأرضِ بالدَّمِ والجَرادْ
ماتَ الضميرُ بسَكْتـَةٍ
فعَلـَى الحُدودِ قِفوا حِدادْ
كُلُّ الليالِي أبْحُرٌ
وسفينة ُالأحلامِ تأبَى
ألقتْ بِيونـُسَ نحْوَ حُوتٍ
مِنهُ في الظـُّلـُماتِ لبَّى
وَرَمَتْ على الجُودِيِّ
أزْوَاجًا وفاكِهَة ً وَأَبَّا
وَجَرَتْ مَعَ المَجْهولِ
واتـَّجَهَتْ لـَهُ شَرْقـًا وغَرْبا
فنـَجَتْ سفينـَة ُنوح ٍالسَّمْحَاءُ
مِمَّنْ رَامَ نـَهْبا
فوَرَاءَهَا مَلِكٌ
سيأخذ ُكلَّ سُفـْنِ الأرْضِ غَصْبا
في هذا السياق يتخفف الشاعر من الأداء الخبري في اتساقه و انتظامه ، ويلجأ إلى الأسلوب الإنشائي ـ حتى لا تتحول التجربة إلى حكاية سردية ـ الذى تعددت أشكاله ما بين الأمر في ” اذهب ، انفض ، اقفز ، احلم ” والتمني والنداء في” يا ليْتَ هِنـْدًا أَقبَلتْ ، يا ليْتَ ما بانتْ سُعادْ”، و ومن ثم فإنه يعيد بناء قضيته مضفورة بالتاريخ و الدين و الواقع المعاصر ، و بهذا الصنيع يؤصل الشاعر تجربته المعاصرة عن طريق ربطها بجذورها وأصولها العميقة ، فيتخذ الشاعر من الخلفية التاريخية إطاراً لصورة فنية ثرية الإيحاء تفوح بشذا الماضي ، ليعبر من خلالها عن هموم الواقع، و صراعه بين الأمس و اليوم ، في انتظار تحقيق الحلم حين يعيد التاريخ نفسه ، و هذا كله مرتبط بسفينة نوح (سفينة الأحلام ) التي تشق طريقها نحو ( الجودي) بحثاً عن المرفأ والمهرب من ( ملك يأخذ كل سفينة غصبا!
هذا وقد جاء استخدام الشاعر لأسماء الأعلام / الرموز متتابعاً مكدساً في بنية القصيدة، الأمر الذي حال دون توظيفها فنياً داخل بنية العمل الشعري، ذلك أن الحشد يعنى دائماً الازدحام لعناصر لم تدخل طاحونة التجربة الشاعرية بعد، ولم تعمل فيها قوانين التحليل والتركيب الخاضعة للشعور واللا شعور، بحيث تظل هذه العناصر مادة أولية ناجزة ترتبط بأجوائها الدلالية، مما يصعب مهمة الشاعر في توظيفها داخل النص الشعري.
وقد وقع “وليد صفاء ” في هذا المزلق أكثر من مرة خلال النص؛ إذ أثقل كاهل القصيدة بأسماء / رموز لأعلام مختلفة هي “سليمان، بلقيس، يوسف ، عثمان ، أبى بكرٍ، أهْلُ الكهْفِ ، الحُسَيْن، يَزيد ، ابنِ الوليد ، إدريس ، ذاتَ العِماد ، هِنـْد ، سُعاد، ثمُود، يونـُس ، نوح ، الخلِيل ، يَحْيَى ، مَرْيَم ، أمُّ موسَى ، امْرَأةِ العزيزِ ” الأمر الذى حال دون انصهارها في بوتقة التجربة ، ومن ثم ضعف إيحاؤها بسبب التقريرية والمباشرة ، وظلت مجرد إشارات عابرة لا تخدم التجربة قدر ما تنال من عمقها وحيويتها .
معنى هذا ” أن الشاعر سقط أسيراً لرموزه التي جلبها من التراث، وهي تترى على نصه الشعري وتتزاحم، الفاعل منها وغير الفاعل، الواضح منها والغامض، دون مراعاة لأية تناقضات تمنع صورها من التآخي بالتناظر أو بالتقابل أو بالتفاعل بين سائر عناصر تجربته الشعرية.
ومهما يكن من أمر، فإن أسماء الأعلام تعد إيماءات ذات دلالات إيحائية تثرى بنية النص الشعري، وتكشف عن روافده التي يتعذر إدراك مضمونه إلا بالوقوف على منابعها وسبر أغوارها التي تتوارى في أعماقها أفكار الشاعر ورؤاه، الأمر الذي يكشف عن طرائق التعبير المختلفة لدى الشاعر، والتي يسعى من خلالها إلى إثراء بنية تجربته الشعرية وتجسيد أبعادها.